
الأديب الجزائري الطاهر وطار
-1-
[صراع حول مكّب]
همَّ أن ينهض، إلا أن صوتاً ارتفع إلى جانبه، بحكاية غريبة، جعله يواصل الجلوس، مصغيا بانتباه خاص:
- في مزبلة بولفرايس، البارحة جرى ما جرى، ترى المزبلة من هنا، ها هي أمامنا تتنهّد.
- نعم أراها. إنها فعلاً تتنهّد.
- وصلتنا الأخبار متأخرة، لكن استطعنا مع ذلك أن ننقذ ما يمكن إنقاذه.
- لكن ما جرى؟
- كانت إحدى شاحنات البلدية تحمل علب مصبّرات فاسدة، صودرت من مختلف المتاجر، ما إن أفرغت الشاحنة حمولتها، حتى هجم عليها "هاجوج وماجوج".
- وما "هاجوج وماجوج"هذا؟
- خلق كثير من سكان الأكواخ، شيوخ وكهول وأطفال، ذكور وإناث، يحومون طوال السنة حول مزبلة بولفرايس، يلتقطون الفضلات والمرميّات، العظام التي يلقيها الناس، يعيدون هنالك طبخها في الماء، لتطلق لهم رائحة الأدام؛ عالم آخر هناك، بتجاره وسماسرته، وزعمائه ومستغلّيه ونظامه وأمنه، يقيمه العراة.
- هذا في مزبلة بولفرايس؟
- نعم. على بعد أربع كليومترات من هنا. هنالك، انظر إلى الأشباح تتحرك وسط الدخان.
- ماذا جرى البارحة؟
- آه. هجم الهاجوج والماجوج يتخاطفون العلب، يترافسون ويتمارسون؛ حاول الزعماء والسماسرة أن يوقفوا الرعايا، لكن دون جدوى. اشتدت الأزمة حتى تطورت إلى قتال استعملت فيه الحجارة، ثم العصيّ، ثم الخناجر، ثم البارود.
- حتى البارود؟
- نعم، وبأي شيء، الزعماء زعماء؟ عندما وصلنا وجدنا عشرين قتيلا، وسبعين جريحا.
- حالة يالطاهر بن علي.
- حالة يالطاهر بن علي.
(الزلزال، من ص. 67-78).
-2-
[مهاجرون من الريف]
[ كان الشيخ أبو الأرواح يسير في أحد شوارع قسنطينة، بعد رحيل الاستعمار الفرنسي عن الجزائر، عندما سمع أحدهم يصيح غاضباً:]
"ضاقت المدينة، يا ربّي سيدي ضاقت. خمسمئة ألف ساكن، عوض مئة وخمسين ألفا في عهد الاستعمار. نصف مليون يا ربّي سيدي. نصف مليون برمّته. بطمه وطميمه فوق هذه الصخرة تركوا قراهم وبواديهم، واقتحموا المدينة، يملأونها حتى لم يبق فيها متنفّس. حتى الهواء امتصوه، ولم يتركوا في الجوّ إلا رائحة آباطهم".
[ وعندما دخل أبو الأرواح مطعم بالباي، دار بينه وبين صاحب المطعم الحوار الآتي:]
- ماذا أصاب مطعمك العظيم؟ ما الذي حوّله إلى ما هو عليه؟
- اسكت. اسكت. الفرنسيون خرجوا. المسلمون خلفوهم. الشقة التي كانت تأوي عائلة أضحت تأوي عدة عائلات.. أسر الفرنسيين كانت لا تتعدى الثلاثة أو الأربعة أفراد على أقصى تقدير، أما أسر بني عمك، فلا أقل من تسعة وعشرة. البوادي رحلت إلى القرى والمدن الصغيرة. وهذه رحل سكانها إلى قسنطينة، ولم يبق هناك من يؤم المطاعم لا الفخمة ولا غير الفخمة، حتى من يتسوّق إلى المدينة، لزيارة ابنه في الثانوية أو لشراء قطعة غيار، يجد أقارب له هنا يأكل عندهم؛ فاضطررت إلى التعامل حسب متطلبات الوضع، كما ترى، فليفلة، وبيضة، ولبنة، وما شابه... مرحبا بقضائه، وبرضائه.
(الزلزال، ص 14، 27-28)
-3-
[هدية بيئية]
[ مرّ علي الحوّات، وهو في طريقه لزيارة ملك البلاد، بإحدى القرى؛ وفي القرية قابله كهلٌ وقور، قال له:]
- أنا يا علي الحوات صاحب هدية لجلالته...
- وما هي هديتك؟
- تخطيط [خطّة] لتحويل السلطة إلى جنّة.
- أهاه، كيف ذلك؟
- لقد شرحت لجلالته كل شيء في هذه الرسالة التي أرجو أن تحملها معك.
- أحملها بكل سرور. ما هو مخططك أيها السيد الطيب؟
- واديكم الخيّر المِعطاء، مياهه تذهب سدى، تغور في الرمل وتلتحق بالمحيط، وتظلّ الأراضي المحيطة به قاحلة جرداء. لقد توصلت إلى طريقة عجيبة، لإقامة سدّ عظيم على الوادي بتكاليف جدّ قليلة، وفي ظرف جدّ قصير. ستمتد القنوات كالشرايين في كامل السلطنة، وستخضرّ الأشجار، وتتطاول النباتات، وتكثر الغلال والفواكه والثمار، وتنمو الأسماك وتعظم. لن يبقى في السلطنة فقير أو جائع؛ حتى الشرور تنقص، ويقوى الخير والخيّرون. لقد فكّرت جيّداً في حل مشاكل جميع هؤلاء الناس، بالقضاء على أصلها.
المشروع موضح في هذه الرسالة، فتفضّل خذها يا علي الحوات...
- سيسرّ مولانا كثيراً ولا شك.
- آمل ذلك يا علي الحوّات.
-4-
[الأرزة والمناضل]
شجرات الأرز، مهما أثقل أغصانها وأحناها فإنها لا تفقد عظمتها.
عندما تنحني تبدو كمخالب جبارة، لكواسر عملاقة مغروسة في الأرض. وعندما يذوب الثلج سرعان ما ترفع رأسها فوق لتستعيد شموخها، وتبدو من جديد كأنها سيوف فرسان مرفوعة إلى السّماء.
ما أروع ذلك المنظر، شجرة الأرز، وهي منحنية إلى الثلج دون أن تفقد هيبتها، وشجرة الأرز وهي تستقيم، نافضة كابوس الثلج عنها، لترفع رأسها عاليا.
عندما كنت في الجبل، أظلّ أتشوّق إلى فصل الشتاء، لا لشيء إلّا لأعايش، تفاعل الأرز، مع الطبيعة، بأسلوبها الخاص، أسلوب العزة، والكرامة، والإصرار، على عدم فقدان الخصوصية.
كذلك نحن المجاهدين، المجاهدون الأصيلون.
يجب أن نكون. إذا ما انحنينا للثلج فلكي تبدو مخالبنا الكبيرة، وإذا سطعت أشعة الشمس، أو تكدّس الضباب القوي، وشعرنا بخفّة وزن الثلج من فوقنا، فيجب أن ننفضه على أنفسنا، ونعود إلى التطاول، عمالقة ننظر إلى الفوق، ونمدّ أيدينا إلى مختلف الآفاق في جميع الجهات.
كنت أقول لنفسي ذلك وأنا أتأمل الأرزات الصامدة، ودون أن أشعر، أجدني متجدد العزيمة، قويّ الإيمان.
(العشق والموت في الزمن الحراشي –الكتاب الثاني- ص199).