علي خليل حمد
-1-
[الزيتون شيء آخر]
مددت يدي لأقطف خصلة من العنب، وفجأة تصلّبت يدي في الهواء. لعلّ الخصلة بعضُ أصابعه، من يدري؟! لا تستطيع دالية أن تكون على هذه الدرجة من الخضرة والجمال، إلا إذا كانت على علاقة بشهيد. وكنت أعرف أن جذورها هناك، قربه، فيه، حوله. وقلت: الله يا سلوى، لقد استطعت أن تخرجيه إلى الضوء، إليك، ليرى الشمس، ويراك. إنه الآن هنا؛ ألمس ساق الدالية فأحسّ بيده تنبض دافئة، ألمس أوراقها فأحس بشعره، ويهبّ الهواء عبر فروعها فأحسّ بقلبه ينبض. وقلت: هل يعرف الناس أن أبناءهم هنا في الشجر النابت فوق قبورهم؟ هل يعرفون ذلك؟ ولماذا لم يقل لي أحد ذلك من قبل؟
هذه أشياء يجب أن تعرفيها وحدك يا سلوى. قلت لنفسي. ولكن، ربّما كانوا لا يعرفون.. وكنت أريد أن أطوف بهم، أولئك المتحلّقين حول قبور أحبابهم، لكنهم كانوا أكثر حزناً من أن أقول لهم شيئاً، وبعضهم جلس هناك في ظلّ ميته الذي صعد إلى الفضاء شجرة كينياء، أو سروة أو دالية. ولم يكن الزيتون قد وصل المقابر بعد!
.. أي مجنون ذاك الذي يترك زيتونة في المقبرة إلى الأبد وحيدة.
.. الزيتون شيء آخر. الست زينب [معلمة سلوى] قالت لي: كانت أمّ علاء توبّخنا إذا جاءت سيرة الموت على ألسنتنا في كروم الزيتون: "هذا سيجعل الزهر يسقط، الزيتونة كالمرأة الحامل. علينا ألا نخيفها بمثل هذه الأحاديث". مرّة، وجدت بعض الرجال يتدربون بين الكروم فطردتهم: "صوت الرصاص يخيف الأشجار، ألا تعرفون؟!" ولم تكن تتردّد في أن تطلب منا: "وَطِّن صوتكُن مِش شايفات إنْكن بتزعجْن الزيتون".
- الزيتون شيء آخر.
.. ولكن ما الذي كان يمكن أن يحدث لها، أمّ علاء الدين، لو عاشت لتراه [= الزيتون] أخيراً يزرع في الشوارع لا أكثر، ويصبح نوعاً آخر من نباتات الزينة؟!
.. السّت زينب قالت لي: المسألة أكبر مما تتصورين. كان لكروم الزيتون دائماً جدران تحميها، جدران من أشجار عالية قوية تصد الريح والعواصف؛ ولكن، انظري ما الذي يحدث الآن،! يزرعونه حول بيوتهم، ليحموا البيوت، البيوت الجديدة، الحجرية؛ أتعرفين يا سلوى، هذه أشياء ليست عابرة، أشياء لها علاقة بالروح، وما يحدث فيها. متى بدأ السّوس ينخر هذه الروح؟! من زمان، أعرف! ولكن متى بدأ الإنسان منّا يراه؟ لا أريد منك أن تحددي مذبحة بعينها، أو حرباً، تذكّري فقط، حاولي أن تتذكري متى رأيت أول زيتونة يلقى بها هنا، إلى أرجل المارّة، وقطعان الأغنام العابرة، ثمّ حدّقي فينا نحن، في أطفالنا الذاهبين إلى برد المدارس، والنّساء المذبوحات بانتظار كيس الطحين، حدّقي في سلالهنّ الطافحات بفضلات السّوق؛ وحاولي أن تتصوّري معي، أيّ زيتون ذاك الذي كنّاه وأي زيتون ذاك الذي أصبحناه. يا سلوى، لم نكن خارج الوطن أكثر من زيتون شوارع أيضاً..
إنِّي أرى الزيتونة في الشارع ترتجف برداً، فأخلع معطفي وألقيه عليها.
(زيتون الشوارع، ص 125-127).
