ملاحظة: هذه المادة هي آخر ما جمعه الراحل، سيفتقده كل قرائه ومحبيه لمساهمته الثقافية والفكرية الكبيرة، رحمه الله.
-1-
[ في الغابة الجميلة ]
أحاول الآن أن أستذكر مادة أحلامي وأنا في الحادية عشر[ة] فأجد أكثرها حول الغابات، كنت ولا أزال أحلم بالغابات، غابات الصنوبر والسّرو، ذات الرائحة العميقة العريقة؛ نعم، أحب أن أصف عبير الغابات بأنه عريق هائل، يمت للآلهة أو سلاطين الشرق. أحلم بالهروب إليها والضياع فيها، والتوغّل فيها، وينعدم من حولي الوجود؛ وفي تلك اللحظة كنت ألتقي بشيء، بحقيقة، ما هي؟ ما لونها؟ ما شكلها؟ لست أدري، قد أسميها الآن بعد أن كبرت أياً من هذه الأسماء التي يدركها الناس، وإن لم يتمكنوا من التعبير عنها كاملاً: الحق، المعرفة الكاملة، السّعادة، تحقيق الذات، الجلاء، الاتحاد مع الله؛ وعند نقطة الالتقاء هذه أي بعد تحقيقها، كنت أحسّ أني ارتويت وأني أستطيع أن أرجع، أن أعود إلى الواقع، إلى يومياتي.
(لمن الربيع، ص ص. 19، 20)
-2-
[ لوعة الريف ]
بعد انتهائي من العمل أركب الباص إلى طرف من أطراف المدينة، وأكتشف مكانا جميلا؛ غابة صغيرة، وهناك أستسلم للأرض المفروشة بإبر الصنوبر الجافة، وإلى صوت الغابة الحالم كأنما هي تنهدات الأشجار على حب ضائع، وأتأمل خضرة الأشجار، وأسأل نفسي: هل أنا غريب الأطوار في أني أحب كل هذا أو أشتاق إليه، بينما رفقائي الآن يلعبون "الطاولة" في مقاهي المدينة القذرة؟ لماذا نخاف أن نعبّر عن أنفسنا؟ لماذا ننساق بغريزة القطيع إلى أزقّة المدينة القذرة ننفق فيها حياتنا؟ لماذا نتواضع إلى درجة نسحق فيها إنسانيتنا وطموحنا وحبّنا لأن ننظر إلى أعلى؟ لماذا يقول الواحد منّا: أنا فرد أوحد لا أستطيع أن أغيّر عادات مجتمعي، مع علمي أنها فاسدة.. إن رسالتي هي أننا نستطيع أن نعيش حياتنا اليومية مع شيء من الجمال. فلماذا هذه المدن الكبيرة؟ ولماذا هذه الأحياء الضيّقة؟ لماذا لا نستطيع أن نحافظ على الطبيعة من حولنا بل نعزل أنفسنا عنها؟
إن حلمي هو أن نعيش في مدن أو قرى تستفيد من مدنيتنا الحديثة بحيث لا تعزل نفسها عن الطبيعة. وحلمي أن يكون لي بيت صغير، في غابة اسمع معها نداء الأشجار. هل أنا إنسان غِرّ جاهل مفتون أم إنسان جريء حرّ، في أني أحمل رسالة مثل هذه وأومن بها؟
(لمن الربيع، ص ص. 24، 25)
-3-
[ تعبّد السرو ]
سرت في هذا اليوم كعادتي، في الشارع الهادئ الذي ينفتح عليه بيتنا، أحب كثيرا هذه النزهة التي أقوم بها كل يوم. كان الطقس لطيفا كما تكون أيام حزيران الجميل. راقبت شجرة الكينا الضخمة، وأشجار "الفلفل" والدفلى بألوانها الوردية الثائرة؛ ثم أقبلت على حديقة وجلست على مقعد قريب، أتأمل تنسيق الحديقة الهندسي، وأعمدة الكهرباء التي تزين مقطعاتها، وتماثيل الطيور المنتصبة على قواعد حجرية. ثم تركت كل هذا، وأخذت أتأمل أشجار السّرو؛ خيّل إليّ أنها تتمايل لتهمس لبعضها حديثا من الشرق. وأنا أعشق أشجار السّرو، كل شجرة ألتقي بها في طريقي، في طريق حياتي كلها، أستطيع أن أقف معها لنلتقي على مستوى عميق؛ وقد وجدت في أشجار السّرو المقدرة على أن تُكسِب كلّ مكان تحتله جوّاً خاصّا، ولكنها تكتسب أيضا من كل مكان تحرسه عمقا ومعنى. فقد أثارتني في حدائق الأديرة إلى تعبّد رائع هادئ، ورأيتها في المقابر كحسانٍ حزينات على الموتى؛ ورأيتهنّ في خيالي، في البلاد الشمالية البعيدة يتعاطفن مع الثلج والقرميد الأحمر ليحتضنّ عالماً بعيدا عني، وهنّ في شرقي يذكّرنني بشرقٍ أبعد، بشرق الهند وفارس والصين، وبكلّ ما في الهند وفارس والصين من تراث وذكريات وتعبّد.
