خاص بآفاق البيئة والتنمية
مزج الشاب المقدسي فادي عميرة وهو المتخصص بعلم المساحة ورسم الآثار والفن التشكيلي، بين شغفه بالتصوير وحبه للتطوع الذي أصبح نهج حياة فردي يمارسه أسبوعياً لا بل يومياً منذ العام 1998 كموثق للتاريخ الفلسطيني، ليحوله في العام 2008 إلى مبادرة جماعية حملت اسم "نبض القدس" وذلك من خلال تجوالات خصص جلها للقرى الفلسطينية المهجرة.
عادة ما يقوم عميرة بزيارة المنطقة لوحده مستكشفا، قبل أن يستعين في مرحلة لاحقة بمرشد متخصص بالتاريخ والجغرافيا لرسم خارطة التجوال، لكن ذلك لا يعفي من البحث أيضاً عن أحد كبار السن من سكان القرية الأصليين ليقودهم والمجموعة في جولة تعريفية وتوثيقية إن أمكن.
يعتبر فادي من أوائل من قادوا هذه التجوالات المنظمة في فلسطين، والتي أمست اليوم عديدة، يخرج منظموها في مجموعات صغيرة وأخرى كبيرة، لتصبح واحدة من أهم أنواع السياحة المعروفة.
وخلال السنوات القليلة الماضية برزت مجموعات تضم العشرات من الفلسطينيين بعضها متخصص بالتجول في الضفة الغربية ذات المساحة الصغيرة نسبياً. في أيام العطل الرسمية وفي استراحة نهاية الأسبوع يمكن رؤية مثل هؤلاء يقطعون السهول ويصعدون التلال والجبال في رحلة تستغرق نهاراً كاملاً.
وتعرف سياحة التجوالات أو ما يطلق عليها علمياً السياحة البيئية على أنها "قيام الأفراد بالتوجه سيراً على الأقدام نحو الأماكن الطبيعية وما يشاركها من مناطق أثرية بغرض الاستمتاع والمعرفة وتشجيع المحافظة عليها بمشاركة المجتمعات المحلية".
ويمكن أن ينظر إلى هذه الحركة التي تأخذ أحياناً طابعاً شعبياً وأحياناً أخرى طابعاً منظماً، على أنه إعادة اكتشاف التاريخ من باب الجغرافيا.
لكن تبقى الاسئلة تتمحور حول أهمية هذه التجوالات، قواعدها، وسلبياتها، وما هو المطلوب لدعمها وضمان استمرارها، كما سيقدم لكم هذا التقرير مقترحات لمسارات تجوالية.
أنور حمام، واحد من قيادات هذه المجموعات التي تمشي أسبوعياً في معظم مناطق الضفة الغربية، يشير إلى أن كل ما في فلسطين يدعو للمشي والاكتشاف.
ويوضح" ساعدنا التجوال على الاطلاع على التنوع الحيوي الكبير الذي تتمتع به فلسطين، نخرج فنتعرف على الينابيع المتروكة، لم أكن أعلم أن شقائق النعمان ذات ألوان عديدة فاكتشفت أن هناك البنفسجي والأحمر والأسود، المشي يعيد ترتيب مفهوم الوطن ويصبح له رجلان يمشيان على الأرض، وهذا جزء من المقاومة والصمود".
ومعروف أن فلسطين التاريخية ذات تنوع حيوي هائل. وفي أشهر الربيع القصيرة تزدان بغطاء نباتي فسيفسائي مدهش.
يقول عماد الأطرش وهو الرئيس التنفيذي لجمعية الحياة البرية التي تتخذ من بيت ساحور مقرا لها " هذه التجوالات وهذا النوع من السياحة الداخلية والبيئية تعدّ مصدراً هاماً للدخل، هذا اذا ما تم ربطها بالسياحة البيئية والتي تعتبر مجتمعة عوامل جذب تضاف إلى موقع فلسطين وطبيعتها وتاريخها والحضارات التي تعاقبت عليها".
