البحث العلمي في سنوات غزة العِجاف.. محاولات مُجَهدة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
خلال سنوات الحصار المريرة على قطاع غزة، مع ضعف الإمكانات والتمويل، ذهب الباحثون خصوصاً في مجال العلوم التطبيقية باتجاه أبحاث لا تتطلب المختبرات أو إجراء تجارب في العموم، مما أضعف البحث العلمي فيها وألبسها لباس العلوم الإنسانية من حيث المنهجيات وأدوات البحث. غالبية المراكز البحثية تتجه في الوقت الراهن نحو المسوح والاستطلاعات والاستبيانات، ومعظمها بعيد عن مجالات البحث العلمي التجريبي. كما أن العديد من أساتذة الجامعات اتجه إلى توفير مصدر دخل لهم من أعمال خاصة واستشارية خارج أسوار الجامعات بسبب الضائقة المالية المستمرة، مما أثَّر سلبا على الطلبة، وأفقدهم التوجيه السديد وجعل أبحاثهم سطحية. يضاف إلى ذلك عدم تخصيص ميزانية للبحث العلمي من قِبل الحكومة الفلسطينية سواء في غزة أم الضفة، وكذلك من قِبل الجامعات والقطاع الخاص. باتت ثقافة البحث العلمي مشوهة، والآفاق أمام طلبة الدراسات العليا مسدودة، فلا أحد يتبنى جهودهم على المستوى المحلي، وفي معظم الأحيان لا يعدو الأمر أن يكون هالة إعلامية تحيط بفائز بجائزة ما لفترة عابرة.
|
 |
البحث العلمي في جامعة الأزهر |
عام يجرّ عامًا والأزمات السياسية والاقتصادية في قطاع غزة تراوح مكانها، هذا إن لم تزدد سوءاً.
و كــ "ليلة بلا قمر" وفجر لم يأتِ بعد.. المشهد معتم ؛ وكفيل بأن يوّحد تطلّع طلبة الدراسات العليا والباحثين عمومًا، فقد صار الانتقال إلى فضاء رحب خارج أسوار غزة، عند أغلبهم، "يوم المُنى".
مسدودٌ طريق الحصار وزمنه طال، ومن نتائجه شح التمويل اللازم لإجراء الأبحاث العلمية.
ففي "البقعةٍ" التي غضبت عليها "إسرائيل" والمجتمع الدولي، طالبُ العلم الغزيّ مُجبر على تغطية تكاليف بحث لائق من جيبه الخاص، وقد لا يتوفر لهذا الباحث مصدر دخل. وحتى لو تسنّى له إنجاز بحثه فإن مقومات صموده في حقل البحث العلمي ومهما بدا فذاً شبه معدومة.
ومع ذلك، بشق الأنفس تستمر المحاولات التي تتحدى ظروفًا قاهرة يعيشها سكان القطاع، وإن كانت بالحد الأدنى لدى بعض الباحثين، والمؤسسات الأكاديمية.
لباس العلوم الإنسانية
"لقد انهارت العديد من القطاعات الحيوية في غزة، وكان من المفترض أن تخضع للبحث العلمي من أجل حل مشاكل بدائية تجاوزها العالم منذ سنوات".
بهذا يبدأ حديثه أ.د. عزام أبو حبيب الذي يعمل محاضرًا في برنامج دكتوراة "تكنولوجيا المياه المشترك" بين جامعتيّ "الإسلامية" و"الأزهر".
سنوات الحصار حملت عقاباً غاشماً يتعذّر وصفه، وفي هذا الجانب من الحكاية تمثّلت عواقبه على وجه التحديد – وفق رأي أبو حبيب- في غياب التمويل، وضعف الاحتكاك بالعالم الخارجي، أي بين طلبة وباحثي وأساتذة الجامعات المحلية من ناحية ونظرائهم في العالم من ناحية أخرى.
في حين أن حقبة ما قبل الحصار – قبل عام 2007- اقتصرت برامج الدراسات العليا على الماجستير "تلك البرامج التي تُعد الرافد الأساسي للبحث العلمي كانت فَتية طرية العود، وعددها محدود وكذلك طلبتها" يقول أبو حبيب.
وعن السنوات المريرة التي امتدت لــــ 15 عامًا، يخبر "آفاق البيئة والتنمية" بشأنها: "مع ضعف الإمكانات والتمويل ذهب الباحثون خصوصاً في مجال العلوم التطبيقية باتجاه أبحاث لا تتطلب المختبرات أو إجراء تجارب في العموم، مما أضعف البحث العلمي فيها وألبسها لباس العلوم الإنسانية من حيث المنهجيات وأدوات البحث".