-2-
[الجنرال: قمعت، فأمنت، فنمت]
لم يكن للمنطقة أهمية، ولا لغاباتها، حتى ذلك اليوم الذي عبر فيه الجنرال السماء صافية بطائرة مروحية. فوجئ بوجود غابة.. دار دورتين فوقها. هتف:
غابة بهذا الجمال وسط هذا البلد، ولا أعرف بوجودها إلّا مصادفة.. ثمّة تقصير إذن، ثمّة شيء لا أعرفه.
سأل: ما اسم المنطقة؟
ارتبك مرافقوه، وغزت عاصفة من القلق قسمات مساعده الخاص، إلا أنها لمعت في ذهنه فجأة تلك الإشراقة، وهذا لا يحصل كثيراً، فهتف:
"ضاحية الغابة" سيدي.
- اسم جميل، تمتم الجنرال.
لم يعد مساعده الخاص إلى بيته ذلك اليوم.. ذهب إلى مقر المدينة وطلب اجتماعا فورياً لأعضاء لجنة التسمية، حيث تقرر إطلاق اسم "ضاحية الغابة" على المنطقة الممتدة من حوض 24 إلى حوض 27، وإزالة اسمها القديم من كل السجلات.
وفي اليوم التالي اندفعت الجرافات العسكرية لتسوية المكان، تمايلت الأشجار تراوغ الأسنان المعدنية للآلات، ولكن دون جدوى، وألقت الشركات معدّاتها وأخشابها.
حين حوّم الجنرال ثانية في سماء الصنوبر المطحون ضحك كالزلزال. انتشى:
الآن لا سرّ للغابة. لقد فضحت كل أسرارها، لا ليس هذا فقط.. فوق تلّ كهذا سأبدو دائماً أمام عيون المدينة منتصباً كالقدر.
(عَوْ..، ص 8،9).
-3-
[ ]
في ناس زي الشجرْ
وفيهم زهر حنّونْ
واحد بيعطي ثمر
وواحد ظلال وغصونْ
ويسقط ورق ويطيرْ
مع ريح في كانونْ
لكن شهيد البلد
بيظلّ حتى الأبد
فوق الجبل زيتونْ
(الأمواج البرية، ص. 45)
[ -4- ]
خيولٌ وقال لنا جدُّنا
نحب الخيول كأولادنا
ومنذ زمان قديم قديم
نسمّي الخيول بأسمائنا.
(الأمواج البرية، ص. 59)
-5-
[قدوم الفرس]
تحوّل وصول الحمامة [ اسم الفرس] إلى عرس ما إن لمحها أهلها قادمة تضيء السهول الغربية، [ حتى ] اندفع الأولاد والنساء والرجال، كما لو أنهم يستقبلون قافلة تعود برجالهم من أرض مكة.
وهناك، في السهل، حول البيوت، كان يمكن لخالد وأبيه أن يروا أو ينبهروا بتلك الأرض التي تغنيها الأفراس البيضاء، الأفراس التي راحت تصهل، وتتقافز في الهواء، مما جعل الحمامة تنطلق نحوها بجذل واضح وسعادة خضراء..
ترجّل الحاج محمود وخالد ومن معهما بخفة، كما لو أنهم يؤكدون لأهل الحمامة أن فرسهم خرجت من بيت فرسان إلى بيت فرسان، عانقوا الشيخ السعادات، طارق، وبقية الرجال الذين اجتمعوا، وقبل أن يسيروا باتجاه المضافة، عبر الشيخ محمد السعادات من بين القادمين نحو الحمامة، ربّت على عنقها، دنا منها، أخذ رأسها في حضنه معانقاً، ولمّا رأى العرق ينساب من جبينها، أمسك بطرف عباءته، وراح يمسحه. عاد خطوتين. تأملها، ثم قال: اشتقنا لك.
(زمن الخيول البيضاء، ص ص. 75-76)
-6-
[ الفرس البيضاء]
دارت الفرس البيضاء في الحوش، كما لو أنها تنتظر شيئاً ما. أحسّ ظاهر [العمر] بذلك، فانطلق نحوها، أمسك برسنها المزيّن بالخرز، وخرج نحو السّهل القريب.
