"رضوانا حسن" حقوقية دولية تتصدى لأوغاد بنغلاديش المتنّفذين ومشاريعهم المدمرة للبيئة
خاص بآفاق البيئة والتنمية
في فقه الحكومات المستبدة، يقبع صغار الكَسبة من المزارعين والصيادين وغيرهم في قاع هرم العدالة والعيش الكريم، إذ تُحال مزارعهم وأراضيهم إلى غابات أسمنتية مقيتة، بينما تستقطب الطغمة المتنّفذة من صناع القرار أعمال صناعية تضاعف من وتيرة التلوث لتجعل من النعيم المقيم جحيما كيمياويًا بامتياز. وفي خضم هذه المآسي الإنسانية والبيئية انبرت "جمعية المحاميين البيئيين البنغلادشية" للذود عن حياض الطبيعة وحياة الناس وتسمى اختصارًا بـ"بيلا"، والتي تضع الحكومة وصانعي القرار تحت طائلة المساءلة في سبيل تطبيق قوانين وضعتها الدولة، صوريًا، ليوقظها من سباتها ثلة من خيرة محامي بنغلاديش البيئيين، وعلى رأسهم المحامية البارزة رضوانا حسن. نستعرض في هذه المقابلة الحصرية مع مجلة "آفاق البيئة والتنمية" ومضات من حياة رضوانا ونشاطها البيئي والقانوني لنستمد الإلهام من مسيرتها الغنية.
|
|
رضوانا حسن الناشطة الدولية من بنغلادش في مجال العدالة البيئية |
في فقه الحكومات المستبدة، يقبع صغار الكسبة من المزارعين والصيادين وغيرهم في قاع هرم العدالة والعيش الكريم، إذ تُحال مزارعهم وأراضيهم إلى غابات أسمنتية مقيتة، بينما تستقطب "الطغمة المتنفذة" من صناع القرار أعمالًا صناعية تضاعف من وتيرة التلوث لتجعل من النعيم المقيم "جحيمًا كيمياوياً" بامتياز.
في جمهورية بنغلاديش الشعبية، الشعب يأتي أخيرًا، وتأتي البيئة في الدرك الأسفل منه.
دولة يحتلّها نفاق الغرب بمعامل خياطته وصناعة تفكيك السفن غير المنظمة، ويجثم على صدرها نظام قمعي يُمعن في استغلال الطبيعة ومواردها ومن ثم يحولّها إلى حجارة ميتة كما في أسطورة "ميدوسا" الإغريقية، حتى ظهر في هذه الجمهورية "بيرسيوس" جديد، متمثلًا في منظمة تعنى بالذود عن حياض الطبيعة وحياة الناس تسمى بــ "جمعية المحاميين البيئيين" البنغلادشية"، ويُطلق عليها اختصارًا ـ"بيلا"، والتي تضع الحكومة وصانعي القرار تحت طائلة المساءلة في سبيل تطبيق قوانين وضعتها الدولة، صوريًا، ليوقظها من سباتها ثلة من خيرة محامي بنغلاديش البيئيين، وعلى رأسهم المحامية اللامعة رضوانا حسن.
ولدت حسن في بنغلاديش وعاشت فيها أغلب حياتها، وتخرّجت من جامعة داكا بدرجتي البكالوريوس والماجستير بتقدير ممتاز، وعملت مع "بيلا" منذ عام 1993، حيث سلطت الضوء على العديد من الانتهاكات بحق البيئة والإنسان، وأهمها صناعة تفكيك السفن، كونها أثرّت على البيئة سلبًا دون مراعاة سلامة العاملين في هذا المجال.
حازت رضوانا على العديد من الجوائز تقديرًا لجهودها، أبرزها جائزة "جولدمان" البيئية وجائزة "رامون مغسايسي" لشجاعتها وقيادتها الفذة في حملتها لتعزيز النشاط القانوني في بنغلاديش، في سبيل الدفاع عن حق الناس في العيش الكريم بتوفير بيئة آمنة لهم.
نستعرض في هذه المقابلة الحصرية مع مجلة "آفاق البيئة والتنمية" ومضات من حياة رضوانا ونشاطها البيئي والقانوني لنستمد الإلهام من مسيرتها الغنية.
مرحبا بك سيدة رضوانا ونشكرك على تخصيص وقت لهذا الحوار بالرغم من جدول أعمالك المزدحم.
بداية.. لديك سجّل حافل بالنشاط في مجال العدالة البيئية والحماية.. ما هي الخطوات الأولى في مشوارك التي قادتك إلى نجومية الريادة في هذا الحقل الشائك؟
أهلاً بكم. صراحة أرى نفسي ناشطة أكثر من قائدة.
ما حدث أني بعد تخرجي من الجامعة، أردت العمل في السلك القانوني والمحاماة، والحصول على منح دراسية لنيل الدرجات العليا، ثم انتهى بي المطاف في "بيلا".
لقد كنت من أوائل المستقطبين، لكن لم أجد في بادئ الأمر أن العمل في "بيلا" يناسب طموحاتي.
