"طبيعة فلسطين" حين لاحَ سحرُها أمام عدسة "كيوان" الذي سافر إلى أصقاع الأرض لتصوير الظواهر الكونية
تعود أصول جمال كيوان لقرية صفورية المُهجرَّة عام 1948 - قضاء الناصرة؛ كاميرته التي اشتراها من مصروفه في صباه؛ وقعت في حب هذه القرية حين زار آنذاك بيت جده في "صفورية" والذي لا زال قائماً؛ وهكذا بدأ يتجه نحو زيارة باقي القرى المهجرة وتوثيقها للأجيال القادمة وهذا هو جوهر رسالته كما يقول. "ابن الناصرة" يؤكد أن ما يقوم به من توثيق للقرى المهجرة لا يروق للمستوطنين، لأنه يكشف زيف ادعائهم أن البلاد كانت فارغة بلا أصحاب؛ ما دفعه للمضي قدماً في مشروع تصوير فلسطين قبل الـــ 48 من خلال كتاب أصدره عن القرى المهجرة يجري فيه مقارنة حالها بين الأمس واليوم. ويحرص كيوان على أن يحتفظ بأكبر قدر ممكن من "الطبيعية" بنسبة تتراوح بين 80-90 % دون اللجوء إلى الكثير من المؤثرات؛ مكتفياً باستخدام الفلاتر بغرض توازن الإضاءة. رافق كيوان مصورين من كل أرجاء العالم في جولات تصوير، ولاحظ أن ما يميزهم التواضع وتبادل المعرفة واحترام أعمال الغير؛ وتبين له أن مثل هذه الجولات تبرز الوجه الاخر للإنسان الفلسطيني المحب للحياة والمغامرة والتجوال.
|
خاص بآفاق البيئة والتنمية
أزهار فلسطين-تصوير جمال كيوان
نادراً ما نجد شخصاً لا يتخذ من موهبته التي يتقنها مصدراً للرزق؛ إلاّ أن المصور الفلسطيني جمال كيوان فعلها.. فقد استطاع أن يوثق عبر صوره جمال فلسطين منجذباً للضوء المتبقي من القرى المهجرة والمدن الفلسطينية؛ ولم يتوقف عند هذا الحد، بل استحوذت الطبيعة الآسرة في أنحاء مختلفة من العالم قلبه؛ لينال جوائز عالمية بجدارة؛ أما عمله الرسمي فبقي بعيداً عن هذا كله، وهو تصميم منتوجات البلاستيك والبرمجة.
|
|
الشفق القطبي وجمال كيوان |
التقط المصور المبدع جمال كيوان هذه الصورة في ظروف مناخية قاسية من الأمطار والرياح |
قرى مهجرة
تعود أصول جمال لقرية صفورية المُهجرَّة - قضاء الناصرة؛ كاميرته التي اشتراها من مصروفه في صباه؛ وقعت في حب هذه القرى حين زار آنذاك بيت جده في "صفورية" والذي لا زال قائماً؛ وهكذا بدأ يتجه نحو زيارة باقي القرى المهجرة وتوثيقها للأجيال القادمة وهذا هو جوهر رسالته كما يقول.
يليق بضيفنا اسم جمال.. كيف لا وهو لا يقدر على مقاومة سحر الطبيعة؛ فلم يعتذر عن إجراء المقابلة مع "مجلة آفاق البيئة والتنمية" بالرغم من انضمامه لجولة استكشاف واستجمام في ألمانيا والنمسا؛ حيث يستنشق المتعة أثناء تسلقه لجبال الألب.
|
|
الطيور المهاجرة في بسان- تصوير جمال كيوان |
القمر العملاق في سماء الناصرة- تصوير جمال كيوان |
حديثه معنا غلب عليه الهدوء والسماحة عاكساً أثر الطبيعة في شخصيته؛ فقد استهلّه بهذه الفاتحة: "حين أدركت اختفاء آثار القرى المهجرة مثل عين صفورية التي هُدمت عام 1995 شعرت أني يجب ألا أقف مكتوفاً؛ إنه شعور لا يوصف حين وصلتني رسالة من مهجرَّين من قريتي يروي لي أصحابها كيف أن صوري ذات يوم، أحيت ذاكرة جدهم الأكبر، فجمع أحفاده وأخذ يحدّثهم عن ذكرياته الطفولية ليتعرفوا ولو قليلاً على أراضيهم ومكان بيوتهم وأين نشأ جدهم".
|
|
المصور المبدع جمال كيوان أثناء تسلقه الجبال بين الينابيع الحارة وتحت المطر |
برتقال- تصوير جمال كيوان |
إنجازه في هذا الجانب أشرق في حياة آخرين؛ فهناك امرأة هاجر أهلها في عام النكبة إلى الأردن؛ استطاعت الوصول إلى أرض أجدادها من خلال صوره؛ لافتاً إلى أن الصورة في حالةٍ كهذه أقوى من ألف كلمة؛ وهذا ما يزعج "المؤسسة الإسرائيلية".