ويشير أ. د. أبو حبيب إلى أن غالبية المراكز البحثية تتجه في الوقت الراهن نحو المسوح والاستطلاعات والاستبيانات، ومعظمها بعيد عن مجالات البحث العلمي التجريبي.
وتبعاً لحديثه، اتجه أساتذة الجامعات إلى توفير مصدر دخل لهم من أعمال خاصة واستشارية خارج أسوار الجامعات بسبب الضائقة المالية المستمرة، مما أثَّر سلبا على الطلبة، وأفقدهم التوجيه السديد وجعل أبحاثهم سطحية.
ولا شك في أن المياه من أبرز المشاكل التي يعانيها سكان قطاع غزة، وبالتالي تحتاج إلى حلولٍ معمقة توصلت أبحاثٌ على قدر من الجودة لجزء منها، بعد أن موّلتها بعض الجهات الدولية، تبعاً لكلامه، مردفًا بالقول: "إلا أن عدد الأبحاث ما زال قليلًا قياسًا بما يحتاجه المجتمع، في حين أن الباحثين عاجزون عن وقف التدهور الكبير في قطاع المياه، بسبب إعاقة الحصار لحركتهم وإنضاج أفكارهم".
ويضيف: "تُقترح الكثير من الأفكار التي من الممكن تمويلها في مجال تحلية المياه وتقوم على التكنولوجيا الحديثة، إلا أنه لا يُسمح بإدخال المعدات".
ويعرب عن أسفه إزاء الانهيار المتسارع للبحث العلمي، "الذي يجب التصدي له بإنهاء الأزمات الاقتصادية الطاحنة في الجامعات، والعمل وفق إستراتيجية واضحة في قطاع التعليم" كما يقول.
ولا يبدو أبو حبيب متفائلًا بالوضع العام، مفسرًا شعوره: "باتت ثقافة البحث العلمي مشوهة، والآفاق أمام طلبة الدراسات العليا مسدودة، فلا أحد يتبنى جهودهم على المستوى المحلي، وفي معظم الأحيان لا يعدو الأمر أن يكون هالة إعلامية تحيط بفائز بجائزة ما لفترة عابرة".

العلوم الطبية المخبرية في الجامعة الإسلامية
ليس بهذا السوء ولكن..
طرأ على البحث العلمي في سنوات الحصار تراجع أخذ وجوهًا عدة، يُبلورها الأستاذ الدكتور فضل الشريف المختص بعلم الجينات الوراثية في جملة من النقاط، استهلها بقوله إن تدهور الوضع الاقتصادي في غزة صعَّب على الباحثين توفير تكاليف المواد الكيميائية اللازمة لإجراء الأبحاث والتجارب العلمية.
ويرى الشريف الذي يدّرس في الجامعة الإسلامية أن إغلاق المعابر المتكرر أدى إلى رفع تكلفة هذه المواد إلى أضعاف سعرها، وتأخر وصولها لعدة أشهر، موضحًا: "بمقتضى الحصار المفروض على قطاع غزة فإن هناك بعض المواد الكيميائية التي يُمنع دخولها إلى القطاع بحجة أن لها استخدامات غير سلّمية".
وحسب وجهة نظره أن مما أعاق البحث العلمي في السنوات الماضية عدم توفر بعض الأجهزة والمعدّات الطبية الحديثة بسبب كلفتها العالية، إضافة إلى تعذر تشغيل بعض الأجهزة المعقدة، لأن الباحثين ليس بوسعهم السفر إلى الخارج لتلقي الدورات التدريبية اللازمة لتشغيلها.
إذن هي "قصة حزينة" بتعبير الغزّاويين، تضاف إلى القصص الكبيرة التي صنعها الحصار، يسرد بقية تفاصيلها بالقول: "وعلاوة على ما سبق توقفت بعض الأجهزة عن العمل نتيجة لعدم توفر قطع الغيار الخاص بها أو نفاد المواد الكيميائية الهامة لتشغيلها".
وبدوره حذَّر د. الشريف من سلب الباحثين حق حرية الحركة، ما يحول دون مشاركتهم في المؤتمرات العلمية خارج البلاد وتواصلهم البنّاء مع العلماء والباحثين من أهل الاختصاص.
