خاص بآفاق البيئة والتنمية

البطيخ والمانجا في القاهرة
تحطُّ للمرة السادسة في القاهرة، المدينة الدنيا. تجمع هذه المرة مشاهد خاطفة من العاصمة العربية الأكثر سكانًا، ( 22 مليون في القاهرة الكبرى و10 مليون في المدينة نفسها)، فيما تستلقي على 538 كيلومترًا.
الأكثر تكرارًا هنا: التلّوث الواضح، والزحام الهائل، واكتظاظ المركبات، والأحوال الاقتصادية الصعبة لشريحة واسعة من السكان، والابتسامات التي تُميّز الوجوه في أحلك الظروف، كما يفعل نهر النيل بالمدينة.
تنتشر وسط حي "العجوزة" متاجر وباعة متجولين لخضار وخبز وصحف، ويصطف مواطنون للحصول على اللحوم، فيما تتكدس أكوام نفايات في بعض المواقع، وينشط عمال النظافة في جمع القمامة ليل نهار.
واللافت في العجوزة الأشجار التي تغطي الطرقات، والافتتاح المتأخر للمتاجر، وإقفالها لمتابعة مباراة القمة النهائية في كرة القدم بين"الأهلي" و"المصري". أما الحرّ فحكايته متشابهة في كل أحياء العاصمة. ولا تقل عن 38 درجة في النهار، وتهبط في الليل إلى 25 أحيانًا ودون ذلك، مع غياب الرطوبة التي تميز صيفنا. وتشهد جولة الإعادة لامتحانات الثانوية العامة مرافقة الأمهات والآباء للطلبة، وانتظارهم لحين انقضاء الاختبار.

الحياة والازدحامات المرورية في القاهرة لا تتوقف على مدار الساعة ليلا ونهارا
لائحة
تُدوّن ما تشاهده من أسعار، وتقارنها بما ندفعه من أثمان ( الجنيه الواحد بعشرين أغورة): كيلو البرتقال بـ 475 قرشًا، والتين بـ 13 جنيهًا، والليمون بـ 750 قرشًا، والجزر بنصف جنيه للكيلو، والفلفل الملون بـ 11 جنيهًا، والبرتقال بـ 18 جنيًا، والمانجا بـ 30 جنيًا، والمشمش والعنب بعشرين جنيهًا، والكوسا بـ 750 قرشًا، والخيار بـ 850 قرشاً، والبطيخ بـجنيه واحد، والثوم المستورد بـ 15 جنيهاً ونصف، أما اللحوم بـ 85 جنيًها، ووجبة السمك في مطعم معقول بـ 120 جنيهًا.
كاستنتاج سريع من لائحة الأسعار، ترتفع أسعار الفواكه المستوردة وتتدنى للمنتجات المحلية، أما اللحوم فقد تضاعف ثمنها خلال عدة سنوات، فيما تصاعدت أسعار السلع الأساسية كالكهرباء والغاز والخبز، وتتفاوت أسعار الملابس وسائر السلع من مكان للآخر، لكن إيقاعها هو الارتفاع، وغياب تعرفة موحدة.
الجميل خلال السير في شوارع القاهرة: الزمالك، المهندسين، جاردن ستي، شبرا، العتبة، الحسين، إمبابة، الدقي، تعامل أهلها وتجارها وسائقيها بروح الدعابة التي تطبع الوجوه، والطرب على أهازيج الأغاني الشعبية والقديمة، والشغف لحد الجنون بالرياضة لدرجة تقفل معها المتاجر في الجولات النهائية للكأس المحلي، والانتشار الكبير لمتاجر بيع الكشري (الطبق الشعبي)، والازدحام أمام دور السينما، التي تصل تذكرة الفيلم بالدرجة الممتازة لـ 35 جنيهًا، والإسراف في سماع نجوم الطرب الشرقي، ومطاعم- السفن التي تجوب النيل في عتمة الليل، والأعم: الأمل بعبور الأزمة.

القاهرة تعد من أكثر المدن تلوثا في العالم
تلّوث
تقرأ، وأنت في فندق بأطراف الحي تقريرًا عن تلوث المدينة، فيقول معدوه إن مدينتهم "حازت قبل سنوات وجيزة على ترتيب متقدّمً للغاية على مقياس المدن الأكثر تلوّثًا في العالم، فبينما يعاني قطاع كبير من سكان العاصمة المصرية العريقة من ظروف الحياة والمعيشة وتدنّى المستوى الاقتصادي، تنجح مدينتهم الأخطبوطية المتشابكة الأطراف في اقتناص المركز الثالث كأكثر مدينة ملوّثة في العالم".
ومما ورد في التقرير أن أخطر أشكال التلوّث التي تعانيها القاهرة، تلوث الهواء، فيما صنّفها المؤتمر السنوي الـحادي عشر للجمعية المصرية للشعب الهوائية والصدر والحساسية، كثالث أكثر مدن العالم تلوثًا للهواء بعد نيو ميكسكو، وبكين، ما أدى إلى انتشار مرض “السدّة الرئوية”.
وأضاف التقرير: "بعد ثورة يوليو 1952، انتشرت المصانع الملوِّثة للبيئة في شتّى أنحاء العاصمة، وخاصة في منطقة شبرا الخيمة".
ويشكل الدخان الناتج عن حرق قشّ الأرز في بعض محافظات الدلتا وشمال الصعيد القريبة من القاهرة، ما يُعرف منذ سنوات بظاهرة "السحابة السوداء"، التي غطّت أجزاءً كبيرة من سماء العاصمة، وأعاقت الرؤية فيها بشكل واضح. إضافة لوجود قرابة 12600 منشأة صناعية، وثمة كميات ضخمة من الملوثات والأدخنة التي تتصاعد يوميًا، وتنتشر على امتداد القاهرة الكبرى: القاهرة، والجيزة، والقليوبية.
وتحدث التقرير عن حرق القمامة المسؤول عن تلوث نحو 15% من هواء العاصمة، وتتسبب وسائل النقل بقرابة 35% من تلوثها، وأشار إلى الغازات السامة المسيطرة على المدينة كثاني أكسيد الكبريت، وأول أكسيد الكربون، والغبار، والدخان، وتحدث عن التداعيات الصحية والاقتصادية للتلوث، لكن الحل الذي يقترحه غرس 12 مليون شجرة لامتصاص التلوث.
على الأرض، تبدو الأبنية سوداء، وتنتشر روائح غير لطيفة، ولا تتضح الرؤية كثيرًا، فيختفي الأفق، ويشعر المار في طرقات العاصمة بالضيق، لكن مع كل هذا تستقطب القاهرة سياحًا من دول العالم، ويتسلح المصريون بابتسامتهم ونكاتهم، في كل الظروف.

