خاص بآفاق البيئة والتنمية
طبيعة المنطقة الريفية "مردا" الواقعة على بحيرة من المياه الجوفية تعد الأكبر في فلسطين( الحوض الغربي)، وتتمتع بالخضرة والزرعٍ الوفير، ولكنها في ذات الوقت مطمعاً للاحتلال الذي صادر مئات الدونمات من اراضي سلفيت وكفل حارس ومردا وبنى ثاني اكبر مستعمرة في الضفة الغربية "أرائيل" عام 1978، فنهب ماءها( الحوض الغربي) واضرّ بتنوعها الحيوي الفريد.
ورغم بيوت الاستعمار التي تبدو جلّية أعلى الجبل، والتي باعدت القرية عن امتدادها الطبيعي سلفيت، إلا أن مساحة صغيرة لا تتجاوز الدونمين والنصف، كانت كفيلة بإضفاء معنى مستدام للتنمية القائمة على الإنتاج المقاوم الخالي من الكيماويات. من هناك، حيث لا تخلو زاوية من الخضرة والحياة بعوالمها المرئية والخفية، تحدث المزارع الريفي المنغمس بالزراعة وفنونها "مراد الخفش" عن رحلته المثيرة مع البيرماكلتشر( الزراعة الأصيلة والمتكاملة) ما بين الوطن ومزرعة تينيسي في الولايات المتحدة.
ذكريات من الطفولة المسؤولة
"رحل والدي وعمري ثماني سنوات، وكان على والدتي آنذاك ان تتدبر عملية الانفاق علينا انا وإخوتي الستة، ولم نملك سوى قطعة الارض هذه، وكانت مزروعة باللوز والزيتون والتين وأضفنا اليها القمح والبيكيا، ومن خير الأرض عشنا وكبرنا". يتذكر مراد وهو يجلس على جذع شجرة قديم وفي الأثير تسمع اصواتٌ لنقيق الدجاج وهديل الحمام.
وللاكتفاء المنزلي من البروتين، اشترت الأم غنمة وبضع دجاجات، ما وفّر للعائلة كفاف يومها، ومن خلال العمل في الأرض، تقرب الأبناء أكثر من الزراعة وتذوقوا معنى أن يكون الانسان منتجاً ويأكل مما يزرع، فارتبطت بهم الأرض وارتبطوا بها وكان أكثرهم تعلقاً مراد، الذي كان يعين أسرته مالياً في أوقات العطل المدرسية عبر العمل في البناء.
وعند الجبل وخاصةً في الربيع، تحفظ الذاكرة عالماً مدهشاً ومليئاً بالمغامرات لمراد وأشقائه، وذلك قبل ان تقضمه المستعمرة، حيث كان الصبية يجمعون نباتات الحليبة والبقلة والحميضة ولسان الزعمطون والمرار والميرامية.
"كنا نرى أسراب الطيور المهاجرة على اختلاف انواعها تحط أعلى الجبل لتشرب الماء، وكانت الغزلان تلهو بكثرة، ...ولكن بعد بناء المستعمرة تغير الواقع طبعا وأصبحت مشاهد الطفولة من الذاكرة".
 |
 |
المزارع مراد خفش يبني خيمة لتنظيم ورشات البيرماكلتشر على سطح منزله |
المزارع مراد خفش يشرح عن إعادة التدوير والاستعمال في مزرعته بقرية مردا |
مفترق طرق
صندوق العائلة الخيري لم يتح إلا تعليم شقيق مراد في الجامعة، فلم يستطع الأخير إكمال تعليمه بعد الثانوية لكنه كثّف معرفته بالزراعة، وفي عام 1993 افتتح مركز العمل التنموي/ معا مشروعاً للتنمية المستدامة والزراعة البيئية-العضوية في مردا ("البيرماكلتشر")، ولإلمام مراد بالزراعة ولرغبته تعلم المزيد واكتساب مهارات تحدث اللغة الانجليزية، عمل في أرض المركز في مردا كمزارع مشرف حتى توقف مشروع المزرعة أواخر عام 2000 (أوائل الانتفاضة الثانية) بسبب اقتحام قوات الاحتلال للموقع وتدميره وإغلاقه. وقد تعلم مراد من تجربته القصيرة تلك، اساسيات البيرماكلتشر واكتسب بعضاً من الصداقات مع الخبراء الأجانب في هذا المجال، وفي عام 2001 وبعد فترة صعبة من البحث عن عمل جيد دون جدوى قرّر السفر الى الولايات المتحدة الأمريكية.