(لمن الربيع، ص ص. 66)
-4-
[نعم للزيتون: لا للهجرة]
وعندما اكتظ البيت بالنّساء خرج أبو إبراهيم إلى الزيتون، الزيتون – بل الملاذ الذي يهرب إليه أبو إبراهيم، وهو في الوقت نفسه مصدر ألمه، أبو إبراهيم يعرف كل شجرة من زيتونه، هذه الزيتونات الأمينات الكريمات، هذا المكان بالنسبة إليه حرم مقدس. إنه يكاد يعرف فيه حتى هذه الأنسام العابثة التي تمر بين أوراق الشجرة والأغصان- أليست هي بنات أنسام الصيف الماضي.
وهذه الزيتونات لقد عرفت عهداً لعلّه أبعد من عهد عبد الحميد، ثم عهد الانتداب، وهذا العهد الجديد، ولكنها بقيت رزينة ثابتة تقارع الزمن بهدوئها وصبرها وتأديتها لواجبها، فلم لا يكون هو مثلها؟ لماذا يهاجر ويتركها؟ لماذا لا يكون صابراً مثلها ليصبح غانماً قوياً؟ لماذا هو كقصبة في مهب الريح؟ لقد انتهى به المطاف إلى هنا فلماذا يجب أن يترك؟
(لمن الربيع، ص ص. 75، 76).
-5-
[جراح الأرض]
... كلّما ركب التراكتور وأخذ يحرث الأرض به، فيؤلف هذا التراكتور شقوقا وأخاديد في الأرض، إذا به بطريقة لا شعورية يضع يده على قلبه، إذ يخيّل إليه أن الأرض جريحة وأنها تئنّ، تئنّ من الجراح التي يحدثها هذا التراكتور الشامت. إنها تذكره وتعاتبه وتشكو إليه قصتها.. وهل نسي هو يوماً قصتها.. أليست قصة هذه الأرض هي قصة حياته بالذات.. وليس من المبالغة في شيء أنها تعرّف به، ويعرّف بها؛ شخصية واحدة.. لها وجهان؛ وجهه هو وما فيه من تجاعيد وشقوق وأخاديد، ووجهها هي وما فيه من تجاعيد وشقوق وأخاديد؛ ذلك في الخريف وفي الشتاء، في خريف الحياة وخريف الفصول، وفي الصيف والربيع يبشّ ثمرها وتضحك فاكهتها، فيبش هو وتضحك أساريره.
(لمن الربيع، ص ص. 81، 82).
-6-
[ حلم العودة ]
من يستطيع أن ينتزع مني ذكرى أيام بلادي.. وجهاد شعبي وعهداً قطعناه على نفسينا، أنا وشكري، أن نخلص لحبّنا وللوطن، في ساحة البيت المتهدم [هدمه الإنجليز في انتفاضة 36] وعند جذع الشجرة. إنه ذخر أنفق منه. إنه منهلٌ أعبّ منه. إنه واحة ظليلة ألجأ إليها ولطالما لجأت إليها، وسأبقى على عهدها مع أن الدرب ضيّق، والطريق شائك، هناك عرق ودماء. ولكن هنالك خيوط فجر.. أهي خيوط نور حقيقية أم هي أمانٍ مترسّخة في اللاوعي بأن يوماً فلسطينيا سيحين.. وسيهبّ عليّ النسيم المعطرّ ورائحة الأرض الطيبة وأرى أعطاف الزيتون، وفردوس ربيع البرتقال وأزاهيره البيضاء كالشموع المتّقدة؟ هل سأرى فلسطين؟ هل سأعود يوماً إلى ليلها ونهارها، شجرها وزهرها. قمرها ونجومها؟ هل سأعود يوماً إلى قدسها وكرملها، إلى بحرها.. إلى الزعتر والشومر، إلى الشقيق وعصا الراعي، وإلى أحبّتي؟ منهم من رقد ومنهم من هرم.. إلى أبي.. إلى خالتي الحلوة إلى حبّها المأساوي، أعرف أنها ما زالت في بيتها.. وأمي تعيش معها.