إلا أني مع انخراطي في العمل الميداني وملامسة هموم الطبقات الكادحة في المجتمع، وجدت أنه من الممكن تسخير المحاماة والقانون في خدمة الناس بتفعيل قوانين ركنها صانعو القرار وبقيت حبيسة الأرفف مع الغبار، فضلًا عن رغبتي الجامحة في تغيير الصورة النمطية تجاه من يمتهنون المحاماة والمهن القانونية الأخرى، وفي ذلك الوقت لفت انتباهي أن في القانون مواد كفيلة بدفع الضرر عنهم، ما دفعني إلى تقديم صورة مغايرة للمحامي؛ إذ ليس بالضرورة أن يكون منحازاً إلى جانب المؤسسات والشركات.
وفي نهاية المطاف، يكفي أن يعلم من يمتهن المحاماة أن عمله في شركة مرموقة والدفاع عن الفساد لن يجلب له العيش الآمن والهواء النقي والماء الصافي؛ علمًا أن 80% من سكان بنغلاديش يعيشون على ما تبقى من موارد طبيعية، فيما 60% لا يجدون مصدرًا آخر للبروتين الحيواني. بالمختصر نحن نعيش في بلد لم يعد يُطاق التلوث في هوائه ومائه.
حدّثينا عن أبرز المعوقات في عملك كونك محامية بيئية؟
حسنًا، العائق الأساسي لدينا أن الرواية الحكومية المزروعة في عقول الناس تقوم على فكرة تَحَوُل بنغلاديش إلى دولة متطورة؛ ولا شك في أنها رواية كلاسيكية متهالكة قوامها الزحف العمراني.
وانتهاك حرمة البيئة ومصادرها، وهو ما يُطلق أيدي صناع القرار ليعيثوا فسادًا في البيئة والطبيعة تحت غطاء قانوني والتستر بديمقراطية تخفي تحتها ممارسات الدولة القمعية.
الدولة هنا تعتمد الصورة النمطية للتنمية والمتمثلة في الزحف العمراني وتحويل المناطق الريفية، التي تشكّل السلال الغذائية الأساسية للوطن بكامله، إلى غابات أسمنتية، بينما في المقابل تهدف التنمية البيئية إلى إضفاء روح الريف على حياة المدينة.
وللعلم، فإن بنغلاديش من أكثر الدول اكتظاظًا بالسكان، لكن القطاع الزراعي يعاني سطوة المدينة وتمددها.
وفي حين أنه من المفترض أن تشكل الغابات والمساحات الخضراء ما لا يقل عن 25% من مساحة الدولة، تشير الإحصاءات الحكومية إلى أن الغابات تغطي فقط 11% من المساحة الإجمالية، وهي نسبة مُبالغ في تقديرها، إذ أنني لا أراها تتجاوز 9% في أحسن الأحوال.
إن إزالة الغابات يحرم الدولة من تحسين الظروف المناخية المحلية ويؤثر سلبًا على الصحة النفسية للناس، فضلًا عن أن العديد من المجتمعات القَبلية لا يمكنها العيش خارج الغابات.
ببساطة شديدة، الحكومة هنا تريد السير على النهج الغربي القديم في التنمية بالرغم من تسببه بأزمة التغير المناخي. لذا، أنا أعمل مع الناس لمجابهة مساعي الحكومة لتقويض القانون وسلطة الشعب.
إن غياب الديمقراطية ينزع من الناس سلطتهم، ويرهب كل من يفكر مجرد تفكير في مواجهة الخطاب الحكومي الكاذب، وتضارب المصالح بين القطاع العام والخاص دون الالتفات إلى حقوق الإنسان.
تخيَّل أن تمر في بلدك سبعة أنهار عظيمة، لكن تضطر إلى شراء المياه المعلبة، علاوة على انخفاض متوسط العمر المتوقع ثلاث سنوات عن المتوسط العام بسبب تلوث الهواء.
إلى أي مدى يمكن أن تصبح الحكومة البنغالية تقدمية في نظرتها للطبيعة؟
على الورق، تبدو الحكومة البنغالية في قمة التقدمية. لكن من ناحية السلوك، فهنالك بون شاسع بين النظرية والتطبيق، وهو أيضًا ما يبدو في مواسم الانتخابات والخطابات الرزينة والشعارات الرنانة.
مثال على ذلك أن العديد من المشاريع تتطلب استصدار دراسة تقييم أثر بيئي، لكن إذا تأخر صدور الدراسة عن حد معين، يمكن تنفيذ المشروع دون انتظار الدراسة.
وللعلم، فإن الحزب الحاكم في بنغلاديش لا منافس له، وبالتالي لا توجد ديمقراطية حقيقية ولا التزام واقعي بتنفيذ أي وعود.
في إبريل 2014، انتفض عدد من العمال على ظروف عمل غير إنسانية في مشروع انشاء مولد طاقة، فقمعته الحكومة مستخدمة الرصاص الحي وقضى حينها عدد من المحتجين.