 |
 |
أنماط الزراعة المختلفة بالطريقة الحلزونية في مزرعة البيرماكلتشر بقرية مردا |
بيت الحمام فوق بيت الدجاج بمزرعة البيرماكلتشر بقرية مردا |
بطاقة تعريف(Business Card) تفتح الطريق لمراد للانتقال الى نصف العالم الثاني
حلقة الوصل لمراد الى الولايات المتحدة وتحديدا ولاية تينيسي، كانت المزارع والمدرب البريت بيتس، الذي التقى به زائراً للضفة الغربية من خلال مزرعة مركز معا عام 1995، وزودّه الأخير ببطاقته التعريفية للتواصل معه في أي وقت، يذكر مراد: "بعثت له برسالة الكترونية بمساعدة موظفة من مركز معا اخبره رغبتي القدوم، فرحب وأرسل لي الدعوة التي على اساسها قبلت الفيزا الخاصة بي".
في تينيسي، وتحديدا مزرعة البيرماكلتشر، تعلم مراد بشكل يومي ومكثف أسس وطرق هذه الزراعة المستدامة، حيث تعلم بناء البيت البيئي الطيني من الأكياس المعبأة بالتراب المعجون بالحصمة والاسمنت والرمل، وتعرف على طريقة زراعة المشروم في شقوق الشجر، وفهم أهمية الطاقة الشمسية والاستغلال الأمثل للموارد، وتعلّم طرق تدوير المياه الرمادية والعادمة، وصناعة الكومبوست من روث الحيوانات.
في تينيسي
ساهم مراد عدا عن أعمال الزراعة في بناء سياج مزرعة تينيسي، والتفاعل الكامل مع غذاء المزارعين هناك والذي كان نباتياً يخلو من أي عنصر حيواني وقد تركز على الصويا والتوفو ( نبات يشرب ويأكل شبيه بطعم الحليب والجبن).
"كان يؤم المزرعة في أمريكا عشرات الزوار والمهتمين، ومع الوقت أصبحت أدرّبهم أصول البيرماكلتشر بعد أن كنت متدرباً مثلهم، وتوسعت شبكة معارفي وعلاقاتي في هذا المجال، الأمر الذي ساعدني كثيراً بعد عودتي للوطن" يقول مراد.
وما بين مزرعة تينيسي والعمل في محلات ومطاعم في شيكاغو لتوفير المال وسد ديون سفره، عاد مراد للوطن عام 2006، ليستقر ويتزوج ويعيد الاهتمام بمزرعة العائلة مضفياً افكاراً جديدة من وحي البيرماكلتشر.
 |
 |
ثمار عنب الثعلب الشبيهة في شكلها بثمار البندورة في مزرعة البيرماكلتشر بقرية مردا |
جميع روث الحمام والدجاج يعاد تدويره إلى كمبوست |
مردا تصبح مستدامة مع البيرماكلتشر
فور عودته، قام بتسييج أرضه حمايةً لها وخاصة من تهديد الخنازير البرية، وقد كانت بشكلها السابق مزروعةً فقط باللوز والزيتون والقمح والبيكيا، فأضاف لها مشتلاً بمساحة 250 متراً مربعاً (دفيئة)، وعمل على مد خرطوم من نبعة القرية بطول 350 متراً لتروي أرضه. وبمساعدة صديقة من امريكا "تامي برايت" قدمت له افكاراً عديدة فأصبحت "المزرعة" نموذجاً للبيرماكلتشر ومركزَ تدريب، وقام الخفش لاحقاً بترخيص المزرعة كمؤسسة غير ربحية، تابعة لمعهد القرية العالمية في ولاية تينيسي".
"عام 2008 نظمت أول دورة تدريب وكانت عبارة عن تعليم تقنيات في الزراعة المختلطة، وعملية بناء حديقة من عجلات السيارات وطرق الزراعة العمودية وكيفية البناء الطيني.