ويشدّ "ألف خط" تحت بند يدعو للقلق، مفاده "عدم تخصيص ميزانية للبحث العلمي من قِبل الحكومة الفلسطينية سواء في غزة أم الضفة، وكذلك من قِبل الجامعات والقطاع الخاص".
وبخصوص تواصل الجامعة الإسلامية مع جهات مهتمة بتمويل البحث العلمي من أجل إحراز تقدم في هذا الجانب، يفيد د. الشريف بأن مكتب العلاقات الخارجية في الجامعة لا ينفك عن متابعة الأمر مع الجهات المهتمة في هذا الصدد، ويسعى على الدوام إلى التشبيك ما بين هذه الجهات من جهة؛ والعاملين في المجال الأكاديمي والباحثين في المراكز البحثية القائمة في "الإسلامية" من جهة أخرى، وذلك بــ إطلاعهم على الفرص التي توفرها المؤسسات المانحة سواء كانت على شكل منح بحثية أم فرص تدريب في الخارج.
"ما مدى دقة أن هناك انهيارًا بحثيًا في المؤسسات الأكاديمية في قطاع غزة".. يجيب عن سؤالي بالقول: "الوضع برأيي ليس بهذا السوء، لدينا عدد لا بأس به من الباحثين الّذين يُسخرّون كل الموارد والإمكانات المتاحة لإجراء الأبحاث العلمية في مجال تخصصاتهم وإن لم تكن بالمستوى المأمول".
ومن المَنافذ التي يوصي بها للخروج من مشكلة ترهل البحث العلمي، التوجه لممثلي القطاع الخاص مثل الشركات الخاصة أو البنوك وعقد شراكات معهم لدعم البحث العلمي.
وما ينكأ الجرح وفقًا لتعبيره تدّني الرواتب لمعظم الأكاديميين، موضحًا: "بصراحة.. أكبر هم لدى الباحث هو كيفية توفير مقومات الحياة لأسرته، وبطبيعة الحال تراجعَ اهتمامه أمام أولويات أكثر إلحاحاً".
وفيما إذا كانت المراكز البحثية تقوم بدورها كما ينبغي، يقول إن بعضًا منها لا يألو جهدًا للاستفادة من كل الفرص لدعم البحث العلمي، وتسخير ما يتوفر من موارد لأجل الارتقاء به، وفتح قنوات مع الجهات المانحة.

العلوم الطبية المخبرية في الكلية الجامعية للعلوم والتكنولوجيا
أين التعاون بين الجامعات؟
محمد حميد؛ طالب ماجستير في قسم التصوير الطبي سيتخرّج قريبا، أنجز بحثًا تدور فكرته حول "تطوير أنموذج صناعي من الزجاج الواقي من الأشعة الخطرة من المخلّفات".
واجهَ العديد من الصعوبات، وعلى رأسها عدم توفر عدد من الأجهزة في جامعة الأزهر التي يدرس بها لإجراء الفحوصات المخبرية، فلجأ إلى مختبرات وزارة الزراعة، فضلًا عن عينات أخرى اضطر لفحصها في مصر بثمن باهظ بالنسبة لطالب يعيش في بلد مُحاصر.
مشروع بحث محمد حميد كان الوحيد الفائز من قطاع غزة بمنحة مقدمة لباحثين على مستوى فلسطين لديهم أبحاث تطبيقية قادرين على تحويلها إلى منتج محلي قابل للصناعة، وتُعد هذه المرة الأولى التي يُصنَّع فيها زجاج من هذا النوع في فلسطين، وهو أنموذج منافس لمثيله من الزجاج المستورد والمستخدم في المستشفيات ومراكز الأشعة التشخيصية، كما يفيد.
لمس في تجربته صعوبة شح الإمكانات، والتي يشرحها بقوله: "الفرن الكهربائي المتوفر في مختبرات الجامعة متواضع المواصفات، وكان لزاماً علي أن أبحث عن فرن أفضل وبدرجات حرارة أعلى، وبعد عناء عثرت على فرن يعود لمعمل أسنان يملكه صديق لي مجانًا لإجراء تجاربي، وتعطّل الفرن أكثر من مرة فتكبدت تكاليف صيانته كاملة، كما استغرقتُ وقتا في البحث عن نوع زجاج يناسب إمكانات الفرن المتاح".
والمفارقة، أن نوع هذا الفرن يتوفر في جامعة أخرى بغزة، لكنها طلبت من محمد لقاء استخدامه 100 دينار في اليوم الواحد، لذا لم يتردد في توجيه رسالة عتاب إلى رؤساء الجامعات، وفحواها: "لتُفتح مختبرات الجامعات أمام الباحثين كافة، حتى يستفيد الجميع عبر اتفاقية تعاون مشتركة تضمن تقليل الصعوبات التي تعترضهم".
