ريبورتاج وتصوير: ربى عنبتاوي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أصبح من الواضح في الأراضي الفلسطينية ان يرتبط اسم الأديرة والكنائس بمنظومة اقتصادية تنموية تؤمن قوت اليوم لقاطنيها، وتضفي جواً مدهشاً من محاكاة الحياة الريفية حيث تستغل خيرات الأرض من نبات وتربية حيوان، لاستمرار الحياة للإنسان الذي ينتج ما يأكل، فلا ثقافة استهلاك مفرطة ولا أعباء على البيئة، بل كل شيء يدور في فلك تنموي تحكمه قوانين الاكتفاء الذاتي وتختصره المقولة الشهيرة "القناعة كنز لا يفنى".
جولة "مجلة آفاق البيئة والتنمية" في هذا العدد كانت في دير حجلة الواقع شرقي محافظة أريحا، (تبلغ مساحته الأصلية 4 آلاف دونم، صادر الاحتلال منها 1000 دونم تحت دواعٍ أمنية). ويمكن تمييزه بوضوح من خلال قبته الذهبية الساطعة وسط صحراء قاحلة تربتها شديدة الملوحة لكنها محاطة بخضرة ما كان لها أن تنتعش لولا وجود عين ماء لا تنضب "عين حجلة" التي جعلت الحياة ممكنة فيها لأول ناسك اختار هذا المكان" جيراسيموس" قبل ما يقارب الـ 1600 عام.
|
|
الطاووس بين أشجار النخيل الكبيرة في دير حجلة |
الطاووس صديق الأب خريستو في دير حجلة |
من أقدم الأديرة
شُيّد الدير الذي يتبعه أبناء طائفة الروم الأرثذوكس، على يد القديس جيراسيموس سنة 455 ميلادية. بالقرب منه، كان دير مالاون الذي شمل كنيسة صغيرة بنيت أيام الرسل داخل كهف- يعتقد بأن السيدة مريم العذراء وطفلها عيسى عليه السلام مكثا هنا في الكهف، وهما في طريقهما لمصر هاربين من هيرودوس الذي قتل أطفال بيت لحم وأراد قتل الطفل عيسى. منذ سنة 617 ميلادية أصبح دير مالاون ودير جيراسيموس ديراً واحداً يعرف باسم دير حجلة (دير جيراسيموس).
بقي الدير الذي يعد من أقدم الأديرة في العالم بسيطاً في معماره، موحشاً وسط صحراء أريحا، حتى جاء الراهب "خريستو توموس" الذي يوصف بالمجتهد للتحسينات الكبيرة التي أجراها للدير منذ استلم رئاسته قبل اربعين عاماً، فحوله الى واحة خضراء أو جنة تجمع القداسة الروحانية من خلال ترميم الكنيسة وتزيينها بالفسيفساء مع الجمال الطبيعي المنتعش بعين الماء، تزيد عليه محبة الأب خريستو لتجربة كل الزراعات المختلفة بطرقها القديمة والمبتكرة، وتربية معظم حيوانات المزرعة.
|
|
الغطاء الأخضر والتنوع النباتي ينتشر في جميع أنحاء دير حجلة |
المزارع مهند القنوع والسعيد في دير حجلة |
الماء والخضراء والعمل الدؤووب
"كل يوم يصرّ الأب خريستو على اطعام الطيور بنفسه، فيدخل الى اقفاصها وينثر الحبوب ويتأملها ويتفقد أحوالها، ثم يطل على الخيل والجمال والأغنام، وأخيراً يتنزه بين بساتين النخيل والحمضيات ويتلو الصلوات" يقول المزارع مهند الغروف أثناء تجواله مع "آفاق".
يذكر الثلاثيني "مهند" ابن أريحا المزارع المبتسم والمنغمس في حب مهنته أصناف التنوع الزراعي على مساحة 320 دونماً من أرض الدير، حيث تنتشر مختلف انواع المزروعات المناسبة للجو الحار لمنطقة الاغوار فتزرع الحمضيات والنخيل والبابايا، والرمان، ومن الخضروات الثوم والفلفل والباذنجان والملفوف والأرضي شوكي، والبندورة. وأيضاً يزرع الشعير والبرسيم والصبر والبطيخ والذرة.
