الكاتب جمال الغيطاني
-1-
( الحجل الطائر)
عندما قرأت في برنامج زيارتي الثالثة [ لصنعاء ] حضرموت تأهبت، جئت فردا في جمع يضم أدباء وفنانين ينتمون إلى فروع شتى، نشطاء في الدفاع عن البيئة، لكل هدفه، فهذا قادم للحفاظ على عمارة الطين، وذلك لحفظ الألوان العتيقة، وثالث يسعى إلى توثيق الأبواب الموشاة بالزخرف؛ بعد معاينتي للعديد منها دهشت، إنها عين التصاريف والخطوط الماثلة في [ بلدة ] جهينة، مسقط رأسي.
جاري في الطائرة معني بالنخيل، ليس النخيل على إطلاقه، إنما الحضرمي بالتحديد، بدا دمثا رقيقا، يكثر من النظر في دفتر يحمله.
ما أسعى إليه طائر لم أر إلا رسوما تخطيطية تقريبية له، معروف بعزلته، موضعه المرتفعات القصية، يتوارى عن أية أنظار بمجرد اقتراب مصادرها على بعد مراحل، يستعصي على أمهر الصيادين؛ بين الحضارمة من له صلة وثيقة بالطير، أوردت سيرة أحدهم في مؤلفي " هاتف المغيب ".
مقصدي " الحجل الطائر "، منطلقي اسمه، وإحاطتي بقرب اندثاره، حاولت الإلمام بكل ما يمكنني جمعه من أوصافه، منها حدة بصره، حتى ليتجاوز النسر الأبيض والجبلي، يمكنه رؤية أدق صنوف الكائنات الساعية بين ذرات الرمال من ارتفاعات شاهقة، كما يمكنه رصد سريان الماء تحت الرمال، إذا حلّق في سرب على ارتفاع معين، فثمة ماء وإن لم يظهر؛ لا توجد صور ملتقطة له، إنما رسوم تقريبية تعتمد على أوصاف أدلى بها من شاهدوه...ما عرف منه عبر مراحل التاريخ المختلفة سبعة أنواع، لم يتبق منها إلا الحضرمي، تماما مثل الماعز العربي المتوحد، آخر ما تبقى منه في صحراء ظفار.
الحجل، الماعز، الباندا، القرش الرمادي، البابون الأحمر، أجناس أخرى توشك على الانقراض، إما لمتغيرات في البيئة، أو لكثافة صيد، أو لانعدام القدرة على المحافظة؛ لكم تمنيت تعقب كل منها، تدوين أوصافها؛ من المؤسي [المحزن ] إدراك النهاية لنوع ما، خاصة إذا كان من المخلوقات التي تعي وتتذكر وتتحرك وفقا لقوانينها الخاصة، هل يعي " الحجل الطائر " بانقراض جنسه؟ كذا المخلوقات الأخرى؟ هذا مما حيرني، ومما شغلني زمنا، لذلك عندما واتتني الفرصة جئت إلى حضرموت.
(دفاتر التدوين: الدفتر السادس، ص ص . 121 ، 122).
-2-
(متحف الفنون الجميلة في سويسرا)
أتوقف أمام آلة غريبة، ضخمة، تحتل البسطة الفسيحة ما بين الطابق الأول والثاني [ في المتحف ] آلة موسيقية هائلة، تم تركيبها من القمامة.
شاكوش، بيانو قديم، غطاء حلة كبيرة، عجلة قاطرة، سيوف، دروع، تروس. تم توصيل هذه المتنافرات كلها ببعضها؛ ومن خلال دائرة كهربائية، تنطلق الطاقة، بعد ضغط زر صغير، لتبدأ هذه الآلات والأشياء في الاصطدام ببعضها، محدثة أصواتا متنافرة، تتردد في المبنى الضخم الكلاسيكي الطراز، وكأنها محاولة لإشاعة الفوضى في البنية المحكمة. ألا يشكل هذا نوعامن الرد الفني على أسلوب حياة شديدة الانضباط؟
الآلة الموسيقية الغريبة تم تركيبها كلها من القمامة. وعندما ذهبت إلى أتيليه [ مرسم ]جمال عبدالناصر [زميل الراوي] وجدته يستخدم أشياء عديدة في تراكيب فنية عثر عليها في القمامة. بل إنه أشار إلى تلفزيون كبير الحجم، ملون، قال لي إنه عثر عليه في القمامة، ألقاه أصحابه، ربما لأن أحد مفاتيحه سقطت، أو لأن خدشا أصابه.