ذاته الاطرش يقود أسبوعيا مجموعات متخصصة تعمل على دراسة التنوع الحيوي في الضفة الغربية. وقال" نمشي اسبوعيا في كل يوم فهناك دائماً جديد".
في حين يرى عميرة أن أهمية تجوالاته تتلخص في التوثيق، وهنا يضرب في قرية قالونيا المهجرة مثالاً قائلاً: "وثقت معالم القرية قبل سنتين لنعود اليوم إليها فنجدها قد طمرت وتم مسح معالمها عن بكرة أبيها، طمر الاحتلال أربع عيون مائية، كل هذا بسبب خط القطار السريع ومشروع 2020 الصهيوني".
تبدو هذه الرحلات التي أخذت تنشط يوما بعد يوم، مثل شهادات عينية على ما يجري فوق سطح الارض من تغييرات يومية تطال الجغرافيا ومكوناتها.
صورة جماعية لمجموعة نبض القدس في قرية قالونيا المهجرة-تصوير فادي عميرة
أعراف التجوال
يعتبر المتجولون ضيوفاً على البيئة، لذلك عليهم احترامها والالتزام بوصايا ثلاث تتمثل في: لا تقتل، لا تقطع، لا ترم، وهذا يفرض على التجوال أن يُخطّط وينفذ ضمن قواعد محددة تحترم الطبيعة ومكوناتها الحيوية من حيوانات ونباتات.
وفي هذا السياق يؤكد الاطرش على ضرورة مرافقة دليل مؤهل ومطلع على مفاهيم السياحة البيئية لهذه المجموعات، لذلك تجده ممتعضاً من بعض المبادرات الفردية التي عملت وتعمل على تدمير البيئة خلال التجوالات فتجدهم يقطعون الأشجار ويقطفون الأزهار النادرة، والنباتات البرية، ويهدمون أعشاش الطيور التي يبنى بعضها على الأرض مثل طائر القُبرة، ومنهم من يهاجمون الضفادع أو يقتلون الأفاعي، وتزداد حدة هذه المشكلة اذا كانت المجموعة كبيرة وخط المسار هو خط واحد لا يتسع الا لرجل واحدة.
الخروقات التي تحدث عنها الأطرش لم نجدها عند مجموعتي "نبض القدس" و "امشي واتعرف على بلدك"، فهم مؤمنون بأن التجوال يفترض أن لا يكون عشوائياً، بل منظماً يعتمد على قواعد وأسس ثابتة، فمجموعة "امشي اتعرف على بلدك" أسست لقاعدة إدارية مكونة من ثلاثة عشر متجولاً مهمتهم الأساسية الاجتماع ومناقشة ترتيبات الفريق، فيختارون المسارات مسبقا.
واليوم مثلاً تجدهم قد أنجزوا برنامجاً للمسارات يستمر حتى رمضان المقبل، وقد سمح لكل شخص من الملتزمين بالتجوال اختيار خمسة مسارات للمشاركة فيها، في خطوة من المنظمين لضمان أكبر مشاركة ممكنة للجميع، كذلك نجد لديهم شخص مسؤول عن التصوير والتوثيق وآخر مسؤول عن السلامة العامة.
ويحرص منظمو التجوالات على مقاطعة البضائع الاسرائيلية، واستخدام إشارات تحديد المسارات، الالتزام بالوقت، احضار كميات كافية من المياه، لبس الأحذية المريحة.
طبق القلاية وهي من ضمن الأكلات الفلسطينية التقليدية، إحدى أهم أكلات التجوالات، يعدها المتجولون-تصوير ابتسام سليمان
التنوع الحيوي والمناخ في فلسطين
تكمن أهمية التنوع الحيوي كأحد مكونات السلة الغذائية في تأديته وظيفة محددة في النظام البيئي كونه يقوم بتحويل الطاقة ونقلها من مستوى غذائي إلى آخر، وبالتالي فإن أي خلل في هذا النظام يحدث فجوة في السلسلة الغذائية ويؤدي إلى ضعف وفقدان القدرة على تحويل الطاقة.