"ابن الناصرة" يؤكد أن ما يقوم به من توثيق للقرى المهجرة لا يروق للمستوطنين، لأنه يكشف زيف ادعائهم أن البلاد كانت فارغة بلا أصحاب؛ ما دفعه للمضي قدماً في مشروع تصوير فلسطين قبل الـــ 48 من خلال كتاب أصدره عن القرى المهجرة يجري فيه مقارنة حالها بين الأمس واليوم.
|
|
تلوث البحر الميت - تصوير جمال كيوان |
جمال كيوان ذات صباح في ايسلندا |
(ماذا أضاف إليك شغفك بالطبيعة؟).. يجيب عن سؤالنا بلا تردد: "الاستكشاف والمغامرة حفزّاَني أكثر لمعرفة خبايا بلادنا من خلال التجول والبحث عن الظواهر الطبيعية كي أنقلها للآخرين".
ويعترف أنه "محظوظ" فلولا الكاميرا لم يكن ليعرف الكثير من معالم فلسطين؛ ودول العالم وثقافات الشعوب.
ويبدو المصور المحترف أسيراً لجمال فلسطين؛ بدليل ما قاله: "فلسطين بطبيعتها الساحرة تنافس أجمل بلدان العالم؛ فمن يحب وطنه لن يدخر جهداً في إظهار أجمل ما فيها".
ولا ينسى ليلة عدَّها "من ليالي العمر" حين أقدم على تصوير درب التبانة وحركة النجوم في صحراء النقب؛ "كنت أراها بقلبي لا بعيني.. إنها الخلاصة".
|
|
رحلة المصور المبدع جمال كيوان في النرويج |
زخات من النجوم الصحراوية في النقب- تصوير جمال كيوان |
وفي سؤاله عن أكثر الأماكن التي تملكته الدهشة حيالها؛ قال إنها مدينة القدس تحديداً حين صور المسجد الأقصى من الجو؛ حتى أنه لم يستطع أخذ الصورة قبل أن يشبع عينه من جمالها؛ أما القرى التي فتنته فهي قريته صفورية ذات الأرض الخصبة التي تشقها الينابيع والبساتين والحفريات الأثرية؛ وقرية لفتا المهجورة- قضاء القدس التي تحظى بأبنية رائعة من الحجر؛ وكذلك قرية الجاعونة.
|
|
صور جمال كيوان من معرض ايسلندا وكأنها لوحات رسم |
صور جمال كيوان من معرض لندن |
في بلاد العجائب
ولدى الرجل فلسفة غريبة بعض الشيء؛ في رفضه لأن يتخذ من التصوير وسيلة لكسب العيش؛ معللاً: "لم أشأ أن يتحول الأمر لـــ"حسبةٍ مالية" مقابل عمل لعدد من الساعات؛ فمن يستشعر قيمة الهواية يدرك أني لا أبالغ؛ مع العلم أني أنفق عليها من جيبي الخاص ولا أتلقى دعماً من أي شخص أو مؤسسة".
هذا عن فلسطين ماذا عن خارجها.. يأخذنا الحوار مع كيوان إلى مساحاتٍ خلابة.. هذه المرة إلى ايسلندا التي عاش فيها أحلى مغامرات حياته في أيلول من العام الماضي.
يتحدث بإسهاب عن هذه التجربة قائلاً:" الجميل في ايسلندا أنك لا تستطيع ان تضع الكاميرا جانباً؛ حتى ونحن نسير في الباص لا نتوقف عن اقتناص صور البحيرات والجبال التي نمر عنها؛ إنها أرض الجليد والنار التي استحقت مني أن أقيم لها معرضا بعد عودتي إلى البلاد".
|
|
صورة للبحر الميت نشرت في مجلة علمية عالمية- تصوير جمال كيوان |
صورة ليلة القدر في الأقصى التي فازت بالجائزة العالمية-جمال كيوان |
لم يكن عادياً بالنسبة لجمال أن يدخل إلى باطن الأرض من خلال فوهة بركانية في أيسلندا؛ بل من عجب التناقضات التي عاشها أن تمطر الأمطار الغزيرة عليه هو ورفاقه بينما يتسلقون الجبال، فيما ينابيع المياه الحارة تتدفق بدرجة حرارة 100 درجه مئوية.
