خاص بآفاق البيئة والتنمية
وجع
تحتفظ منذ العام الفائت ببيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، وفيها " تُخرّج مؤسسات التعليم العالي الفلسطينية سنويًا 30 ألف طالب وطالبة، حيث بلغ عدد المتقدمين لامتحان شهادة الثانوية العامة حوالي 81 ألف طالبا وطالبة." وذكر البيان المعنون بـ "مجالات الدراسة والعلاقة بسوق العمل للأفراد 20-29سنة " أن عام 2014 حظي ارتفاعا في معدل البطالة بين الأفراد 20-29 سنة الحاصلين على مؤهل دبلوم متوسط أو بكالوريوس إلى 54.7% في فلسطين، بواقع 42.3% في الضفة الغربية و 69.5% في قطاع غزة، في حين كان معدل البطالة بينهم 51.5% عام 2013."
اللافت أن الجامعات لا تتوقف عند هذه الأرقام، وتواصل ضخ المزيد من الخريجين إلى سوق البطالة، دون مراعاة لأي تخطيط سليم أو مراجعة في سياسة القبول أو حتى تجميد تخصصات تقليدية لفترة محددة!
سباق
تدخل في سباق مع موجات الحر المتلاحقة، فتجهز المياه لمنع الجفاف من الوصول إلى أحشاء الشجر المحيط بمنزلك، وتمد التربة ببعض الرطوبة بتغطيتها مما تيسر: أعشاب جافة، وكرتون، وأغصان جافة.
الحر يتلاعب بالأعصاب، ويجعلك تسبح في عرقك وقلقك على الغطاء الأخضر. من مشاهداتك، أشجار لا تقوى على العطش، وأوراق متساقطة قبل الموعد، وأرض تتعطش بسرعة البرق للماء، وانتشار اللون الأصفر في كل مكان.
الصيف يجنح نحو التطرف، والحرارة العالية يرافقها تراجع في المخزون المائي، والجفاف لا يهدد الأرض ونباتها وشجرها، بل يوجع العين ويدمي الروح.
أنين
تمضي عدة أيام في المستشفى بجوار والدك، وتعد لائحة مما تشاهده: طوفان وجع، أطنان آهات في كل ممر، حراس أمل بزي أبيض، ملائكة رحمة، حقن، أصحاب كلى تالفة، ضحكات، دموع، ملاصقون بالأحبة يجدون أو لا يجدون مكاناً، زائرون يتسلحون بعصائر وسكاكر، نداءات عاجلة للأطباء والعمال، قلوب متوقفة عن العزف، ثلاجات تصون أجساد منزوعة الروح، "واي فاي" مسبق الدفع، أمن، يائسون. صرخات لقادمين جدد إلى الدنيا، لهجات فلسطينية متأثرة بالعبرية لممرضين متدربين، شواء في مدخل المؤسسة الصحية، أدوات تعقيم، يافطات، صمت، حلوى "سنكرس"، دعاء، ثرثرة.
فيما تكشف الساعات المتواصلة بين أسرة الشفاء ووسط أنين الموجوعين الوهن والأمل والخوف معاً. المستشفى مرآة للمستقبل، وعلى الناظر أن يتوقع شكل الأيام القادمة الحافلة بالعجز إن كتب الله بقية من عمر. أما الأمل فينسج من ابتسامة ملاك رحمة، ودعوات زائر، وصبر رهينة بجسد نحيل وقلب هش وإرادة بالشفاء. لكن الخوف يتجسد في توقف قلب حبيب وعزيز عن العزف برمشة عين.
ذكريات
الجميل، حين كنا نسمع عن عودة لجنة الامتحانات من عمان، ومعها نتائج التوجيهي. وقتئذ لم تكن هناك رسائل عاجلة تفسد الفرح، ولم نعرف المفرقعات النارية، وكانت الأسماء ليست عارًا، أما العلامات فكانت أكثر صدقًا من نتائج هذه الأيام، التي تذكرنا بنسب الفوز المزعوم في الانتخابات العربية.
يبدو أن الذكريات الجميلة كلها سرعان ما تختفي، وتحل مكانها الحداثة والتقانة، التي لا تبقي مساحة للفرح الطبيعي.
