متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي: تحفيز البحث العلمي في كل ما يحيط بنا...
د. مازن قمصية: كثير من الكائنات في فلسطين آخذة بالانقراض وعلينا التخلص من الاحتلال العقلي قبل الاحتلال السياسي
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في مبنى "معهد الشراكة المجتمعية" الذي تشي حجارته بعمر مبنى قديم يزيد عن نصف قرن، تنتشر عدة أشجار زيتون في حقل منحدر لا يكشف للوهلة الأولى عن أي غرابة أو مشهد لبيت غير مألوف، ولكن على الرغم من رتابة النظرة الأولى، إلا ان داخل هذا المبنى التابع لجامعة بيت لحم قسم بحثي أو متحف مبدئي سيكون في المستقبل القريب منارة علمية معرفية واعدة تحت اسم "متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي".
هذا المعهد أو المتحف حديث التأسيس، ينافس اليوم في ابحاثه عن الطبيعة وكائناتها تلك التي يعدها الاحتلال بزخم منذ سنوات طويلة، فمن داخل غرفتين صغيرتين وقاعة وفي كل البرية الفلسطينية، نجد البروفسور وعالم الاحياء الفلسطيني د. مازن قمصية ومائة من المتطوعين والمتطوعات يعملون سوياً ليوثقوا كل ما يجدونه امامهم ويخضعوه للدراسات البحثية، طمعاً في المعرفة وإعلاءً لصوت العقول الفلسطينية.
كل مغريات الولايات المتحدة والمعاش الجامعي المرتفع الذي كان يناله د.قمصية عالم الطبيعة والبروفسور في الطب الوراثي. الا أنه فضل العودة للوطن. "أمريكا لا تحتاج إلى علمي، بل وطني هو أحوج ما يكون للعلم والعلماء...، لذلك قررت العودة لأبدأ من الصفر في تأسيس متحف فلسطيني للأبحاث الطبيعية".
بتبرع سخي منه ومن زوجته "جيسي" الأمريكية، تم وضع حجر الاساس للمتحف، الذي تجده على الرغم من بساطته الشكلية، عميقاً في المضمون، فهو ليس متحفَ زوار بالمعنى التقليدي، لكنه معهد بحثي يحفز العقل على البحث والدراسة والصبر لإنتاج علم حقيقي ودراسات تنشر في أهم الدوريات العلمية وهذا ما حدث منذ تأسيس المتحف.
ويلفت د. قمصية إلى أن "دراسة أثر المستوطنات ونفاياتها على الكروموسومات" هي الأولى من نوعها نشرت في أهم الدوريات العالمية.
|
|
أصداف للبحث العلمي في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة بيت لحم |
البحث المخبري على الفئران في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة بيت لحم |
الموت يغيب خاله سنا لكنه باقٍ والدليل المتحف
صاحب الاثر الكبير على د. قمصية في اختياره دراسة الاحياء والتعمق فيها هو خاله عالم الأحياء الفلسطيني الأول "سنا عطا الله" الذي رحل مبكراً في حادث سير مؤلم في ايران عام 1970، بعد نيله بأشهر قليلة شهادة الدكتوراة من جامعة كونيكت في الولايات المتحدة، وكان من اوائل من أجرى الدراسات البحثية حول الطبيعة وكائناتها.
قرر مازن الشاب ان يكمل مسيرة خاله الذي رحل مبكراً وفي جعبته الكثير من الأحلام التي نال منها الموت، فتخصص في الجامعة بالأحياء وتابع ما اعده خاله من ابحاث عن الثدييات وسعى لتحقيق حلم خاله في انشاء متحف. فبعد سنوات طويلة من التعلم ومن ثم التعليم في جامعتي يال ودوك ونشر ما يزيد عن 140 بحثا علميا، يعود د. قمصية عام 2008 مثقلاً بالعلم، والأمل بمستقبل علمي واعد في فلسطين.