فلسطينياً، تتكون الحياة البرية من النباتات والحيوانات والأحياء المائية، وقد صنفت جمعية الحياة البرية في العام 2012 وفقاً للأطرش، أكثر من 320 صنفاً من الطيور، و 40 صنفاً من الثدييات، وأكثر من 1500 صنفاً من النباتات، وأكثر من 20 نوعاً من الزواحف، و 40 صنفاً من الفراشات، لتعتبر هذه التصنيفات قاعدة معلوماتية بيئية فلسطينية موحدة.
يقول الأطرش موقع فلسطين يساعدها على التنوع الحيوي فهي تتوسط قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ويضيف: " هناك طيور منتمية لمناخ فلسطين وهذا يفتح باب السياحة العالمية، الطيور المحلّقة تصل الأغوار من البقاع اللبناني، حوالي 500 مليون طير يمرون سنويا فوق أجواء فلسطين خلال الهجرة الخريفية من أوروبا لفلسطين ومن ثم إلى جنوب افريقيا، لتقيم أعداد ضخمة منهم في فلسطين ما بين فصلي الخريف والربيع وتبنى أعشاشها وتضع البيض.
وبحسب الأطرش، فإن المناخ يعتبر أحد العوامل المساعدة على التنوع الحيوي في فلسطين، ففيها المناخ الصحراوي وشبه الصحراوي، والمناخ الجبلي ومناخ الأغوار ومناخ السهل الساحلي، وهذا يساعد في تعدد أنواع النباتات وأعدادها، لذلك لو كنا نعيش في وضع سياسي طبيعي، فإن المسافر من غزة حتى أريحا سيمر بجميع هذه المناخات تقريباً وهذا أمر تنفرد فيه فلسطين.
مجموعة امشي اتعرف على بلدك
مسارات فلسطينية
حبا الله فلسطين بمناخ وطبيعة يتوجب على الجميع زيارتها والاستمتاع بها، وهنا يرصد لنا السيد الأطرش عدداً من المناطق الفريدة التي تستحق الزيارة وهذه المناطق هي:
نهر الأردن والأغوار الفلسطينية: (وادي الأردن / حفرة الانهدام)، حيث النظام المناخي والبيئي الفريد من نوعه في العالم إضافة لكون المنطقة محطة هامة للطيور المهاجرة التي تعبر أجواء بلادنا خلال هجرتها الخريفية والربيعية، هذه الطيور المهاجرة تعتبر اليوم في العالم أحد مصادر السياحة البيئية كون الملايين من هواة الطيور يهتمون بمتابعتها ومعرفة المزيد من المعلومات عنها.
البحر الميت: بما تحويه مياهه من أملاح معدنية نادرة تستخدم في العلاج الطبيعي لعدد من الأمراض إضافه للمناخ المميز في المنطقه والمنظر الطبيعي الخلاب للمنطقه والجبال المحيطة بها، وليس بعيدا عنها توجد للينابيع والمجاري المائية، وفي المنطقة ايضا تنوع حيوي مميز.
عيون العوجا/محافظة أريحا، والباذان والفارعة/محافظة نابلس وادي القلط وعيون الفوار وفارة/محافظة القدس، وعيون قينيا/محافظة رام الله ووادي غزة كمناطق رطبة حسب التصنيف العالمي لتلك المواقع، كما أن لها نظاما بيئياً خاصاً يجب المحافظة عليه وصيانته، وتضم هذه المناطق تميزا في التنوع الحيوي وخاصه الطيور المائية التي تصل إليها في فصل الشتاء والربيع.
