حبيب معلوف
ما الذي نكتشفه إذا ما أردنا ترجمة مقررات قمة المناخ الـ 26 الأخيرة التي انعقدت في غلاسكو في نوفمبر الماضي، لجهة مستوى الخفض المطلوب للانبعاثات، ولجهة ما هو مطلوب من الدول والمجتمعات والأفراد في هذا السياق؟
وكيف يمكن لبلد صغير كلبنان أن يتفاعل مع تطورات هائلة وخطيرة عالمياً يصنّف معظمها "وجودياً"؟
وهل يمكن أن ينتج تشابه الأزمات الوجودية رؤية إنقاذية ما؟
في وقت كانت الدول الـ110 المشاركة في القمة توقّع إعلاناً يتعهد بالعمل على وقف إزالة الغابات بحلول عام 2030، كانت تقارير دولية تعلن "اختفاء مساحات قياسية من غابات الأمازون".
ففي عام واحد (من آب 2020 إلى تموز 2021)، خسرت هذه الغابات 13 ألف كم2 من مساحتها، أي أكبر من مساحة لبنان وضعف المساحة التي خسرتها عام 2018، وبزيادة نسبتها 22٪ عمّا خسرته السنة الماضية.
ومع ذلك، وقَّعت البرازيل، في غلاسكو، التعهد الذي سبق أن وقّعت مثله أكثر من مرة. وكما في كل مرة أيضاً، طالبت بتعويضات لحماية الغابات من البلدان المتقدّمة والغنيّة من دون أن تحصل عليها.
لذلك استمرت وتستمر في سياساتها غير المبالية، ما يعني أن مقولة "غابات الأمازون رئة العالم" لا ترجمة فعلية لها في سياسات هذه الدول، وإلا لكان ما حصل هذا العام بمثابة "جريمة إنسانية".
فيما يبدو كأن هذا العالم يتواطأ ضمنًا مع الحكومة البرازيلية، وأن المشكلة ليست في رئيس جمهورية غير مقتنع بتغير المناخ ووعد بمزيد من القطع وإزالة الغابات لـ "مصلحة" الزراعة وتربية المواشي والتنقيب عن موارد أثمن.
وما يؤكد هذا الاعتقاد أن دولاً كبرى ممن تشكو هذه السياسات البرازيلية تستورد كميات ضخمة من اللحوم والصويا من البرازيل التي ما كانت لتنتج مثل هذه الكميات لولا إزالة الغابات.
ورغم تأكيد مجلة "نيتشر" العالمية في عددها الأخير (تموز 2021) أن غابات الأمازون باتت تشكل مصدراً للكربون لا "بالوعاً" له كما كانت تاريخيًا، لم يحرك ذلك أيًا من الدول بشكل جدي واستثنائي، ما يعني أن كل إعلان عن تعهدات بوقف إزالة الغابات، مجرد كلام في الهواء ما لم يصاحبه تغيير جذري في الأنظمة الاقتصادية والتجارية والغذائية المسيطرة في العالم.
الأمر نفسه ينسحب على التعهد الثاني الذي وقَّعه المشاركون في القمة حول خفض غاز الميثان بدفع أساسي من الولايات المتحدة. وإلا، ما معنى أن تلتزم 100 دولة بخفض انبعاثات غاز الميثان بنسبة 30% (عن مستويات 2020) بحلول عام 2030، من دون أي توضيح عن أي من القطاعات سيكون مستهدفاً بهذا الخفض، علماً أن المصادر الرئيسة لهذا الغاز هي المنشآت النفطية والأراضي الرطبة والسدود السطحية والنفايات والزراعة والتربية الحيوانية.
لذلك، إذا كانت الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة جادة في هذه الالتزامات، فيفترض أن تبدأ تغيير نظامها الغذائي كونها المستهلك الأكبر للحوم في العالم، وأن تعلن تراجعها عن نموذجها "الحضاري" الغذائي الذي تعولم، والقائم على "الأكل السريع".