مهمة المعهد او المتحف وفق د.قمصية: البحث، التعليم والحفاظ على الطبيعة، الثقافة والتراث واستخدام المعرفة لتحقيق انسان مسؤول ومهتم بقضايا بيئته. ومن اهداف المشروع: الاكتشاف والبحث في الطبيعة وكائناتها، حماية البيئة والضلوع بقضاياها، استخدام العلم للارتقاء بالتعليم المدرسي، تصنيف وبناء قاعدة فيزيائية والكترونية عن كل الحيوانات وأصناف النباتات، تعزيز الاحترام لأنفسنا، وتقوية قيم الحماية والحفاظ على البيئة من حولنا.
كما يستهدف المتحف المدارس الاساسية لتعميق وتعزيز الطرق العملية في التعليم، وتكريس الوقت للبحث والتعليم ما يصب في حماية الطبيعة وكائناتها، ويشير د.قمصية إلى أن الدراسات البحثية في فلسطين ما زالت ضعيفة في الوقت الذي ينفق فيه الاحتلال مبالغ طائلة على الأبحاث.
|
|
الحشرات في متحف فلسطين للتاريخ الطبيعي |
الدكتور مازن قمصية الناشط ضد الاحتلال الصهيوني |
البحث من اجل العلم والمعرفة
يدرس د.قمصية مع الشباب المتطوعين كل ما يمكن دراسته فتجد في المتحف عينات من العناكب، والفراشات، واليعاسيب، والضفادع والسحالي والافاعي والقنافذ والوطاويط والعقارب والفئران والسلاحف، كما يهتم بدراسة انواع النباتات المختلفة في فلسطين.
كما تتنوع مضامين الابحاث والتي تنشر خمسة منها سنوياً على الأقل، في مختلف المجالات العلمية ومنها على سبيل المثال: التنوع والتصنيف الحيوي وتأثير الانسان على البيئة، تاريخ الزراعة في فلسطين، تأثير المصانع الاسرائيلية على الكروموسومات بالقرب من سلفيت، تأثير المستوطنات على صحة الانسان والبيئة، أثر حرق الخردة على الصحة العامة، تداعيات المستوطنات الاسرائيلية المحيطة بوادي قانا، الكائنات المختلفة في محمية وادي القف والتي ستكون اول محمية بإدارة فلسطينية لسلطة جودة البيئة، تأثير المياه العادمة على صحة الانسان وانقراض الحيوانات في منطقة بيت لحم .
"أقول دائماً لطلبة الماجستير الذين اشرف على رسائلهم، اذا لم تنشروا ابحاثكم في مجلات علمية عالمية، فليس لها أي قيمة تذكر". يتحدث قمصية بصراحة.
"أنصح دائما متطوعي المتحف ... الدرس الأول هنا احترام الذات ومن ثم احترام كل ما حولنا" مؤكداً أن أول صعوبة واجهها هي احتلال السلوكيات الخاطئة لعقولنا قبل احتلال "الاحتلال" لأرضنا، فهناك الكثير من المحددات التي تفرضها عقولنا تلقائيا دون ان تكون فعلاً مبررة، وهذا يحد من توجه كثير من مبدعينا نحو الدرب الصحيح، فكثير من الأحلام يتم اجهاضها".
|
|
الدكتور مازن قمصية مع نشطاء العلم المتطوعين |
الدكتور مازن قمصية يرعى بومة عاجزة بعد أن كسر فتية قدميها |
الطبيعة تتغير والحيوانات تنقرض
يمضي د. مازن ساعات طويلة بين المروج والحقول تمتد لستة ايام خلال الاسبوع، يبحث عن كائنات مختلفة مميزة، ولكن للأسف معظم الحيوانات في انقراض وكثير من النباتات كذلك.
