خاص بآفاق البيئة والتنمية
يتباهى الثمانيني فؤاد رضا أبو حلاوة بلقب (المطعم الأول) في نابلس كلها، ويقف بالرغم من ظهره المنحني والشيخوخة التي تطرق بابه، ليكون التاجر الأخير الشاهد على انتقال مركز مدينته من باب الساحة إلى أحياء أخرى.
يسرد:" ولدت عام 1936، ودرست حتى الصف السادس في مدرسة الغزالية، وأفتتح والدي المطعم قبل ميلادي بعام، وفي عمر الثانية عشرة صرت ساعد أبي اليمين، واليوم أواصل العمل منذ عام 1970 بمفردي بعد وفاة أبي. ولو أني أكملت المترك "التوجيهي" لأصبحت مدرسًا."
كان أبو حلاوة شاهدًا أيضاً على تغير أحوال مدينته العمرانية، والتهام مساحاتها الخضراء، وانتشار عمرانها وبناياتها المرتفعة. فيما تسكنه الممارسات الجميلة التي انتهى عصرها.
فؤاد أبو حلاوة صاحب أقدم مطعم تراثي في نابلس
مجد ضائع
يقول (أبو عماد) كما يعرفه أهالي المدينة وضيوفها:" كانت البندورة والخيار لا تصلنا إلا في موسم واحد، ولا ننسى رائحتها الفواحة لمسافات بعيدة، فيما استخدمنا الأواني الفخارية للبن والماء، واستعملنا الأكياس الورقية، وكانت اللحوم أطيب، ولم نكن نذبح الخراف إلا في شهر شباط، وعلقت بنفسي اللحوم الزائدة عن استهلاك الزبائن في قطعة قماش وكنت أتركها في الهواء لليلة دون أن تتلف، ولم نعرف لحم الحبش، وكان الدجاج بلدياً وله طعم."
وتبعًا للراوي، فقد تغير كل شيء، فما عادت نابلس كما عرفها، وانتهى زمن خضرتها ومساحاتها الخضراء، ودخل البلاستيك في كل شيء، وبقدر ما أفادتنا التكنولوجيا فقد أضرتنا؛ لأنها غيرّت كل شيء بسيط وجميل، وارتفعت الأسعار فقد كانت أوقية اللحم بـ 12 قرشًا، أما الزبائن فكانوا يبحثون عن المطعم من الريف المجاور والمدن اللصيقة، والحرص على تقديم اللبن للزبائن مدة طويلة، قبل أن يأتي زمن المشروبات الغازية.
فؤاد أبو حلاوة في مطعمه الذي أنشأ عام 1935 وهو يعتبر الأقدم في نابلس
ذكريات وثلج
يفيد أبو حلاوة: " تعاملت بالجنيه الفلسطيني، وكانت التعريفة لها قيمتها، واشتغلنا بالدينار، ووصلنا الشيقل الذي تغير في شكله مرات عديدة. وانتشرت 3 مصانع للثلج قبل وصول الكهرباء ووصول الثلاجات لكل بيت، واحد في الشويترة والثاني مصنع الأرز والثالث لحداد في الجزء الشرقي من المدينة، وكنت أذهب كل يوم إلى مصنع الثلج في شارع الشويترة، وأحمل قالباً لنبرد الماء، ونبقي على اللحم طازجًا في أيام الحر."
ومما يؤكده أن وجه نابلس بدأ يتغير عام 1956، حين هدم دير اللاتين وسطها، وتحول إلى دوار، ثم صارت الناس تخرج من قلب البلدة القديمة. في وقت كان استهلاك المدينة قليلاً من حيث اللحوم، وسط ضائقة اقتصادية وفقر، ولكن القلوب كانت أقرب لبعضها.
يتابع:" في أيام الشباب كنا نشتري كيلو الفحم بقرشين، أما اليوم فبثمانية شواقل، وأحرص على استخدام ميزاني القديم الذي اشتريناه عام 1938، واستعمل أسياخ الشواء ذاتها المصنوعة قبل ميلادي في نابلس على أيدي (النور) الذين سكنوا مكان مخيم بلاطة قبل النكبة، لكن الزبائن قلّوا كثيراً، وأجبرنا على أقفال الطابق الثاني. وكانت مدينتنا وجهة مفضلة قبل النكسة لفنانين عرب ومقرئي قرآن، التقط صورة مع أحدهم في مسجد الحاج نمر النابلسي."
معدات الطبخ التراثية في مطعم أبو حلاوة بنابلس
قديم وجديد
لا يؤمن أبو حلاوة بالوجبات السريعة، ويقول إنها مجرد تسلية، فيما يحرص على تناول الأطعمة المطبوخة، التي تفيد صاحبها وتقوي عظامه، وقد سبق المطعم أن أعدها لرواده سنوات طويلة، حين كان يطهو أطباق الفاصولياء والبامية والأرز والشوربات.
وبالرغم من أن مطاعم نابلس الحديثة سحبت البساط من تحت مطعم عائلة أبو الحلاوة، الذي لا يستخدم اليافطة ولا يلجأ إلى أساليب الدعاية والترويج، فإنه الوجهة المفضلة للقادمين من الريف.
يزيد: أتحسر على (هداة البال) التي كانت سائدة أيام الشباب، ولا أنسى البركة التي انتزعت من كل شيء، واختفاء طعم ما نأكله، وأفتقد كثيراً الأسعار الرخيصة، التي ارتفعت اليوم بشكل مجنون، فلو قلنا لأحد بأن كيلو لحم الخاروف سيكون بـ 12 ديناراً كما هو اليوم، فلم يكن ليصدقنا. واليوم يذهب المعظم إلى الحبش؛ لرخص أسعاره وسرعة تحضيره، وهو دخيل علينا جاء بعد نكسة عام 1967."
ولأبي حلاوة ثلاثة أبناء بينهم طبيب أسنان ومهندس، وثلاث بنات درسن الإنجليزية والتجارة وعلم النفس.
ويكثر الراوي من ترديد روايات قديمة لرواد المطعم، حول مدينته وباب الساحة، ويستعير غالباً قصة فريد الأطرش الذي زار نابلس وأقام فيها حفلة فنية، إضافة إلى نجوم كبار من مصر.
ومما لا يسقط من ذاكرته، حكاية الفنان فريد الأطرش الذي جاء للغناء في المدينة برفقة الراقصة تحية كاريوكا، ويومها أقسم الأطرش أن لا يدخل فلسطين مرة أخرى بعد رميه بالبرتقال!
يقول منور أبو زاهر، المولود عام 1960: "كنت أزور المطعم في طفولتي برفقة والدي، وأول مرة أدخل إليه كان عمري 10 سنوات، وقد حدثني والدي عنه كأشهر مطعم في المدينة، لكن نابلس اليوم ابتعدت عن باب الساحة، وبدأت تركض خلف الأحياء الجديدة."