في القمامة السويسرية، يمكن أن تجد بيانو في حالة جيدة جدا، ضاق أصحابه به، أو استبدلوه بآخر جديد؛ ولأن تكاليف نقله مرتفعة، ولا أحد يصلح القديم، فأسهل الأمور التخلص منه بإلقائه في القمامة. أو ثلاجة في حالة جيدة. أو كاميرا للفيديو. في لوزان زرت نادي يضم مسرحا، وصالات وقاعات عرض، كل ما ضمته من أثاث ومعدات تم تجميعها من القمامة.
هذا هو الحال في المجتمعات الاستهلاكية المتقدمة، لا وقت ولا مال لصيانة القديم. أسهل شيء التخلص منه واستبداله بآخر جديد.
ولكن للقمامة السويسرية خصوصيتها. شملها النظام، فلا يمكن إلقاء أي شيء كما اتفق وفي أي لحظة.
ثمة يوم للورق، المجلات، الصحف، الكتب، يقوم المواطن بحزم ما سوف يستغني عنه، وترتيبه، المجلات بمفردها، الصحف بمعزل، الكتب، الأوراق الأخرى، ثم يضعها بنظام في المكان المحدد بالطريق العام.
ثمة يوم مخصص للأشياء المعدنية.
يوم آخر للأطعمة وبقاياها، حيث توضع في أكياس من البلاستيك.
كل شيء بنظام ودقة، القمامة يتم فرزها مقدما إذن. ثم يسهل استغلالها أو إعادة تصنيعها.
( أسفار المشتاق، ص ص . 175- 177).
-3-
( مجير الطير )
كان [ الراوي ] على صلة برجل طيب صالح، اسمه الحاج عبداللطيف، لكن الناس عرفوه بمجير الطير؛ ذلك أنه ورث سبعة فدادين، أحاطها بسور، أمر ألا يؤذى أي طائر يحط على زراعه، أو يشرب من قناة تتخلل أرضه، ألا يطارد [ أحد ] عصفورا يلتقط حبات قمح، أو هدهدا يسعى فوق سعف النخل، أو غرابا أوى إلى غصين شجرة.
ويبدو أن الطيور مثل البشر، تدرك وتفهم، إذ بدأت أسراب منها تجيء، لتحط آمنة، يمشي الرجل أو الطفل بجوارها فلا تفزع ولا تفر. وكان الحاج مجير الطير، يفرد ذراعيه، يبسط يديه وفيهما الحب، فيجيء البط البري، وعصافير عجيبة الخلقة لا تظهر إلا من السنة إلى السنة، تقف على كتفيه، وتتلاعب وتتناغى على ذراعيه. ويراه الخلق راضيا، مبتسما، قال بعضهم إنه يلاغي الطيور، وإنه يفهم لغاتها.
( ثمار الوقت، ص ص . 40،41 ).
-4-
( النخلة الوفية )
كلمتني نخلة نضرة، سخية الطرح، قالت إنها مدينة بوجودها واهتزازها اللطيف، واخضرار سعفها إلى أبي؛ لم يكن ممكنا أن توجد لولا دفنه لنواة بعد أن أكل بلحة صفراء مستطيلة؛ عاش أياما على البلح المتساقط وثمار أخرى، تلك البلحة الصفراء تأملها بعينيه الأرقتين ومسح التراب عنها بيديه؛ بعد أن أكلها شرد ذهنه، ساح بفكره، وتذكر أمه، ترحّم عليها بصوت عال، ثم بكى، وأثناء بكائه دفن النواة الصلبة في الطين؛ في نفس الموضع تساقطت دمعات من مآقيه؛ دموعه أول من روى البداية. قالت لي النخلة إنها منذ بزوغها إلى الدنيا، في نفس اللحظة المماثلة تذرف دمعتين، وإن جمّارها [ شحم النخلة ] من دمع أبي القديم، ولن ينزف كله إلا إذا ذبحت أو اجتثت من جذرها المتين. تعجبت وتأثرت. قلت:
إذن أنت مسقية بدموع أبي؟ تختزنينها في رحمك المكنون؟
قالت النخلة المزهوة النضرة:
لولا أبوك لما كنت، ولما تمايل سعفي عند هبوب النسمات، لما كان طرحي وإخصابي.
كدت أطلب لحظة بزوغ الدمعتين، غير أن مفرج كروبي أمسك بيدي مسكا هينا لينا حازما. قادني فرأيت قبرا وحوله رمال صفراء ناعمة متوحدة اللون كأنها لا تفارق الأصيل أبدا. منها تنبت شجيرات شاحبة الخضرة، لم أعهدها من قبل ولم أعرف اسما لها، أشار قائلا: هذا مثوى أبي أمير المؤمنين، وتلك الشجيرات منا ونحن منها.
( التجليات: الأسفار الثلاثة، ص ص . 87 ، 88).