أرقام
تحويل الإنسان إلى رقم ليس بالجديد، الاسم عادة يوحي بلحم ودم وحياة. أما الأرقام الصماء فتقلل من شأن حاملها. تحدث "الرقمنة" في الأماكن الجميلة والقذرة أيضاً: الفنادق، والجامعات، والسجون، والمستشفيات، والمصارف، وملاعب كرة القدم، وشؤون الموظفين، وثلاجات الموتى، واليوم تنتقل إلى نتائج (التوجيهي-التأجيجي). في السجن على الأسير أن يحفظ رقمه بالعبرية، ورقم بطاقة الهوية فيشي غالبًا بصاحبه، ويسبب له المتاعب. وهناك من يلهث وراء أرقام مميزة لمركبته ولهاتفه النقال، ويدفع ثمنها مالاً طائلاً. في دنيا الشهداء نتألم حين نحوّل (الكواكب السامقة) لمجرد أرقام نطمس أصحابها، ونناضل لكسر (مقابر الأرقام)، ولا نحبذ الأرقام البعيدة في المصارف، وتذكرنا هذه الأشكال بجداول الضرب التي نجبر أطفالنا على حفظها قبل معرفة دلالات الأسماء التي نختارها لهم. وتحقّر الأرقام عادة أصحابها، فتحيله من إنسان إلى شيء قابل للقسمة والطرح والضرب، كما يصبح قابلاً للكسر وتحت المقام وفوقه.
أعيدوا لنا الأسماء والألقاب!
ابو سهيل في قرية برقين من أعرق الحلاقين في فلسطين
حلاّق
ولد عزات شفيق عودة الحنا (أبو سهيل) في حيفا يوم 23 آذار 1933، وأستقر بعد النكبة في بلدة برقين، وأخذ يتعلم في مدرسة كنيستها، وحين أنهى الصف السادس، أُعجب بالحلاقة، وبدأ يرافقها في سن مبكر، وتنقل بين أربعة من معلميها كمتمرن وعامل بأجر. ثم تعيّن في الجيش الأردني مطلع كانون الثاني 1957، وكان معاشه الأول 12 ديناراً، وراح يقص شعر 12 جندياً يوميًا في معسكرات: دير شرف وبيت عور التحتا، ورام الله. غيبه الموت منتصف تموز الفائت، بعد أكثر من ستة عقود في مهنة واحدة. سرد قبل الرحيل أيام زمان وطقوسها ووسائل مواصلاتها، وحكاية التدوير وإعادة علب اللبن وزجاجات المشروبات الباردة، واستخدام أكياس الورق بدل البلاستيك، وغياب الثلاجات وحفظ اللحوم في الهواء الطلق دون تلف.
حكاية
سكنت بلدتنا سيدة كانت تصبغ نفسها دائمًا باللون الأخضر: الثياب، والمنديل، والسلة- الحقيبة، وباب المنزل ومحيطه.عرفناها بـ( الحاجة خضرة). اليقين الوحيد الذي حصلنا عليه أنها -رحمها الله- فقدت قريتها خلال النكبة، وقدمت لبلدة برقين من مخيم الفارعة، واسمها الصريح رقية، فيما يقيم ابنها التاجر "محمد" شرق النهر، أما هي فتعيش بعلية صغيرة بجوار المسجد الشرقي. كنا أول الأمر نُصاب بالرعب من سيرتها، وقد أحاطت نفسها بأسطورة للدفاع عن ذاتها، فأشيع أنها تصل إلى حالات (هياج) وغضب وتحمل شيئاً يشبه السيف. وسمعناها تقول كلامًا غير مفهوم في لحظات انفعالها. مما لا ننساه، حرصها على منح الأطفال الذين يطرقون بابها (لفائف حلوى) كانت تلفها بأكياس ورقية، أما في صباح العيد فتذهب إلى القبور لتوزيع الحلقوم على الأطفال قارئي كتاب الله على روح الموتى. غيّب الموت السيدة خضراء مطلع انتفاضة الحجارة، دون أن نعرف سر اللون الأخضر، الذي لا صلة له بالدولار أو السياسة أو البيئة ومناصرتها!