علاقة الغابات بالزراعة واستخدامات الأراضي وانبعاثات الميثان وغيره، علاقة عضوية وحياتية، كما هي علاقة كل الأنظمة البيئية على كوكب الأرض، ولا يمكن مقاربتها وإصلاحها أو إعادة التوازن إليها إلا بتغيير الأنظمة (السياسية والاقتصادية) التي تسببت بتهديدها وتخريبها.
إذا انتهينا إلى خلاصة مفادها ضرورة تغيير الأنظمة، أو إعادة الانتظام إلى الطبيعة، فإن حال الانهيار الشامل التي ضربت بلداً صغيراً كلبنان يمكن أن تُعد فرصة للتغيير في هذا الاتجاه.
وقّع لبنان إعلان حماية الغابات في غلاسكو، في وقت سجَّلت الحرائق أرقاماً قياسية للعام 2021. وبحسب آخر إحصاء في وزارة البيئة استند إلى تقييم استخدمت فيه الأقمار الاصطناعية، وقبل إعداد التقرير النهائي المبني على بيانات القوى الأمنية المعنية، أظهر آخر مسح جوي أن حصيلة عام 2021 هي احتراق 2838 هكتاراً، معظمها في الأراضي الحرجية لا العشبية، القسم الأكبر منها في عكار (1600 هكتار)، ومن بينها 1631 هكتاراً في مناطق بيولوجية رئيسة ومهمة، و220 هكتاراً في الأحراج المعمّرة، و1500 هكتار على ارتفاعات تتجاوز 1000 متر تضم نباتات نادرة معرضة للانقراض.
وإذا استند لبنان إلى الدراسات التي أجريت منذ عام 2013، وتوقّعت أن تطال نيران حرائق الغابات هذه المناطق المرتفعة بحلول عام 2020 إذا زادت حرارة الأرض - وقد صحّت هذه التوقعات- فإن بإمكان لبنان أن يجري دراسات جديدة يبين فيها كل هذه التطورات، لطلب التعويضات من البلدان المتقدّمة التي سبق أن حمّلتها الاتفاقيات الدولية المسؤولية التاريخية عن تغير المناخ العالمي، لا سيما بعد ثورتها الصناعية. كما يمكنه الاستفادة من أزمته الاقتصادية والمالية، ليعود إلى نظامه الغذائي القديم الذي يعتمد استخداماً أقل للحوم والمشتقات الحيوانية.
أما فيما يتصل بالسؤال الذي يطرح دائماً في المنتديات العالمية والمحليّة، الرسمية والأهلية "من يموّل الانتقال إلى الاقتصاد الجديد؟" فيفترض من الآن وصاعداً، تغيير قواعد اللعبة في هذا المجال، ووقف التسول من السفارات والجهات الدولية المانحة. فقضية تغير المناخ والظواهر المدمرة التي بدأت في الظهور، تسبّب بها نظام حضاري صنع الثورة الصناعية وراكم انبعاثات هائلة لن تنتهي مفاعيلها المدمرة في القريب العاجل.
وعليه يجب الضغط على هذا النظام المسيطر، أولاً لتغيير أنموذجه الحضاري، والضغط على أنفسنا لوقف الانبهار به والسعي إلى تقليده والنظر إليه بدونية.
ويجب أن يكون أي مطلب منه بمثابة تعويض عن الأضرار التي تسبّب بها، لإعادة التصالح مع الطبيعة التي خرّبها، والعودة إلى النظام القديم في الغذاء واحترام قوانين الطبيعة، والعودة إلى فلسفة الكفاية والاقتصاد الحقيقي الذي يعني التوفير وحسن التدبير والتواضع في الطموح والإنتاج والاستهلاك، حتى يتسنى لنا الخروج من الأزمات التي نعيشها على كل المستويات.