خاص بآفاق البيئة والتنمية
يعد التخطيط العشوائي غير المدروس للتجمعات الصناعية وعدم وجود إستراتيجية تكاملية بشأنها، عاملا أساسيا في توليد كوارث بيئية وزراعية، وحتى اجتماعية بشكل لا يحمد عقباه، بل تصل إلى درجة عدم القدرة على السيطرة عليها في المستقبل المنظور. فقرية مسحة -على سبيل المثال- الواقعة إلى الغرب من محافظة سلفيت، مثال حي لما تعانيه الأراضي الفلسطينية من كوارث بيئية، نتيجة الانتشار العشوائي غير المنظم لعدد كبير من المصانع والحرف فيها.
فحسب معطيات مجلس قروي مسحة، هناك انتشار لما يقارب من 130 حرفة صناعية من مصانع ومحاجر ومداهن وغيرها من الورش والصناعات في محيط القرية، تساهم جميعها بشكل كبير وملحوظ في تدمير التنوع البيئي والتوزيع السكاني، بل وتلقي بظلالها السلبية على صحة وحياة المواطنين في القرية التي لا يتعدى عدد سكانها ألفي نسمة.
فالزائر للقرية يلمس بأم عينه كيف تحولت من ريفية هادئة تنعم بالهدوء وجمال الطبيعة، إلى منطقة صناعية "غير قانونية" تدمر الأخضر واليابس!!، وتساهم بشكل كبير في انتشار الكوارث البيئية التي لا يحمد عقباها، وتساهم في منظومة الضرر المحيط في المنطقة.
فعلى الشارع الرئيس وسط القرية على سبيل المثال لا للحصر، يوجد مصنعان للباطون الجاهز يعتبران سبباً في انتشار كم هائل من الغبار والأتربة نحو المنازل السكنية المجاورة لها، عدا عن كونها عاملاً مسبباً في ضخ المياه العكرة من أحد المصنعين باتجاه الطريق العام.
وعلى الرغم من الشكاوى المتكررة مند ثلاث سنوات التي تقدم بها السكان المحيطون إلى الجهات ذات الاختصاص حول تراكم الأتربة على أسطح منازلهم وحدائقهم، إلا أنه لم يكن هناك حلّ جذري للموضوع، حيث أن الحال لا زال يراوح مكانه.
وإلى الشرق، تحديدا على الطريق الواصل ما بين بلدة بديا ومسحة، حيث تجثم هناك كسارة كبيرة تلتهم الأراضي المزروعة بالزيتون يوماً تلو آخر، باتت حقول الزيتون المجاورة تواجه خطر الموت نتيجة انبعاثات تلك الكسارة من صخور متناثرة وأتربة، حيث أقيمت عام 2013م بشكل مخالف لكافة شروط السلامة العامة وتفتقد لأدنى شروط الترخيص من جهات الاختصاص، بل تعتبر عنواناً للدمار والخراب في المنطقة.
وأيضا إلى الغرب، لا يختلف الوضع، بل يزداد سوءا من قرية مسحة، فهناك ما لا يقل عن 17 مدهنة للأثاث المنزلي، تصب جميع المواد المتطايرة منها في حقول الزيتون المجاورة، ويوجد هناك عدد من تلك المداهن تقع ما بين البيوت السكنية، ما يفاقم من خطر انتشار الأمراض هناك.
ولعل حال المواطن عاطف عامر (40 عاما) يعكس الواقع المرير وحجم الآلام والمعاناة للسكان القاطنين بجوار تلك المداهن، فهو يعاني وأطفاله الأربعة من أمراض الجهاز التنفسي والربو بسبب الغازات والغبار المنبعث من المداهن، ويتكبد كل شهر تكاليف علاجية ترهق كاهله.
حاول عامر أن يجد وسيلة ليدفع عن نفسه وأطفاله الخطر، فتقدم بطلب استغاثة إلى أكثر من جهة رسمية قبل أربع سنوات، لكن دون أن يلقى نداءه آذان صاغية.
الطامة الكبرى تكمن أن جل تلك المصانع والورش المنتشرة في محيط قرية مسحة غير مرخصة، وتفتقد لأدنى شروط السلامة العامة، مع الإشارة إلى أن عدد تلك الورش والحرف آخذٌ بالزيادة يوما بعد يوم، بالتوازي مع عدم وجود أي قانون ينظم عملها.