يضيف المزارع الذي ورث حب المهنة من أبيه وجدّه ومارسها معظم حياته من خلال تضمن اراضي وزراعتها: " تركت الزراعة بعد أن أعدنا الأرض لأصحابها بسبب غلاء أجور الأراضي، واتجهت للعمل في مغسلة ملابس، ولكن عشقي للزراعة دفعني للتوجه للبحث عن عمل بما يناسب خبراتي، فاتجهت لدير حجلة وقابلت الأب خريستو الذي وافق دون تردد على تشغيلي واستأنفت حبي للزراعة في هذا الدير الهادئ والمليء بالمودة".
|
|
بيوت الحمام رمز العلاقة الطيبة بين الإنسان والحيوان في دير حجلة |
تربية الأسماك في دير حجلة حيث يستخدم روثها لتسميد التربةا |
لا مستحيل حتى في الصحراء
من مهمات مهند الصعبة كانت عملية استصلاح التربة المالحة وجعلها قابلة للزراعة، وهذا لم يكن ممكناً من دون استخدام الاسمدة العضوية التي تتوفر بكثرة في الدير من مخلفات الحيوانات وبقايا النباتات، بحيث تخفض عملية التبخر "النتح" للنباتات المزروعة، وتحافظ على عملية تراكم الرطوبة في التربة، وتؤمن التغذية المتكاملة من التربة من العناصر العضوية والمعدنية، وتقي النباتات من الأمراض الناتجة عن ملوحة التربة، وتحسن من نوعية المحاصيل وتزيد من كمية الانتاج.
في مساحات ليست ببعيدة عن البساتين، يربي الدير الخيول والجمال والاغنام والخراف والطيور بأنواعها كالدجاج والحمام والبط والطواويس، يقول مهند: "تتواجد الخيول والجمال في مزرعتنا لأغراض سياحية ترفيهية حيث يحب كثير من السياح ركوبها وأخذ الصور الفوتغرافية بصحبتها. كما نهبُ "بكل ود" أي أحدٍ يسألنا عن حليب النوق لأغراض علاجية خاصة انه يوصف لعلاج السرطان".
|
|
تربية الأسماك في دير حجلة حيث يستعمل روثها العضوي في تسميد التربة |
تربية الجمال في دير حجلة |
اكتفاء ذاتي
لا يشتري الدير للحم او الجبن أو البيض من الخارج، بل تزوده المزرعة بكل ما يحتاجه، وكذلك الأمر للخضار والفاكهة في موسمها، مع اضطرارهم احياناً لتغطية النقص منها في غير موسم الانتاج.
"روث الحيوانات وزبل الطيور يستخدم كسماد للتربة، المواد الكيميائية لا تدخل مزرعتنا أبداً". يقول مهند وهو يمسك حبة بابايا يانعة.
ومرورا باسطبلات حيوانات المزرعة، يشرف الشاب العشريني من مدينة التعامرة في بيت لحم أحمد على عملية تربية الحيوانات ويقوم بجمع البيض وذبح الخراف والطيور، يقول: " تصلني التعليمات من الأب خريستو بأن علي أن اذبح خروفاً او حماماً، اقوم بالمهمة ويرسل اللحم أو الدجاج الى طهاة الدير ومعظمهم من اليونان، ثم يدعوننا جميعاً للغذاء (الرهبان والعمال) في صالة الطعام". يذكر أن عدد العمال الفلسطينيين في الدير يصل الى 35 عاملاً من سكان المنطقة.
يشير احمد وهو يمسك بغنمة استعداداً لذبحها، إلى ان الدير ربّى في الماضي الغزلان لكنها صودرت من قبل جمعية حماية الطبيعة الإسرائيلية، كما ربى النعام وهو مستعد لتجربة كل ما يمكن تربيته من حيوانات المزرعة".