"ماذا ينقص إنجازك؟".. يحكي لــنــا: "تمنيت لو أن التمويل الذي تلقيته كان يكفي لصنع لوح زجاج كبير يصل إلى متر مربع، لعله يصبح بديلًا عن الزجاج المستورد وبتكلفة قليلة ومنافسِة للزجاج المستورد، وما يثلج صدري أن هذا الأنموذج يمكن أن يكون باكورة لصناعة الزجاج في فلسطين، خاصة أنه لا يتوفر مصنع لتصنيع أي نوع من الزجاج في غزة".
سألناه إن كانت فكرة السفر إلى الخارج تراوده لتحقيق أهدافه البحثية، وكان جوابه: "الفكرة واردة بالتأكيد؛ طالما أننا نرغب في تطوير مثل هذه الصناعات، فلا بد من زيارة المراكز البحثية ومصانع الزجاج الحديثة والاستفادة من خبراتهم لتطبيقها هنا".
وفي السياق نفسه يضيف: "لا غنى عن السفر عند كل باحث يرفض أن يقف مكتوف الأيدي أمام منع الاحتلال دخول الأجهزة والمعدّات الحديثة، كي ينفّذ بحثا وفق المعايير التي تحددها المجلات العلمية المُحكَّمة".
ويؤكد أن التخلص من الحصار الخانق لقطاع غزة والذي يفرضه الاحتلال الإسرائيلي بشدة منذ عام 2007 يتأَّتى بواسطة تصنيع كل ما هو ممكن من المنتجات المستوردة، وذلك لا يتحقق إلا بدعم الأبحاث التطبيقية التي من شأنها أن تنعش الوضع الاقتصادي، وتتيح فرص العمل للخريجين وتقلَّل من نسبة البطالة.
وكأي شاب، يؤلم محمد سوء الأوضاع السياسية والاقتصادية التي ألقت بظلالها على جامعات بالكاد تفي بالتزاماتها تجاه موظفيها وطلبتها، مستطرداً: "في إثر ذلك كله، غاب عن المشهد تطوير المختبرات وتحديث أجهزتها، مما زاد من معاناة الباحث عند اختيار البحث الذي ينوى دراسته، إذ يستغرق أيامًا وشهورًا في البحث داخل الجامعات وخارجها ليتقصّى عن توفر الإمكانات اللازمة".
ويلقي باللائمة على وزارة التربية والتعليم العالي لتقاعسها عن دعم البحث العلمي وإنشاء مراكز بحثية تخدم أهدافه، خاتمًا حديثه: "لو أن الإمكانات المطلوبة تهيّأت لي في أثناء دراستي لأجريت عدداً لا بأس به من البحوث التي ربما كنت قد حصلت في بعض منها على براءة اختراع، وها أنا وضعتها في خانة "الأفكار المؤجلة" إلى أن تُتاح الموارد".
نقاط بحثية فارقة
لم يكن أحمد طبازة وهو طالب دكتوراة في جامعة الأزهر في تخصص الكيمياء أحسن حالاً.
هذا الشاب الطَموح يشكو أيضاً نقص المواد الكيمائية والأجهزة الخاصة التي تتطلبها بعض الأبحاث، "ولا ننسى أن العيّنات تفسد حين خروجها عبر المعابر بهدف استكمال بعض الفحوصات" يقول طبازة.
وبسبب تلك العقبات حاول استئناف الدراسات العليا في الخارج مثل جمهورية مصر العربية، إلا أن ما يكابده شباب غزة في السفر اضطره لصرف النظر عن رغبته.
وجدير بالذكر أن الفرصة سنحت لأحمد، ونشر أبحاثه مرتين في مجلات علمية مُحكّمة، إلا أن أصعب ما في التجربة- والكلام له- أن تلك المجلات تشترط نقاطاً بحثية فارقة تتطلب الكثير من الإمكانات التي تكاد تكون غير متاحة في قطاع غزة.
وحسب رأيه أن الجامعات في القطاع المحاصر تحاول قدر المستطاع استنهاض البحث العلمي بتنظيم المؤتمرات، إلا أن هذا ليس كافياً لانتشاله مما هو فيه.
ويتمنى طبازة من أعماقه رفع الحصار حتى يشارك في المحافل والمؤتمرات العالمية التي تتيح تبادل الخبرات على نطاق أوسع.