(سكان الطابق العلوي، ص ص. 140، 141).
-7-
[ القمر الجميل ]
القمر جميل رغم كل شيء، رغم أن الإنسان وصل إليه ووجد ما وجد من أرض وفوهات براكين، وانحدار وارتفاع.. سيبقى القمر جميلا في ليلي أنا، المضيء الفارغ...
ها هو القمر يتجلى في كبد السماء، راضيا قانعا، والنجوم أيضا تشعشع بهدأة ورضى. الانسجام والهدوء والتعاطف تسود الأفلاك. وأكاد أسمع في دوراتها الروتينية المتجددة في رتابتها موسيقى سيمفونية رائعة، بل ها هي الأزهار القريبة من تموز، ولكن ضمن رضاها وخضوعها لنواميس الطبيعة، وكذلك أشجار السّرو التي أحبّها، والتي تحرس جوانب البستان، تتهادى أغصانها بثقة ورضى، فلماذا لا أرضى عن اختياري وردود أفعالي، وأنا كذرّة ممعنة في الصغر في كون تتحكم فيه قوى أكبر مني؟
(من اللقاء، ص ص.21- 25).
-8-
[ بيارات البرتقال ]
[ بعد غياب طويل استمر عدة سنوات، تلاقى المحبّان مصادفة في مقهى صغير عند شاطئ البحر، فسأل كل منهما الآخر عن عمله ومعيشته، وعندما انتقل الحديث بهما إلى الماضي، قالت:]
أرجوك، لا أريد أن أثير الماضي، ولكنني أريد أن أقول هذا: لقد تعلمت أن أقبل ما تقدمه إليّ الحياة... إني أعتبر حياتي وحدة.. ماضيها وحاضرها ومستقبلها كله مهم، يسير عليه الزمن بخطاه، ويختم عليه بتوقيعه ويحيله إلى ذكريات. في بستان البيت الذي نعيش فيه شجرة برتقال، وقد استطعت أن أجني من هذه الشجرة سعادة بقدر لن يتصوّره أحد، وخاصة عندما تطل أزهارها البيضاء، ويعبق ما حولها بالأريج المثقل بالذكريات. إنها بالنسبة إليّ هيكل أتعبّد فيه.
وأحسّ بالعبرات تخنقه، وبلحظة اختفى ما حوله.. حياته.. المدينة الصاخبة التي يعيش فيها، وزوجته، وأولاده، المرأة الأخرى، وإذا به ..... في فلسطين، في بيارات البرتقال المسيّجة بشجر السّرو الفارع الدقيق والذي انعقدت عليه أكاليل من "المدّيد" بزهرها الأحمر، والمكان يعبق بهذا العطر الذي كأنه اختزن أحلام الأجيال.. وهذه المرأة التي تجلس قبالته الآن تسير معه، كأنهما في فردوس، نعم فردوس.. جنة عدن بعد أن هيّأها الله وخلق حوّاء، وفرح بها آدم.
(اللقاء، ص ص. 38- 39).
-9-
[ البيت الجميل ]
كانت تستقبلنا في المدخل النباتات البيتية في أصص وقوارير بأوراقها الخضراء الداكنة المتحابكة، والتي امتدّ بعضها فتعلق بالجدار على "الفرندا" ذات الأقواس الجميلة، وتذكرتُ بيتنا الجديد وكله خطوط مستقيمة وزوايا قائمة.
كان الوقت خريفاً، وقد تعرّت بعض الأشجار، واسودّت أوراقها بينما اكتسب بعضها لوناً نحاسياً أو ذهبياً.. أما أشجار الصنوبر فبقيت في خضرتها العميقة، يطل من بينها هذا القرميد الأحمر، وتبدو من بعيد أشجار الزيتون التي تربّعت على منحدرات التلال، التلال التي يشتغل الفلاحون بتسوية أرضها وتجديرها، وهي الوسيلة العملية التي تكسبهم أرضاً زراعية.
(اللقاء، ص 52).