خاص بآفاق البيئة والتنمية
تداعب يدا الخمسيني كمال محمد بدر أقراص الكعك الدائري، وهي المهنة التي ورثها عن والده قبل عقود، فيما دخلت إلى نابلس منذ أكثر من مئة عام.
يروي:" دخلت هذه الصناعة إلى مدينتنا عن طريق الأتراك خلال الحرب العالمية الأولى، ووقتها كان الجنود يعلقون قلائد من القرشلة في أعناقهم، ويتغذون عليها في الأوقات القاسية وخلال سيرهم لمسافات طويلة، ووصلت أجدادنا عبر هذه الطريقة كما أخبرني والدي."
وتبدو حبات القرشلة الضاربة إلى الحمرة مرتبة في أوعية خشبية مستطيلة، فيما توقف البائعون عن ربطها بخيوط تشبه القلائد، منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي؛ حرصًا على نظافتها من الغبار.
دوائر
يتابع بدر: " اعتاد الكبار والصغار على تناول (القرشلة) مع الشاي والحليب، وتعلق في ذاكرتهم بقلائدها التي كانت توضع عند مداخل المتاجر، ويحملها الأطفال بفرح لمنازلهم. لكن تغيرت طريقة التسويق والتحضير وبقي الطعم والاسم كما هما."
وورث بدر صناعة الكعك قليل السكر عن والده، الذي بدأ بالعمل في حرفته عام 1965، وظل صامداً في المهنة حتى وفاته عام 1980، بعد أربع سنوات من بدء ابنه كمال في تعلم أصول الصنعة وتقاليدها.
يزيد:" أصمد في هذا الدكان منذ 41 سنة، وتغيرت حولنا الكثير من الأشياء، وتوقف تجار السوق عن استخدام أكياس الورق، ولكن نستمر في بيع الكعك وتجهيزه بالطريقة ذاتها، وبوسائل حديثة."
وتخزن دوائر الكعك ثلاثة أشهر دون تلف، فيما تعد طريقة تحضيرها دقيقة في مقاديرها وما تتطلبه من ماء فاتر، ولا تدخل الخميرة إليها، فيما يأخذ الخبازون مياه مغلي الحمص ليضيفوها بدل الخميرة، وتضاف إلى كل 60 كيلو من دقيق القمح 5 كيلو من السكر الأبيض، وترش حبات السمسم قبل خبزها.
"قزمات"
ويمضي بدر:" يطلق أهالي نابلس اسم (القزمات) على هذا النوع من الكعك، وتنتشر 6 مصانع في المدينة لتحضيرها، ولا زال درويش القطب الذي تجاوز عامه الثمانين عميد هذه المهنة، ويعمل أبو أمين هنود منذ عشرات السنوات."
ووفق محمد إبراهيم، الذي يعمل في خبز الكعك، فإن الآلات الحديثة سهلت المهمة، فقد انتقل الفرانون من الحطب والكاز إلى الغاز ثم الكهرباء، وتتسع الأفران الجدية لخبز 80 كيلو من الطحين دفعة واحدة. يقول:" في بعض الأحيان تفسد عجينة (القرشلة) ويحتاج الفران إلى مياه معتدلة ( لا باردة ولا ساخنة) حتى يضيفها إلى الخلطة."
معادلة
ويواصل بدر:" الثابت الوحيد في مهنتنا أن سعرها يقاس بالخبز، فثمن الكيلو الواحد من القرشلة يعادل 3 كيلو من الخبز، وما يميز هذا الكعك أنه بلا خميرة، وبسكر قليل، ولهذا يصمد وقتًا طويلاً دون تلف، مقارنة بالخبز الذي لا يعيش غير أيام معدودة بلا تعفن."
وبحسب بدر وإبراهيم، فإن (القرشلة) لا زالت متوفرة في مخابز تركيا وسوريا، وثمن الكيلو الواحد هذه الأيام عشرة شواقل، ويرغبها الأطفال وكبار السن أكثر من غيرهم، ويحرص القادمون من أرياف نابلس على اصطحابها معهم، تماماً كما يفعل الزائرون في القدس من شراء الكعك ذائع الصيت.
وتقول صفية الشيخ إبراهيم، التي تسكن في الريف الشرقي للمدينة:" اعتدت شراء (القرشلة) منذ40 سنة، وهي طيبة المذاق، وأفضل شيء فيها أنها تبقى كما هي لأكثر من ثلاثة أشهر، ولا تتعفن مثل الكعك الحلو، وكلما زرت نابلس أشتريها، ولكنها كانت أجمل عندما كانت تباع بالقلائد."
فيما تؤكد سماح مقبول، الطالبة التي تستعد لخوض الثانوية العامة، أنها لا ترغب بهذا الكعك، فهو "موضة قديمة، وهناك عشرات الأنواع من "البيتي فور" والحلوى، التي تنافسه" وتضيف:" لكل زمان ومكان كعك خاص بهما."
ينهي بدر:" هذا الكعك طبيعي، ولا تجد فيه الأصباغ والمواد الحافظة والملونة، ويكفي أنه يعيش بيننا منذ مئة سنة بالطعم والشكل نفسه."
وترى المواطنة دعاء المصري بأن كل شيء فقد طعمه هذه الأيام، إذ لا شيء يذكرنا بالطبيعة، وانتقلت الأصباغ والألوان والمواد الحافظة إلى كل شيء يدخل إلى أجسامنا.