القاهرة ليلا
فجوات
يقول الخمسيني حسن، وهو موظف بإحدى دوائر الحكومة إنه يعمل في النهار في إدارة حسابات مؤسسته، ثم يذهب لاستراحة نوم ليعود إلى استئناف عمله سائق تكسي في جوف الليل.
يجمع حسن من الوظيفتين نحو 3000 جنيه ( 600 شيقل)، ويقول إنه اعتاد على هواء القاهرة، فهو يحب مدينته، وليس لديه استعداد لتركها إلا إلى التربة (القبر)، ولن تقسو أم الدنيا على أولادها.
يبدأ زحام المركبات صباح الاثنين، استهلال الأسبوع، ويتضاعف سكان العاصمة في النهار مليونين إضافيين، فيما تبدو القاهرة أجمل في الليل، ولا تغمض جفنيها.
تنتقل إلى خان الخليلي، الأجواء هنا لا تعرف هدنة للنوم أيضًا، ويبدو النهار قليل الحركة، فيما يتنافس أصحاب المطاعم والمتاجر على استقطاب السائحين، ولا تخلو صفقات البيع من مفاوضات طويلة حول الأسعار التي تتذبذب كثيرًا، وتخصص للسياح.

بيع الخبز في شوارع القاهرة
لا يهتم بعض السائحين الذين حاورناهم في القاهرة بالبيئة، "فيجرفهم التيار" كما تقول آن السائحة الإنجليزية، ويتخلون عن وضع كمامات كحال تسيشلا اليابانية التي تنطق القليل من العربية. وبمجرد وصولهم إلى العاصمة المصرية يتنازلون عن الهواء النقي، ويدخل هوى مصر إلى قلوبهم، فيكررون الزيارة كالزوجين فارس وحسناء من مدينة فاس المغربية اللذين يزورا القاهرة للمرة الخامسة.
في مدخل الحسين، ميدان مزروع بالأشجار، ومحاطٌ بساحات واسعة يتخذها المصريون وبعض السائحين مكاناً للجلوس والاسترخاء والنوم، وتنتشر قوى الشرطة والأمن على مدار الساعة. أما المطاعم الشعبية فتشغل حيزًا واسعًا من الشوارع، ويتسابق المصريون على إقناع الزبائن بالجلوس عندهم دون غيرهم.
الغريب شغف المصريين بالسكر الأبيض، فحتى عصير المانجا يضيفون إليه كمية من المسحوق الأبيض، ويرفضون بيعها دونه في الغالب.
في القاهرة كسائر العواصم طبقية بارزة، فهناك فنادق راقية تطلب من المصريين دفع 75 دولاراً ( أكثر من 1300 جنيه) لليلة النجوم الخمسة، وهو مبلغ يفوق الأجر الشهري للموظف البسيط.

تلوث نهر النيل
تجلس في شارع مزدحم بالمقاهي وسط شارع طلعت حرب، وتطلب من مرافقك المصري فاروق تصويب استنتاجك عن الحلول الأمثل لأزمة عاصمة أم الدنيا، فهي تحتاج إلى قرار سريع بتحديد النسل كما الصين، ودعم وتسهيل الزحف البشري خارج المدينة ولمسافات بعيدة نحو الصحراء، وإعادة الروح التي تكاد تختفي للطبقة الوسطى، والإفراط في غرس الأشجار بكل مكان في المدينة الحالية نحو بيئة أقل تلوثًا، وسياسة جديدة في تنظيم المرور. يهز صديقنا رأسه، ويتمنى وضع حد للانفجار السكاني المتنامي، وقال: " لدي ابنة وابن وهذا عدد كافٍ حتى نستطيع العيش الكريم، واستنشاق هواء نظيف، وتفادي الزحمة".
وتفتح القاهرة رغم كل جراحها الأبواب للاجئين السوريين وسواهم، الذين ينشطون في التجارة، وهو ما يؤكد أن قلب عاصمة أم الدنيا الكبير يخفق حبًا للأشقاء العرب في أشد الظروف قسوة.
 |
في أحياء القاهرة |
 |
نهر النيل |
aabdkh@yahoo.com