برية القدس، دير مارسابا، وادي خريطون، الفرديس/محافظة بيت لحم، والمناطق المحيطة بها تمتاز بمواقعها التاريخية الهامة، إضافة إلى مناخها الشبه صحراوي وطبيعتها المتصلة بالنظام البيئي المتصل بنظام البحر المتوسط وتنوعها الحيوي كونها منطقة هامة كمسار للطيور المهاجرة والطيور المقيمة أيضاً.
"مدينة القدس " يعتبر تراثها الديني والحضاري والتاريخي وما فيها من مناطق تروي تاريخ الأمم والشعوب والحضارات التي مرت عليها يجعلها بلا شك من أهم مواقع السياحة البيئية، ومن جانب آخر فإن أسوارها التاريخية تشكل موقعاً لتعشيش طائر العويسق المهدد عالميا بالانقراض، هذا الطائر الذي تهتم جمعيات البيئة العالمية بالمحافظة عليه، وإن تبني مفاهيم السياحة البيئية في هذه المنطقه سيعمل بلا شك على المساعده على حمايتها.
المناطق والغابات الطبيعية في مناطق أم الريحان في محافظة جنين، وأحراش النبي صالح وأم الصفا في محافظة رام الله ومنطقة وادي المخرور/بيت جالا ومناطق غابات وادي القف في محافظة الخليل، التي تضم مساحات واسعة مزروعة بالأشجار الأصلية لبلادنا، في مثل هذه المناطق يمكن تنظيم جولات سياحية متعددة الأغراض سواء كانت ترفيهية، أو رياضية أو تعليمية.
برك سليمان وقرية أرطاس في محافظة بيت لحم، جبل جرزيم حيث يضم الطائفة السامرية التي تعتبر أصغر طائفة موجودة في العالم ويقدر تعدادها بـ 780 فرداً، ويعود تاريخها لفترة النبي موسى والتي لا تزال تحافظ على عاداتها وتقاليدها حتى الآن.
مفتاح أحد البيوت التي هجر أهلها في قرية قالونيا-تصوير فادي عميرة
ما هو المطلوب؟
الأطرش الذي يعتبر الدليل البيئي الوحيد في فلسطين الحامل لرخصة مزاولة مهنة، وقد تخرج على يده من كلية الكتاب المقدس المئات من الشبان الذي حصلوا على مساقات تثقيفية ذات علاقة لكن لم يمنحوا بعد الرخص لمزاولة المهنة، يذكر قيامه مؤخراً بالتعاون مع وزارة السياحة والآثار بالتحضير لتخصص جامعي فرعي ليُدمج بالمناهج الجامعية، وسيبدأ بتعليمه مع مطلع العام الدراسي القادم.
في حين يرى حمام ضرورة تشجيع مهنة الدليل السياحي وإن اقتضى دفع مبالغ عالية فهذا مهم في دعم هذه المهنة والحفاظ عليها، كما يطلب من وزارة السياحة والآثار ايلاء اهتمام أكبر ببعض المسارات والاهتمام بها وجعلها صالحة للاستخدام، إلى جانب توجيه الرحلات المدرسية نحو الطبيعة والجبال، ويعتقد حمام أن التأسيس للجنة وطنية كبيرة تنظم هذه التجوالات يعتبر أحد المطالب الضرورية التي يجب المناداة بها.
في منتصف التجوال، يجلس المتجولون ليأخذوا قسطاً من الراحة، يشاركوا بعضهم البعض مائدة وزعت أطباقها على ثرى الوطن، يأكلون ما لذ وطاب من خيراتها، بغبطة وحيوية يرجعون مع مغيب الشمس إلى بيوتهم، يتسارعون بتحميل صور التجوال على مواقع التواصل الاجتماعي، يعممون المعرفة، ويشاركوا الجميع لحظاتهم في ربوع الوطن، لتأتي أحدهم رسالة من فلسطيني مقيم في الشتات يقول فيها: شكرا لأنك تعيدني إلى فلسطين برحلة عودة أسبوعية.