ويشارك جمهوره في موقف كلما تذكره ضحك:" حين دخلنا الفوهة البركانية رافقنا مرشد ايسلندي؛ وداعبنا بالقول "إن رأيتموني أفرَّ هارباً فأعلموا ان الحمم قادمة؛ أما إن بدأتُ بالبكاء أيقنوا أننا لن نخرج أحياء".
وأفضى بالمزيد: "وددتُ كثيراً تعريف أبناءِ شعبنا ممن ليس بمقدورهم الوصول لأيسلندا والقطب الشمالي بهذه الظواهر الخارقة التي تخطف الحواس في رحله مليئة بالمخاطر ناهيك عن كلفتها العالية؛ لقد استشعرت الخشوع وأنا أتأمل قدرة الله في خلق الكون الفسيح".
|
|
معرض المصور الفلسطيني المبدع في ايسلندا أرض الجليد والنار |
مغارة القوس في صحراء النقب- تصوير جمال كيوان |
أما عن رؤيته للشفق القطبي؛ فلذلك حكاية أخرى.. تحضَّر جيداً قبل السفر لهذه التجربة العظيمة الفريدة؛ فعكف على دراسة تكوين الشفق القطبي عن طريق برنامج يحدد زمانه ومكانه ليتسنى له تصويره في الوقت المحدد.
والشفق القطبي عباره عن عواصف شمسية تخرج من نواة الشمس متجهة إلى الأرض فتحرق كل شيء في طريقها؛ وحين تصل إلى الكرة الأرضية فإنه بفضل رعاية الله ووجود الحقل المغناطيسي حولها؛ والذي يتفاعل مع العواصف الشمسية يوجهها للقطبين الشمالي والجنوبي.
يبدو مذهولاً وهو يصفها: "للوهلة الأولى تبدو كأنها صورة خيالية جاءت من أحد القصص الخرافية، لكنها ليست سوى برهان على قدرة الله عز وجل وعظمته، ففي ظلام الليل القطبي الدامس تظهر هذه الأضواء البراقة لتضيء السماء وتخطف أنظار من يراها، تبدو كأنها حوريات سماوية هبطت إلى الأرض لتضفي عليها بعضاً من سحرها وروعتها، لا أظن أن هناك ظاهرة بديعة على وجه الأرض تفوقها جمالاً".
ويضيف: "من شدة لهفتي لرؤية ظاهرة كونية استثنائية؛ فإنني بمجرد وصولي إلى منطقة القطب الشمالي كان من المقرر ذهابي إلى الفندق لاستلام غرفتي وتناول العشاء إلا أنني رفضت خوفاً من أن يفوتني هذا الجمال؛ لكن تمت طمأنتي أن نيل قسط قليل من الراحة لن يحرمني مبتغاي".
بدا الإمتنان واضحاً حين قال: "حين رأيت الشفق لا إرادياً تركت الكاميرا وتركت عينيّ تحدقان بمشهد أقل ما يقال عنه أنه أكثر من رائع".
|
|
مقارنة |
سوسنة الناصرة- تصوير جمال كيوان |
البحر الميت وحسرة التلوث
الطبيعة والوطن هدفان متلاصقان.. كيف يسيران معك جنباً إلى جنب؟ يجيب بروح تغمرها الإيجابية: "برأيي أن المحورين يتكاملان؛ وبفضل الله أن هذه العلامة الفارقة أضحت تميز أعمالي؛ ومن يرى صوري سرعان ما يعرف أنها لي دون النظر إلى التوقيع؛ وهنا العبرة؛ أن يستمر المرء في البحث عما هو جديد ويضفي على نتاجه مزيداً من الإبداع".
ومن المسابقات التي فاز بها؛ ناشيونال جيوغرافيك في محور يتناول عادات الشعوب وثقافاتهم؛ والصورة لعائله تجلس في ساحة البيت مجتمعة "وهذا ما نفتقره اليوم؛ رغم ما يعيشه الشعب الفلسطيني من أجواء صعبة من فقر وحصار" وفق تعبيره.