"يحبون تناول اللحوم والأسماك وطبعا لا تخلو أطباقهم من الخضار، وهم يتمتعون بصحة جيدة وقلّما يصابون بوعكات صحية". يقول مهند مؤكداً ان الغذاء العضوي ونمط الحياة السليم والهواء النقي البعيد عن التلوث وراء تمتع الرهبان بالصحة والعافية بحمد لله.
|
|
تربية الحمام في دير حجلة |
تريبة الأغنام في دير حجلة |
الزراعة المائية
في جهة اخرى من الدير، بركة بمساحة 800 متر مربع وعمق يمتد من (متر إلى 10 امتار) مليئة بمئات الاسماك من نوع المشط، هذه البركة تستقبل مياه النبعة النقية التي تضخ 30 كوباً في الساعة، جهزت صناعياً وزودت بجهاز فلترة ينقي المياه من الفضلات الصلبة قبل ريّها للبساتين، حتى لا تغلق الأنابيب، فيما يتم جمع زبل السمك في الصيف بعد تقليل منسوب المياه (لاصطياد المشط) ليستخدم كسماد صلب يوضع حول الاشجار.
|
|
تقطيع الحجارة في ورشة صناعة الفسيفساء بدير حجلة |
زراعة البطيخ في دير حجلة |
مشغل الفسيفساء...قصة أخرى
ويعرف الدير ايضاً بصناعة الشموع لإنارة الكنائس ورسم الأيقونات الدينية، والتي يتم عملها في مشاغل متخصصة، لكن الأهم في الدير هو مشغل الفسيفساء والذي يعد الاول فلسطينياً نظراً للتفرد في الشكل والمضمون، وقد تأسس قبل ست سنوات بأمر من الأب خريستو حين وجد لوحة فسيفسائية قديمة في الدير فأمر بملء الدير كله بالفسيفساء فريدة الحجارة والمأخوذة من مختلف دول العالم حتى أن الذهب يدخل في بعضها، فيما يتميز المضمون بمحاكاة أهم لوحات الفسيفساء المنتشرة في الكنائس، أمثال لوحة مادبا البيزنطية التي تم اعادة احيائها من خلال جدارية ضخمة في الدير.
"أي فن هو رسالة للمحبة والسلام، اعمل هنا بعيداً عن أي توترات خارجية، الكل هنا يحترم ويحب الآخر" يقول الشاب ابن اريحا محمود الذي يصنع لوحات تعكس مضامين ورموز الأديان السماوية الثلاثة، حيث يطبق النماذج التي يرسمها الفنانون المختصون على القماش إلى لوحات فسيفسائية غاية في الجمال والإتقان.
ما يميز هذا الدير عدا عن منظومته البيئية المستدامة، ونبعته وبساتينه، وجمال لوحاته الفسيفسائية هو أنه مفتوح للجميع للتمتع بهذه الطبيعة المدهشة وقضاء الأوقات الممتعة، وبلا شك، أخذ الافكار نحو تعزيز ثقافة الانتاج وتعميق الانتماء للطبيعة في زمن الاستهلاك والزحف الاسمنتي المرعب.
نيسان، 2015
|
|
زراعة الثوم في دير حجلة |
شجر البابايا في دير حجلة |
|
|
صناعة الفسيفساء في دير حجلة |
صهر الشمع التالف لإعادة تصنيعه من جديد في دير حجلة |
|
|
كنيسة دير حجلة المليئة باللوحات الفسيفسائية |
لوحة فسيفسائية صنعت بدير حجلة شبيهة بلوحة فسيفساء مادبا التاريخية |
|
|
لوحة فسيفسائية لقبة الصخرة المشرفة صنعت في دير حجلة |
مشغل تصنيع الشموع في دير حجلة |
|
|
ورشة تصنيع الشمع في دير حجلة |
ورشة تصنيع اللوحات الفسيفسائية في دير حجلة |
|
|
أشجار نخيل مميزة في دير حجلة |
القبة الذهبية في دير حجلة |