خاص بآفاق البيئة والتنمية
أنهى الستيني صلاح يونس خضيري، 21 سنة في الغربة، وعاد إلى أرض الوطن، وبدأ يقضي معظم وقته في حديقة منزله الصغيرة بمدينة طوباس، مثلما يحافظ على طقوس يومية بتنظيف الشارع الملاصق لبيته، ورشه بالماء.
يقول: أستهل نهاري بالاستيقاظ المبكر بعد صلاة الفجر، لأدخل إلى مزرعتي، وأتفقدها، وأروي شجرها، وأقطف ثمارها، وأعتني بفسائل التين والعنب والتفاح التي زرعتها بنفسي، وأوزع بعض الغراس الصغيرة على المعارف والأصدقاء.
صلاح خضيري- من أرشيفه القديم
غرس الأمل
ومما لا ينساه خضيري، يوم شاهد شجرة تينة عند قريبه في شهر آب، وطلب أن يأخذ منها فسيلة للزراعة، فقال له صاحب الشجرة، إن موعد الزراعة في الشتاء، فأصر على أخذ غصن منها، وغرسه، واعتنى به ليصبح اليوم شجرة كبيرة، تعطي تينا كثيرًا.
يضيف: أزرع الكثير من الأشجار والمحاصيل، وأجلس في حديقتي المحاطة بالأزهار، وأراقب عصفور الشمس الفلسطيني والهدهد، وأسعد بالزيتون الذي يتدلى مثل العناقيد، وأتابع أشجار التفاح والإجاص والتين القزمي.
صلاح خضيري
تعليم زراعي في مهب الريح
يتابع: تراجع التعليم كثيرًا، ولا أنسى كيف كنا نتناوب في درس التعليم الزراعي على السهر في مزرعة دواجن تابعة للمدرسة، وكنا نأخذ معنا فراشنا، ونعمل طوال الليل لمراقبة درجة الحرارة المناسبة لتفقيس البيض، فيما كنا نزرع حديقتها الواسعة ( نحو 88 دونماً) بالخضروات والفواكه والقمح، وتعيش معنا طريقة المعلم علي حسن ووصفي الكرمي.
يواصل: تغير كل شيء من حولي، واختفى منهاج التعليم الزراعي من المدارس، ولم يعد الطلبة يشاهدون حدائق أو أشجار أو فقاسات.
تحتوي وثائق الخضيري على الكثير من أشعار المعلقات التي تسكن في قلبه. وعودةً لسنوات الدراسة، يتذكر طريقة تعلمه الذاتية للإنجليزية، ولا ينسى طريقة فهم الكيمياء واستيعابها، للفصل بين العناصر. يقول: أي معادلة تعتمد على العناصر وتفاعلاتها، فالثلاثية منها مجموعة اختصاراتها في كلمة البفكا ( ألمنيوم، وبتموس، وحديد، وكروم)، والأحادية في كلمة ناليكاج (صوديوم، وبوتاسيوم، وبوتاسيوم، وفضة)، أما بقية العناصر فثنائية.
كما يحتفظ خضيري بأوراقه ووثائقه القديمة، ويقول: من لا يهتم بمستنداته ويصنع لنفسه أرشيفًا ذاتياً به، سيخسر الكثير، وسيشعر أيضًا بالندم، فهي مسألة ممتعة ومهمة في وقت واحد.
يروي: بدأت بمهمة جمع وثائقي وتبويبها منذ عام 1971، يوم التقيت بمدير مدرستنا السابق، الذي يحتفظ بشهادة ولادة تركية لم تطو أو يتغير شكلها، وبدت جديدة رغم مرور سنوات طويلة على إصدارها، ومنذ ذلك اليوم لم أثنِ أي ورقة، واشتريت يومها حقيبة ألمانية لملفاتي.
من أرشيفه التاريخي- صلاح خضيري
غربة ووطن
تنقل خضيري، المولود في طوباس في شباط 1947 بين الكويت وليبيا والأردن ومصر والسعودية، وعمل بشهادة الثانوية العامة التي حصل عليها عام 1964، وأسس مكتبًا هندسيًا، وأتقن الإنجليزية بطلاقة بعد أن تعلمها بمفرده، بلكنتها الصحيحة.
يسترد: "حصلت على معدل 76,8 في الثانوية العامة، بفرعها العلمي، وأقامت عائلتي الاحتفالات ثلاثة أيام لتفوقي".
يستعرض خضيري مع "آفاق" بعض أوراقه، فتُعيده إلى أيام شبابه، ويتوقف عند سيرة تعليم بناته الخمس وولده الوحيد، إذ تفوقت البنات وحصلن كلهن على درجة الماجستير، وانتزعن تفوقًا في الثانوية العامة.
يقول: كنت أخصص ملفاً لكل واحدة من بناتي ولإبني، وأضع فيها الشهادات المدرسية، ونتائج الامتحانات الجامعية، وأوراق التسجيل، وسندات دفع الرسوم، وشهادات الولادة. وكذلك فعلت بملف الضرائب، والأعمال، والوثائق الشخصية الأخرى، ولم أكن أتلف أي ورقة، وأعتقد انها مهمة، وسأحتاجها في يوم من الأيام، وقد اكتشفت أن دائرة الأملاك اقتطعت الضريبة مني مرتين عام 91، وبفضل وصولاتي استعدتها.
وتعيش مع خضيري أوراقه، فيحتفظ ببعض الطوابع الأردنية، وبوثائق غربته، التي امتدت إلى 21 عامًا، ويتوقف طويلاً عند رخصة القيادة الصادرة في مصر عام 1968. ينهي: أجمل شيء أن يتقاعد المرء من عمله ليعيش مع أزهاره وأشجاره، ويبدأ نهاره بحديقته ويختتمه فيها.