(1)
لملم أشلاءه المبعثرة، بعد أن أفاق من نومه المتعب، بسبب تزاحم أحلام مزعجة أرَّقت ليلته، شعر فيها بضيق متكرر في أعلى الصدر، عزاه كعادته إلى جرعات السموم الكيميائية التي يتجرعها أثناء عمله في مصنع للمنظفات أقامه المحتل على جزء من أرض قريته، التي كانت وادعة قبل أن يأتي لينشر فيها مصانع السموم ويقطع الشجر، ويفسد الهواء والماء والغذاء ويستعبد البشر.
ألقى جسده المتعب في المقعد الأول لسيارة أجرة تعوّد أن تقله إلى مكان عمله، الذي غالباً ما نعته بالسجن مع الأشغال الشاقة المؤبدة.
بدأت السيارة تسير في طريقها المعبد والملطخ بالبقع السوداء القذرة، أطلَّ من النافذة برأسه المثقل، تنهدَّ قائلاً في سره "أصبح كل شيء أسود"، ثم تحسَّر على أعوام خلت وما عادت في دفتر الزمان، وصفها بــ "الأعوام البيض" التي كانت نسمات الهواء النقي العليل تداعب أنفاسه الفرحة، نظراته تلاحق خضرة الحقول المنتشرة على طول الطريق يمنة ويسرة، يستفيق سمعه كل صباح على لحن كورالي تديره العصافير المغردة ويقودها الكنار الذي هندَّس أعشاشه الجميلة على شجرات السرو والصنوبر المحيطة بحديقة بيته.
حديث السائق عن آخر قطع الأرض التي وضع المستوطنون يدهم عليها قطع عليه تأملاته التي تمنى أن تطول، أفاق على أشعة الشمس تحرق بشرته وذرات الدخان الأسود المنبعث من عوادم السيارات تقاتل حراس أنفه، لعن الحظ التعس الذي جعله يحتاج لسائق ثرثار وعالي الصوت.
تابع تأملاته مستذكراً كلام جده وأبيه عن أرضه التي تنبت ذهباً، وعن مذلة العمل عند المحتل، بدأ عقله المتعب يرسم خططاً لتنمية أشجار الزيتون واللوز والرمان التي ورثها عن أبيه وجده، فكر بمنح جهده ووقته لأرضه التي إن بقيت مهملة سيتهددها المستوطنون بالمصادرة، قاطعت تأملاته صرخات السائق عليه معلنة وصولهم بوابة المستوطنة التي يعمل فيها.
لعن الحاجة التي أجبرته على العمل في المستوطنات، اقترب من جمع العمال أمام بوابة المستوطنة ينتظرون إذناً بالدخول، أعدَّ العدة وحزم أمره، اعتلى صخرة مقابلة للجمع الذي يحمل كل منهم تصريح دخوله، رفع رأسه وشد صدره كقادة الجند المنتصرين، وأعلن على الملأ أنه تحرر من كونه عبداً للحاجة كما نعته صاحب المصنع.
في أثناء ذلك كان يشد بكلتا يديه على ورقة، استمر حتى حولَّها إلى كرة مستديرة، اقترب من أقرب حاوية نفايات فألقى الكرة فيها بحركة المتخلص من قمامة مقززة، عاد أدراجه مبتعداً عن الجمع وسط انبهار الجميع، بقيت العيون تتابعه حتى غاب عن الأنظار. كان يتمتم "فعلت خيراً، فعلت خيراً يا أبا خليل"، دبَّت حركة بين العمال وساد صخب بعد انقطاع الأنفاس، تماماً كالحجر الذي ألقي على سطح ماء ساكن.
(2)
كعادتها كل يوم تستيقظ أم خليل باكراً، تطعم أغنامها ودجاجاتها، تبدأ بجمع البيض وحلب الأغنام، لتشرع بتجهيز الفطور للصغار.
أصابها وجوم عندما شاهدت زوجها ما زال يرقد في سريره، سامحك الله يا أبا خليل ماذا فعلت بنفسك وبنا؟ قالت في سرها، حمدت الله على كل شيء وتراجعت عن فكرة إثارة موضوع تركه للعمل في المستوطنة هذا الصباح، مستذكرة الحديث الصاخب الذي دار بينهما أمس.
زوجي يعرف أمور البلد أكثر مني، وهو يدرك عواقب فعلته. الكثير من كلامه صحيح واقتنعت به، فكيف نرضى أن نعمل في أرض سُرقت منا؟، وعند أناس يستنزفون ماءنا وغذاءنا؟، ويخطفون أبناءنا؟، ليستخدموهم عبيداً في مصانعهم ومستوطناتهم تارة، أو يغيّبوهم سجناء في معتقلاتهم، أو يرجعوهم لنا شهداء تارة ثالثة.
شعرت بغصة وهي تستذكر كلام زوجها، في محاولة منه لإقناعها بمبررات تركه للعمل في المستوطنة.
أسرعت من خطواتها مستذكرة طلب زوجها منها إيقاظه باكراً ليذهب للأرض ليعمل بها، عازمة أمرها على مساعدته لتحقيق مبتغاه.
أفاق أبو خليل من حلم مخيف أرقه على صوت زوجته تذكره بنية ذهابه لحراثة الأرض، لم يرد أن يؤرق صفو صباح زوجته بالحديث عن الكائن المخيف الذي يحاول سحب أرضه من تحت أقدامه.
تناول فطوره، أعد عدته وخلع بقايا قلقه من الحلم المخيف الذي تلبسه، ضحك عندما خرج من بوابة البيت وتمتم معاتباً نفسه: "لقد كنت أخرج قبل هذا الموعد بساعتين للذهاب للعمل في المستوطنة". ثم عاهد نفسه على الوفاء لأرضه والمواظبة على رعايتها.
سرَّته الحركة التي دبت في شوارع القرية وأزقتها، شاهد رجال قريته يتأهبون للذهاب لأعمالهم، تمنى أن تسنح له الفرصة لأن يعتلي منبراً أمام جمع من أهل قريته ليعلن فيهم أنه عزم أمره على ألا يأكل إلا مما تنتجه أرضه وماشيته، وألا يدخر جهداً في رعاية أرضه والدفاع عنها.
آن الأوان أن نستنهض كل طاقاتنا لاجتثاث السرطان الذي يقوّض طموحنا.
آن الأوان أن نغلق بوابات تأتينا منها ريحاً تبعدنا عن تحقيق حلمنا..
آن لهذه الأقدام والأجساد الغاصبة أن تغادر التراب الذي سئم خطواتهم عليه..
آن لهم أن يرحلوا عن أرضنا، أما نحن فلنا الغد الذي ينتظرنا ليغرينا برائحة الحرية التي قدمنا الغالي والنفيس مهراً للحصول عليها، تمتم بهذه العبارات التي حفظها عن ظهر قلب، وشد بكلتا يديه على مقبض معوله وحبيبات العرق تتصبب من جبينه.