ويشير د. قمصية إلى أن الطبيعة من حولنا عبارة عن شبكة منسجمة من الكائنات على اختلاقها "ما لاحظته من خلال بحثي ان الحيوانات الكبيرة على رأس الهرم آخذة بالانقراض كالذئب والضبع والثعلب والفهد والنمر والغزلان والوشق، وكذلك من الطيور الجارحة كالنسور والصقور والبومة وأيضاً الزواحف، ومن البرمائيات كالضفادع ومن الكائنات المائية اسماك الأنهر والتجمعات المائية. ومن النباتات يهدد الانقراض الكثير من الانواع ومنها على سبيل المثال: الحبوب البلدية مثل الحمص والعدس".
|
|
الدكتور مازن قمصية يشرح عن أبحاثه |
الدكتور مازن قمصية يقرأ كتابه المميز حول ثدييات فلسطين |
"ثدييات فلسطين" من أهم الكتب العلمية
يعتبر كتاب د. مازن حول الثدييات في فلسطين اضافة نوعية حقيقية حيث سبق ما اعده الاحتلال في ذات الصدد من حيث شموليته، فهو يعد أول دراسة تعتمد على 35 بحثاً فلسطينياً عن ثدييات فلسطين من القوارض والوطاويط من خلال دراسة كروموسوماتها.
وبأسى يقول د. قمصية: "نحن في وضع بيئي كارثي، دعوني اسميها "نكبة بيئية"، داعياً الى ضرورة التحرك على المستوى الرسمي والشعبي للحفاظ على ما تبقى لنا من بيئة وطبيعة وتكريس كل الجهد السياسي والشعبي للحفاظ على ما موروثنا الحضاري، لأنه أساس بقائنا على هذه الارض.
في غرفة بسيطة تحتوي على خزانة لمحنطات مختلفة من القوارض والحشرات يجلس الشاب "شادي علي" من نابلس والذي يعمل موظفاً في وزارة الصحة ويعكف على إعداد بحث عن حشرة اليعسوب، شادي اخبر "مجلة افاق" انه يأتي بكل حب مرة في الاسبوع ليتطوع ويساهم في التعلم والمعرفة في المعهد.
" نعمل وفق اساس علمي وبحثي لدراسة انواع الحشرات في فلسطين ومطابقتها مع المعلومات المنشورة عالمياً" يقول شادي.
|
|
الزراعة العمودية في حديقة متحف التاريخ الطبيعي بجامعة بيت لحم |
القنافذ في متحف التاريخ الطبيعي بجامعة بيت لحم |
الزراعة الحديثة ايضا في دائرة اهتمام قمصية
في غرفة خارجية في البستان، يأوي د. قمصية بومة عاجزة بعد ان قام فتية بتكسير قدميها، ومن ثم جاءوا بها وسلموها لقمصية، معبرا عن استيائه من سلوك الافراد تجاه الكائنات المختلفة، مشيرا الى ان هذه البومة لن تقوى على الطيران بسبب كسر قدميها وستبقى كسيحة طوال فترة حياتها.
يهتم ايضا الناشط الشعبي والذي لطالما كان في مقدمة صفوف الحملات الشعبية ضد الجدار الفاصل في الزراعة على اختلاف انواعها ، حيث يصمم نماذجاً لأنواع زراعات مختلفة مثل الزراعة العمودية والزراعة المائية، ويقوم حالياً بانشاء بركة لتجميع مياه الامطار لاغراض الري كما ستساهم في جذب انواع مختلفة من الطيور والحيوانات، ويصمم قفصاً ضخماً مع مجموعة من اشجار الزيتون لمساعدة الطيور والكائنات الاخرى على التكاثر دون التعرض للأخطار الخارجية.
يتمنى د. قمصية ان يحول الحديقة الخارجية للمتحف والتي تزيد مساحتها عن 10 دونمات الى محمية صغيرة لحيوانات فلسطين، كما ينوي تجهيز القاعة الداخلية في المعهد لتكون غرفة معروضات، مشددا ان متحفه ليس متحفا تقليديا او فيزيائيا بالمكان، بل هو معهد متنقل يجوب البراري والمواقع المختلفة بحثا عن العلم وفقط العلم.
*يمكن التعرف أكثر على أهداف المتحف ونشاطاته من خلال زيارة صفحته الرسمية: