"توثيق تجارب الحياة لا تقتصر على العظماء والمشاهير"
اسم الكتاب: تلك السنين
عدد الصفحات: 519
دار النشر: مطبعة النصر / الحجاوي (نابلس)
سنة الاصدار: 2014
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ما أن يتصفح القارئ لسيرة الشاعر والكاتب والمربي المتقاعد طارق عبد الكريم محمود إلا ويلتقط في صفحاتها الخمسمائة والتسع عشر رصد السارد للبيئة ومفاصلها، وتوثيقه لحكايات الأرض، وتقديمه للتراث.
يستهل صاحب السيرة ذكرياته المطبوعة، التي أبصرت النور عام 2014، بغزل يشتعل حبَا لبلدته عنبتا: " كنت أصحو على صباحاتك المشرقة، فأرى المزارعين يلمّلمون الندى، ويسقون سنابل القمح حبًا، ويغسلون ثمر الزيتون بعرق الانتظار.." (11)
مطر ومحل
مما يقوله في وصف المطر:" لا أنسى شتاء 1962، حيث كان المطر غزيرًا جدًا، واستمر هطوله ثلاثة أسابيع متتالية، وارتفع منسوب المياه في وادي البلدة (عنبتا)، ودخلت المياه عددًا من المنازل، وبدأت الأصوات تصرخ من هنا وهناك، لتعلن أن مياه الأمطار القوية دخلت إلى دار الحاج محمد عبد الرحمن نور، حيث كان فيها ثلاث غرف مستأجرة تضم صفوفاً لطالبات الصف الأول والثاني تابعة لمدرسة البنات، فهب الناس لإنقاذ الطالبات، وكنت واحدًا من مشاهدي المطر، ومن المهتمين بإنقاذ البنات، وكانت شقيقتي (نادية) إحدى طالبات الصف الثاني في هذه البناية. لقد دخل أمين البدران على حصانه، ومعه أسعد الشيخ على حصانه، وبدءآ ينقذان البنات بنتًا بنتاً، والشباب النشامى يتناولون منهما البنات، وفي نفس المشهد أخرجت الحاجة أم حلمي نور رأسها من شباك دارها القديمة المواجهة لتصيح بأعلى صوتها: "يا ربي يا حبيبي بكفي مطر"، وتكرر هذه العبارة مرات ومرات...
وكما كانت السماء تجود بالمطر في كثير من السنين كان انحباس الأمطار يحدث في بعض السنين، فقد انحبست الأمطار عام 1965، وتأخر نزولها وخاف الناس من حدوث القحط، وصادف أن قام عمر الخطيب المذيع في الإذاعة الأردنية بزيارة عنبتا، وسجل حلقة من برنامج "مع الناس"، والتقى بعدد من المواطنين منهم سليم الذوابي وجميل نصار، وكان المذيع في آخر كل لقاء يسأل الضيف سؤاله المعهود: بنحب نسمعك أغنية فماذا تحب أن تسمع؟ فأجاب جميل نصار: بحب اسمع أغنية عن المطر، فسمعه أغنية فيروز: ( شتي يا دنيا...) ( الصفحتان 88 و89).
يبوح بشوقه للشتاء فيسرد: "إن أكثر ما كان يستهويني نزول المطر، فكنت أخرج بملابسي، وأقف تحت زخات المطر، وأجد متعة في ذلك، فتلاحظ أمي ذلك، فتلحقني وتضربني وتغيّر لي ملابسي في الحال، وفي اليوم التالي أعود وأكررها وألاقي نفس المصير." (48)
مهن راحلة
ويكتب بحنين عن الماضي: " ومن المناظر المألوفة في عنبتا في الخمسينات والستينات منظر الملّايات، وهن نساء وصبايا كن ينقلن الماء على رؤوسهن بواسطة الجرار أو التنك من نبع الماء غربي البلدة المتعارف على اسمه (النبعة)...وكانت الملايات تجوب الشوارع والطرقات، وكان المنظر يتكرر بعد عصر كل يوم... وظل هذا المشهد يتكرر حتى بداية شهر شباط عام 1962، حين وصلت شبكة المياه جميع منازل البلدة." (106 و107).
ويتحدث السارد عن نساء ومنهن ذهبت وسط زحام اليوم كالعّشابات ( من كن يزلن العشب من الأراضي الزراعية بأجر)، والحطابات ( يجمعن الحطب من الجبال ويبعنه لأصحاب الأفران) (107).