كان يحرص على السير إلى جانبها، وجهه إلى جانب وجهها، يتأملها بين حين وحين، ويفكّر في كل ذلك الزمن الذي مرّ. رفع عينيه إلى السّماء، وكم تمنّى أن تعيش الخيل أكثر من هذا، أن تعيش مثل البشر وأكثر. ولكنه تذكّر أي عذاب ستقاسيه، لو أنّه رحل قبلها. هو الذي لا يكاد يسامح نفسه على غيابه عنها في الشّام. أيكون غيابه هو الذي أنهكها، لا عمرها الذي يسير إلى نهايته؟!
بدت الفرس البيضاء راضيه في ذلك اليوم، وأحسّ بقوة ما تعود إلى جسدها. وحين دخلا ذلك الحرش الكبير من أشجار الصنوبر، وسمعت العصافير تغنّي، رفعت رأسها، باحثة عن مصدر الصوت، تتلفّت دهشة كطفلة.
قبيل العصر، عاد بها إلى البيت. لم يكن ذلك الفرح الذي سكن الصغار أقل من الفرح الذي سكن قفزات الماعز في الهواء، وصفقات أجنحة الحمام في الأعلى.
من بعيد رأي نفيسة تتأمل ولدي سعد بصمت، فوجئت به عندما اقترب، فابتعدت عن النافذة بسرعة، لتظهر من جديد من فتحة الباب.
بابتسامتها الواسعة الجميلة التي كشفت عن أجمل أسنان رآها في حياته، أقبلت نحوه، ودون أن تقول شيئا امتدّت يدها تمسّد عنق الفرس البيضاء وغرّتها الملوّنة.
سارا بها إلى داخل الإسطبل.
(قناديل ملك الجليل، ص 137)
-7-
[الغزالة تستجير بالصياد]
يذكر الحاج محمود ذلك اليوم البعيد الذي ذهبوا فيه لصيد الغزلان، يذكر كيف أصاب خالد غزالة كانت قد أثقلتهم خفّتها! راوغتهم، وراحت تتوارى في سفوح لا تصعدها الخيل...
اختبأ [خالد] في السفوح يومين، [ثم عاد] والغزالة تتفلّت حول عنقه وتنطح الهواء بقرنيها الصغيرين، وصدره بقوائمها الموثقة.
أنزلها عن عنقه كما ينزل طفلا، بهدوء ومحبة.
- لو كنتُ مثلك لفعلتُ ما فعلتِ، ولو كنت مثلي لفعلتِ ما فعلتُ. ليس هناك غالب ولا مغلوب. قال لها: اتفقنا؟!
لكنها كانت مغلوبة..
انحنى، حلّ وثاقها، تراجع خطوات قليلة، أصبحت في المنتصف تماما، عيون البشر تحدّق فيها، وتعد بطونهم بوجبة مشتهاة. بصعوبة وقفت، دارت حول نفسها، دون أن تفارق عيناها العشبيتان وجوه الناس. وعندها، أدركت أنها بحاجة لجناحين على الأقل كي تتجاوز الحائط البشري المحكم.
أحنت رأسها لدقائق، وحين رفعته، كانت تحدق في عينيه مباشرة. وأمام دهشة الجميع، سارت نحوه حتى وقفت أمامه ساكنة تماماً. رفعت رأسها ثانية، لكنه لم يجرؤ على النظر في عينيها من جديد. وفهمت ذلك؛ ولذا، كان لا بدّ لها من أن تخطو الخطوة الأخيرة لتلامسه، وأدرك أنها ستفعلها، وأنَّ ذلك سيعني الكثير، لكنه لم يتحرك، وتحرّكت هي، مسّت طرف قمبازه بوجهها. أحسّ بدفء أنفاسها، ولم يكن عليها سوى أن تجعله يحسّ أكثر بلمستها.
قطعت المسافة الباقية بين قمبازه وجسده بملامستين رقيقتين له برأس قرنها الأيمن. عندها همس الحاج محمود: إنها تستجير بك.
وتراكم الصمت أكثر.
استدار بجسده قليلاً، كما لو أن قامته تحوّلت إلى باب، ومنه خطت الغزالة خطوتها الأولى خارج الدائرة البشرية، وعلى مهلها ظلّت تسير إلى أن اختفت في البعيد.
(زمن الخيول البيضاء، ص ص. 102، 103).