ورشات صناعية عشوائية خطرة في قرية مسحة
منطقة صناعية مرخصة!!
تجدر الاشارة الى ان الغالبية العظمى من اصحاب تلك الورش العشوائية يقرّون بشكل صريح بأن هناك فوضى وعدم وجود مخططات تنظيمية للمنطقة، حيث عبّر هؤلاء عن عدم رضاهم بما يجري من التلوث والفوضى التي تعم المنطقة، ولكن الواقع يفرض نفسه في ظل عدم وجود أي بديل.
وفي ظل المعطيات السابقة، توجهت "مجلة آفاق" بحوار خاص مع القائم بأعمال محافظ محافظة سلفيت المهندس عبد الحميد الديك، حول إمكانية إقامة منطقة صناعية متكاملة تخضع للشروط الصحية والبيئية، كحل للمعضلة التي تعاني منها قرية مسحة منذ سنوات طويلة.
المهندس الديك، أكد أن إقامة منطقة صناعية من اختصاص القطاع الخاص وليس الحكومة بالدرجة الأولى، قائلا "لسنا مسؤولين عن إقامة منطقة صناعية، وحتى لو تم التفكير في ذلك فقرية مسحة غير مؤهلة لأسباب متعددة، من أبرزها اشتراط الدول المانحة على أن تكون المناطق الصناعية ضمن المناطق المصنفة "A" أو " B" من اتفاق أوسلو، بينما تقع معظم الورش والمصانع في قرية مسحة ضمن المنطقة "C".
وتابع "حتى لو توفرت موافقة من المانحين، فلا يوجد أي مقومات فنية أو علمية مدروسة تؤهل تلك المنطقة، وتجعلها قابلة للاستمرار".
لجنة السلامة العامة
وبعد كل هذه المعطيات، يدور السؤال حول دور الجهات الرقابية التي تندرج تحت ما يسمى لجنة السلامة العامة في الحد من أثر تلك الملوثات وما يتبعها من كوارث إنسانية جمة.
ويحاول مدير سلطة البيئة في محافظة سلفيت المهندس مروان ابو يعقوب الإجابة بالقول "هناك متابعة مستمرة من الجهات ذات الاختصاص في حال وجود أي مخالفة بيئية ملحة توثّر على المجاورين، وأحيانا نقوم بتحويل المخالفين إلى القضاء".
وأضاف "لا يمكن السيطرة على الواقع المحيط بشكل كلي.. نحن نعمل كمؤسسات مجتمع مدني للحد من أي آثار وتبعات سلبية مستقبلية قد تنتج عن تلك الملوثات.. وقد نجحنا في احتواء الكثير من الكوارث التي –لا سمح الله- لو قدر لها البقاء لكانت مصدر دمار كارثي على المنطقة برمتها.
من جهته، أكد مدير دائرة البيئة في محافظة سلفيت نعيم حرب على الدور الذي يلعبه فريق لجنة السلامة العامة في وقف أي تعديات تُلحق الضرر بالمحيط السكاني. واستدرك "لا نستطيع منع أي مواطن من إنشاء مصنع أو حرفة، لكن نحاول بشتى الطرق الحد من الضرر الذي قد تسببه تلك المصانع على الطبيعة أو حياة السكان في المنطقة".
لكن رغم تلك "التطمينات" -إن صح التعبير- الصادرة عن بعض المسؤولين في محافظة سلفيت، إلا أن الواقع يعكس وجود مؤشر خطير في التلوث والفوضى اللذين يعمّا كافة أنحاء المنطقة، إذ أن من بين ثنايا المداهن تنتشر قاذورات هنا وهناك، وأتربة تملأ المحيط وغازات متطايرة، والأهم أناس يتذمرون دون أي نتيجة تحدّ من مشاكلهم مع تلك الحرف.
ورشات صناعية عشوائية ملاصقة للمساكن في قرية مسحة
وتبقى مشكلة الحرف الصناعية العشوائية في قرية مسحة قائمة، بل في حالة ازدياد مضطرد، دون أي حل لها أو وسيلة لتنظيم عملها، على أمل أن يحمل المستقبل تغيرات تُمكن قبل فوات الأوان من الحد من تلك المعضلة، التي باتت تأرق الكثيرين الذين يُحملون الجهات الرسمية التقاعس في اتخاذ قرار مناسب، ينظم عمل تلك الحرف الصناعية.