كما فاز مؤخراً بجائزة عالمية؛ لصورةٍ لليلة القدر في المسجد الأقصى واختيرت من بين 14500 صورة ومن بين 250 دولة بالعالم؛ لتنضم إلى معرض يجوب المعمورة؛ معلقاً: "لم يكن من السهل حينها إدخال الكاميرا لأن شرطة الاحتلال تمنع ذلك؛ ولكن الحمد لله استطعت ادخالها مع زوجتي؛ وصعدت للمأذنة والتقطتها في لحظة تدفق المصلين لأتمكن من نقل حركتهم بالأعداد الكبيرة".
ويحرص كيوان على أن يحتفظ بأكبر قدر ممكن من "الطبيعية" بنسبة تتراوح بين 80-90 % دون اللجوء إلى الكثير من المؤثرات؛ مكتفياً باستخدام الفلاتر بغرض توازن الإضاءة.
واستخدم حديثاً ما يعرف بتقنيه بانوراما 360 من الجو؛ بغرض تغطية مدن فلسطين بحيث تظهر البلد من جميع الجهات مما يتيح فرصة الاقتراب لمكانٍ معين والتجول به من جميع الجهات؛ وهذا من شأنه إضفاء لمحة الروعة.
جمال من أشد المؤمنين بما قاله آنسل آدمز المصور العالمي للمعالم الطبيعية وأحد المحافظين على البيئة: "أنت لا تلتقط صورة بل تصنعها"؛ لذا نجده ينظر للكاميرا على أنها أداة للتعبير عما يدور في داخله ليصنعها برؤيته الخاصة.
فمشاعر الحسرة والألم تبدو مرافقة للمعالم الطبيعية في البلاد التي تعرضت للتلوث البيئي؛ كالبحر الميت والذي يصفه: "من يرى بعض الصور يحسبها حفريات على سطح القمر؛ حقيقة مؤسفة أن وضعه مأساوي؛ فقد تم إغلاق أغلبية الشواطئ وبعض الشوارع؛ هذا التلوث البيئي من صنع الإنسان ومصانع البحر الميت التي تعمل على تجفيف المياه فيه لصناعة الملح؛ مما يسبب حفراً عميقة بسبب ذوبان الملح؛ والتربة بذلك تصبح هشة.
|
|
تجفيف البحر الميت تصوير جمال كيوان |
جمال كيوان أثناء تصويره في بانياس السوري المحتل |
الثقافة والصبر سر المصور الناجح
النصائح هنا لا تستقى من الكتب؛ بل من وحي تجربة؛ ووفقاً لهذا يوصي جمال كل عاشق للكاميرا ألا يظن أن الأمر يقتصر على تقنيات العدسة؛ بل تلزمه مطالعة ومثابرة وصبر وعين ناقدة تنجح في تكوين عناصر الصورة لتصل إلى أجمل ما يمكن؛ أي أن على المصورين الصاعدين حفر الطريق بأظافرهم حسب رأيه.
وفي هذا السياق يقول: "رافقتُ مصورين من كل أرجاء العالم في جولات تصوير، ولاحظت أن ما يميزهم التواضع وتبادل المعرفة واحترام أعمال الغير؛ وتبين لي أن مثل هذه الجولات تبرز الوجه الاخر للإنسان الفلسطيني المحب للحياة والمغامرة والتجوال؛ وكان لي شرف المشاركة في معرض في لندن مع مصورين عالميين؛ وكانت مهمتي التعريف بمدينتي الناصرة".
وعن أبرز مما تعلمه من محترفي "القٌمرة": "التريث واختيار الوقت المناسب والانتظار حتى لو لساعات؛ ففي رحلة ايسلندا ذات ليلة خرجنا لتصوير الشفق القطبي في الساعة الواحدة صباحا؛ وتسلقنا أحد الجبال لتجنب اضاءة المدينة لمدة ساعتين؛ وانتظرنا ساعتين وللأسف لم يظهر الشفق..فالأمر يتطلب كثيراً من الصبر والمثابرة والإيمان بما نقوم به".
بمرور الأيام صار جمال عاشقاً للسفر؛ لا يدخر جهداً في الوصول إلى أماكن جديدة؛ آملاً بأن يذهب في المرة القادمة إلى أدغال افريقيا علّه يحدث قفزة جديدة في التصوير؛ وفي ذلك يقول: "الطريق طويلة وشاقة لكن مع الإصرار والمثابرة أنا واثقٌ أنّي بإذن الله سأصل لمراتب مرموقة عالمياً".
عكا من الجو- تصوير جمال كيوان