ما قصة تأسيس "بيلا"؟ وكم تقدرين عدد المنتسبين إليها؟
أنشئت في عام 1992 بعد حضور مؤسس بيلا د. محيي الدين فاروق إحدى المؤتمرات البيئية في ريو دي جانيرو، فلمعت في رأسه فكرة تشكيل المنظمة.
اليوم، يُقدر عدد المنتسبين حوالي 150 موزعين على 6 مكاتب محلية، إضافة إلى تشكيل أجسام استشارية مع العديد من الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني لتوفير الاستشارات القانونية ودعم جهودها البيئية.
في محاضرة ألقيتيها في "تيد إكس داكا" في عام 2013، تحدثتِ عن العدالة البيئية وأشرتِ إلى قوانين بيئية مهملة من جانب الحكومة. فكيف تمكنت من تحقيق اختراق واضح في عددٍ من الممارسات الحكومية ضد البيئة، كقضية تفكيك السفن على سبيل المثال؟
الحل في هكذا مسائل هو وجود مَعارف داخل الحكومة ممن لديهم الرغبة بالمساعدة، كما يساهم الإلحاح وكشف الممارسات الخاطئة والتأني في اختيار حلفاء داخل الحكومة، ومن المهم أن نمثّل الفئة الأكثر تضررًا، كالعاملين في مجال تفكيك السفن.
كذلك، من المهم تسخير الإعلام وتدويل القضايا البيئية، علمًا أن صناعة تفكيك السفن في بنغلاديش لها زبائن من مختلف دول العالم.
هل من سبيل إلى مساءلة ومحاسبة الغرب على استغلاله السيئ للبيئة وتلويثها في بنغلاديش؟
في المجتمع الدولي نفاق واضح، إذ يحافظ الغرب على بيئته على حساب البيئة في الدول النامية، فلا يتورع عن إطلاق يد الحكومة للإمعان في انتهاك الحقوق وتضييعها.
من وجهة نظري يُفترض أن تُضاف الإبادة البيئية Ecocide إلى جملة الجرائم التي تُحاسِب عليها محكمة الجنايات الدولية.
ماذا عن استهدافك بسبب عملك محاميةً بيئية؟
نعم، ففي بعض الأحيان يعمد الإعلام الرقمي ومواقع التواصل الاجتماعي التابعة للشركات إلى النيل من عزيمتي وتشويه صورتي، كما أني أتلقى مكالمات هاتفية استفزازية، ولا يخلو الأمر من محاولات يائسة لشراء ذمتي بالرشاوى. وفي عام 2014، وصل حد النذالة ببعضهم إلى اختطاف زوجي ليومين ثم أُفرج عنه بعد ضغوطات دولية.
برأيك هل ينطوي انتهاك البيئة في بنغلاديش على تفرقة اجتماعية؟
بالتأكيد، مثال على ذلك أن إدارة الغابات تخضع لمصالح الشركات، في حين يقبع المزارعون في أسفل سلم الاهتمامات فمن السهل التلاعب بهم، وبيع منتجاتهم بأثمانٍ بخسة لا تسد رمقهم.
وهناك سياسة ضم الأراضي الخاصة لملك الحكومة لتنتفع منها الشركات. ولا ننسى أن العديد من القطاعات الصناعية في بنغلاديش، كصناعة دباغة الجلود والصناعات الدوائية وغيرها تلقي بنفاياتها في الأنهار، ما يعرّض فصائل الأسماك الأصلية لخطر الانقراض.
وبطبيعة الحال أدى شح الأسماك في أنهار بنغلاديش إلى رفع أسعارها، وبالتالي حرمان غالبية السكان من مصدر البروتين الحيواني الأساسي لهم.
بحسب خبرتك، ما هو دور الأجيال القادمة في إيقاد شعلة الدفاع عن البيئة ومناصرة قضاياها؟
لدينا نماذج مشرقة في الأجيال الصاعدة، لكن ما أخشاه هو أن يبتلع الناس طُعم الرواية الحكومية.
وأود من منبركم هذا تحذير الناشطين الجدد من اتباع النمط الأوروبي في النشاط البيئي، وإنما الاتجاه نحو تطوير نماذج محلية تتناسب مع السياق العام للدولة على أن تتكيف مع السياق المحلي.
هنالك العديد من الحركات في بنغلاديش التي تنادي بحقوق الحيوان والتوقف عن استخدام الوقود الأحفوري، لكن أرى أن هنالك قضايا بيئية أكثر أهمية ومن شأنها أن تصب في خدمة الناس مباشرة، ومن الأَولى بنا بذل الجهود في الدفاع عنها، وعلى رأسها تحسين سبل عيش صغار المزارعين والحد من تلوث الماء والهواء.
ما هي رسالتك لقراء مجلة آفاق؟
الديمقراطية والبيئة رفيقان لا يفترقان، والدفاع عنهما رسالتان تحملان نفس المغزى، وهي كرامة الإنسان وعيشه الآمن. لذا، فلنتسلّح بالأمل والقوة لتبليغ رسالتنا وحماية البيئة، والتوقف عن تدمير ما يستحيل علينا إعادة إحيائه من جديد.