ويوثق محمود حكايات الألعاب الشعبية المسلية في الستينات ( لص وحاكم وجلاد)، ومواسم الزيتون، وأفران عنبتا التي انقرضت، حيث كانت النساء تحملن العجين لخبزه، وشهر الصوم وطقوسه، وألعاب البنانير:" في طفولتنا كان كلما حل فصل الشتاء يحل معه اللعب بالبنانير، هذه اللعبة التي ورثناها عن الذين سبقونا، وما زالت تُورّث لجيل بعد جيل."(90، و102 و103).
ويتتبع الراوي مهن خمسينيات القرن الماضي، كالمجلّج ( الذي يجعل السكاكين والمقصات حادة)، ومبيض النحاس، والبوابرجي ( مٌصلح أدوات الطهي القديمة)، والمنجد (للمفروشات)، وحذاء الخيل. (99)
زراعات عضوية وجراد
ويرصد التغيرات التي عصفت بكل شيء تقريباً، فيقول: "لم نكن نعرف الفواكه إلا في مواسمها، إذ كانت قليلة جدًا، وقد كان اعتماد الناس على مواسم الصيف من عنب وتين وصبر وخيار وفقوس وبطيخ." (73).
وينقل أجزاء الكوارث الطبيعية فيكتب: " في سنة 1953 غزا الجراد فلسطين، أذكر تمامًا حينما كانت أسرابه تملؤ الجو، ولكونها حجبت الشمس عن الرؤيا، خرج كل الناس إلى حقولهم يحملون العصي والصفائح المعدنية لكي يضربوا بالعصي على الصفائح فيهرب الجراد، ولكن هيهات له أن يهرب، فقد أكل الأخضر واليابس، تشاءم الناس في ذلك العام وساء الإنتاج الزراعي، وغلت الأسعار مع فقر الناس الذي كان." (68).
ويقدم محمود صورة للماضي ببيوته وتماسك أهله: " كانت أسرة والدي تعيش جنبًا إلى جنب مع أسرة عمي نجيب، في دار تتكون من أربع غرف، وكنا شركاء في كل شيء، نأكل طبخة واحدة، ونسهر معًا، ونقضي أوقاتنا معًا، وكان بالقرب من بيتنا بيوت أعمامي الذي يعيش كل واحدٍ منهم مستقلًا." (60).
ويتابع وصف أحوال البيئة والتراث: كانت مواسم جدتي كثيرة، فيها البركة والعطاء، وكل من أبنائها وأحفادها يتذوقون طعم هذه المواسم من بندورة وخيار وفقوس وكوسا وبامية وصبر إلى جانب القمح والسمسم واللوز والزيتون، وكانت أشجار اللوز حول البيت كثيرة، كانت ترعاها وتحرص عليها، وكانت تتفاخر بأن جبلنا يكتسي حلة بيضاء تمنح المنطقة جمالاً ورواء في موسم إزهار اللوز. (41).
تغيّرات
ويعيد الراوي عجلة التاريخ إلى الوراء، فيرسم مشهدًا لعنبتا وأرضها وحقولها:" كانت زراعة القمح من أهم المزروعات، وكان السهل بساطاً أخضر، حتى أن بعض الأراضي الجبلية كانت تزرع قمحًا، كنت أنا وأبناء جيلي نجوب أرض السهل ذهابًا وإيابًا، تحف بنا الحقول المزروعة قمحًا عن اليمين والشمال، كانت تتراءى لنا ضاحكة، كنا نتوقف لنمتع أبصارنا بما نرى من حقول القمح، ونقول: هذا هو تعب الأجداد، وهذه هي محبتهم لأرضهم وعشقهم لها. وكان موسم الحصاد من أهم المواسم التي ينتظرها الجميع بدءاً من الفلاح مرورًا بالتجار وانتهاءً بالمواطن العادي. كانت كل شؤون الحياة مرتبطة بهذا الموسم، فالابن الذي يرغب في الزواج يسمع من أبيه عبارة (على الموسم)، والتجار تنشط أعمالهم في هذا الموسم، والذي يريد أن يبني بيتًا ينتظر هذا الموسم..." ( 95)
ولا يغفل السارد، الذي أبصر النور في عنبتا، عن سرد ذكريات عمه الشاعر عبد الرحيم محمود ( شهيد معركة الشجرة)، وتأريخ قصص النكسة والاحتلال والترحال ومسيرته التربوية الطويلة، فيما يلاحق الأحداث السياسية والرياضية والاجتماعية بقالب قصصي، ولغة بسيطة، مثلما يؤكد في بداية سيرته لمقالة نشرها أكد فيها أن توثيق تجارب الحياة لا يقتصر على العظماء والمشاهير، فكتابتها حق لكل إنسان قادر على الكتابة الفنية...بحيث تشكل تسجيلاً للمكان والزمان، وتتعرض للحياة التعليمية والسياسية والفنية والاقتصادية والاجتماعية." (5)
aabdkh@yahoo.com