"الزراعة في العجلات مهمة جداً، لأن مادة الكوتشوك "مصيدة الندى" تجمع الرطوبة في الجو فتبلل التربة ليلاً وفي ساعات الفجر"، يقول مراد وهو يشير الى مجموعة من أحواض العجلات رتبت فوق بعضها بشكل هرمي.
 |
 |
حقول قرية مردا الجميلة فوق الحوض الغربي الغني بالمياه المنهوبة إسرائيليا |
زاوية إعادة التدوير وتصنيع الكمبوست في مزرعة البيرماكلتشر في قرية مردا |
تفاصيل مردا "المزرعة"
في مزرعة مراد صغيرة المساحة كبيرة الأفكار: دفيئة مزروعة بمختلف انواع الخضراوات وحتى النادرة منها كالحرنكش المصري او الكسبري، احواض وعجلات مزروعة بمختلف النباتات، اشجار فواكه وحمضيات، مزرعة لإنتاج الديدان تعيش فقط بالزبل وتساعد في تخمير الكومبوست، وبركة صغيرة لجذب الطيور، طرق زراعة مختلفة: العمودية والتي تعتمد على درجة الحاجة الى المياه ما يلعب دوراً في ترتيب طبيعة النباتات واحتياجها للماء من اعلى لأسفل، والزراعة بطريقة المصاطب المرتفعة، والطريقة الدائرية( الحلزونية).
وللتكامل وفق نهج البيرماكلتشر حيث تتفاعل جميع العناصر الحية بتناغم جميل محققةً اكتفاءً ذاتياً مستداماً، ينتج مراد العسل من خلال 17 وحدة للنحل، و 40 دجاجة وخمسة ديوك في قنّ دائري مبني من اكياس الطين (السقف من زينكو والأرضية من تراب) لمنع ظهور الرائحة المزعجة، واعلى القن الدائري بيت هرمي قوامه سياج لتربية الحمام (35 حمامة) .
ولأن كل ما محيط المزرعة هي اراضٍ جافة، فذلك شجع كثيراً من الطيور كما يذكر مراد على الهبوط في مزرعته لترتوي من البركة الصغيرة التي يجدد مياها كل اسبوعين، بحيث تقوم " أي الطيور" بالقضاء على الحشرات الضارة كغذاء لها وتساهم في تسميد الارض بفضلاتها.
أما الكومبوست والذي هو عبارة عن مخلفات المزرعة من بقايا النباتات وروث حيوان، فيقوم مراد بتجميعها وتخميرها وهي تحتوي على النسب المطلوبة من الكربون والنيتروجين الهامان للتربة، ومن خلال ورشة عمل تخصّ سيدات البيوت قريباً، سيتم تشجيعهن، يقول مراد، على الفصل عبر جمع العضوي من مخلفات الطعام على جهة وإدخاله في الكومبوست، وجمع البلاستيك والزجاج والورق كلٌ على حدا، وبيعه لمصانع مختصة بالتدوير في نابلس والخليل، ما سيقلّل من العبء الكبير على مكب النفايات شرقي سلفيت الذي يعدّ مكرهة صحية مقيتة.
 |
 |
زاوية الاستراحة في مزرعة البيرماكلتشر في قرية مردا مكوناتها عبارة عن أدوات أعيد استعمالها |
فحص خلايا النحل في مزرعة البيرماكلتشر بقرية مردا |
رؤى مستقبلية
يسعى مراد مستقبلاً لبناء وحدة تجميع مياه امطار تكون على شكل بركة، سيبني فوقها "منعاً للتبخر" مبنىً من طابقين لإنشاء المركز التدريبي الذي يتألف من قاعة تدريب وغرف نوم للمتدربين، وسيُبنى على طريقة اكياس طينية للواجهات الداخلية والخارجية، فيما تكون الأعمدة والسقف من الاسمنت المسلح.
"طالما أنا لا افكر بالموضوع المادي -الذي لا يتوفر دائماً للمزرعة- فأنا سعيد" يعبر مراد بشفافية، معلناً عن رغبته في حال توفر الدعم اللازم لتربية بعضٍ من الأغنام والأبقار، والزراعة وفق طريقة الاستزراع السمكي "الأكوابونيك"، وإضاءة وتوفير الكهرباء( بشكل جزئي) لمبنى التدريب من خلال وحدات الطاقة الشمسية.
طموح مراد ان يؤم هذا الموقع كل المزارعين والمهتمين بالبيرماكلتشر ويعيش بما سيهبه الله من عُمر مزارعاً في هذه الارض الصغيرة يحيا حياة صحية، ويستكشف المزيد من مغامرات الزراعة التي تهب الانسان السعادة والمتعة. ومن اكثر الكلمات تشجيعاً لمراد من الزوار المحليين والأجانب يذكر: "نشكرك على صمودك بالمزرعة".
وختم مراد: "اتمنى ان تعمم التجربة، ونرى في كل قرية نموذجاً للبيرماكلتشر، فالأرض المستغلة هي الاكتفاء والأمان والعطاء الذي لا ينضب".
للتعرف أكثر على ثقافة البيرماكلتشر ينصح بزيارة المواقع الالكترونية التالية: