خاص بآفاق البيئة والتنمية

اسطنبول
شقّت طائرة "الإيرباص" الطريق من عمان صوب إسطنبول، المدينة الساحرة التي تربط آسيا بجارتها العجوز أوروبا. لا تبدو المسافة طويلة بما يكفي لقراءة كتاب سياحي يُروج لتركيا ومدنها، فالساعتين بالكاد تمنحان صاحبهما الاسترخاء من عناء سفر طويل بين ضفتي نهر الأردن، كثير التاريخ وقليل الماء.
في كبد السماء تمعن بخريطة الجمهورية التركية أو شبه الجزيرة المحاطة بالبحر الأسود، والمتوسط، وإيجه، ومرمرة، ومضيق البسفور، والدردنيل. تغبط الأتراك على طبيعتهم الخلابة وسر الحياة الذي يسير في عروق بلادهم، وتتحسر على جفافنا ونهب الاحتلال لمائنا ومناخنا الآخذ بالتطرف.

أغطية العبوات البلاستيكية في مدينة اسطنبول تجمع في عبوات خاصة
ليل ووهج
لا تسرف في النظر من نافذة الطائرة، فالليل يُخيّم على الأرض، وبالكاد تبان أنوار بعيدة تدفع الناظر للتفكير بالزحف السكاني، الذي يسبح في كل اتجاه، والتلوث الذي يتسبب به كل هذا الوهج، جراء حرق الطاقة.
نصل مطار صبيحة غير المركزي في العاصمة، نُحزم حقائبنا وننطلق بسرعة صوب الحافلة. يستقبلنا المرشد السياحي شعبان القادم من أنطاكية، والذي يتقن العربية ويتنقل بين لهجات مصرية وعراقية وأردنية ويبرع في تقليد لسان أهل الخليل.
يسرد: "عندنا من الشمال البحر الأسود وجورجيا، ومن الشرق أرمينيا وإيران، ومن الجنوب العراق وسوريا والبحر المتوسط، ولنا حدود بحرية مع قبرص، أما في غربنا فهناك بحر إيجة واليونان وبلغاريا".
اللافت في تركيا وقوعها على مفترق الطرق بين أوروبا وآسيا، فيما تشرف على مضيقي البوسفور والدردنيل وبحر مرمرة، وهي همزة الوصل بين البحر الأسود وبحر إيجة. والواضح تمدد الجمهورية على مساحة 783562 كيلو مترًا مربًعا، فيما تضم 80 مليون نسمة، 17 مليون منهم ينحازون لإسطنبول، مع أن أنقرة هي سيدة الجمهورية الأولى.
تنأى عن السياسة والتاريخ وجدلهما، وتسقط ما تسمعه من قصص وروايات وقوة وضعف وقصور وبذخ، وتنحاز للجغرافيا والبيئة الأصدق.

اسطنبول سيدة الأزهار
سيدة الأزهار
تتزين اسطنبول بالأزهار في كل مكان، ولا يكتفي أهلها على غرس أشجار الكستناء والدلب والكرز الأحمر والتوت والأزهار الملونة، بل يصرون على تزيين الأسوار وأعمدة الكهرباء والطرقات بالأحمر والأصفر والأخضر.
هنا في المدينة، ينشط عاملو النظافة في سباق مع الزمن، فيتحركون بمركبات آلية، وبعضهم يستخدم العربات المجرورة باليد في المناطق الضيقة؛ للإبقاء على أناقة المدينة.
تراقب عمليات إعادة التدوير فتجدها حاضرة بقوة: عبوات عصائر الزجاج تُعاد إلى المصانع، وأغطية العبوات البلاستيكية تجمع في أوعية خاصة لتشق دربها إلى صناعة المقاعد في الأماكن العامة، والمتاجر الكبيرة تفرز النفايات، والنظافة حاضرة بقوة، فثمة دوريات راجلة من العاملين على تنظيف المدينة يجمعون ما يلقيه السائحون في غير مكانه.
لا يبتسم الأتراك كثيرًا بطبعهم، ويحتفظون بجدية مبالغ فيها، كما أنهم يغضبون بسرعة البرق، لكن المساحات الخضراء المحيطة تجعلك تُمعن في تتبعها، وتتوقف عند باعة الأزهار الملونة.

الدرجات الهوائية شائعة الاستعمال في مدينةاسطنبول
أميرات الماء
الماء حاضرة بقوة، ويمنح اللون الأزرق الزائر فرصة للاسترخاء، تضاف إلى الخضرة الدائمة، والغيوم التي ما أن تغيب إلا وتعود للظهور، فيما تتزين البحار بطيور النورس، التي تقترب كثيرًا من عابري الماء، أما أسراب الحمام فتلتصق بالميادين العامة، وينشط بجوارها باعة القمح لإطعامها.
تشق السفينة البيضاء الخطى نحو جزر الأميرات، الأرخبيل المقابل لساحل اسطنبول، وسط بحر مرمرة، تحاط حافلة البحر بطيور النورس، وتتخلى بالتدريج عن قصور إسطنبول ومبانيها القديمة والطارئة، ويسرد المرشد السياحي تفاصيلَ عن الجزيرة التي تؤلف أفئدة أربع جزر كبيرة: بويوكادا (الجزيرة الكبيرة)، والخرج، والحصن، والحناء، بجوار جزر صغيرة أخرى: يسيدا، وشارب، والأرنب، والمُعلّقة، وكلها مجتمعة لا تتخطى 16 كيلو مترًا مربعا.
تحتفظ جزر الأميرات أو الجزر الحمراء بصداقة متينة للبيئة، هنا الأشجار في كل مكان، والورود تنتشر على الشرفات، والمواصلات المسموح بها فقط عربات الخيول (الحنطور) والدراجات الهوائية. يصطف طابور طويل من سائقي الحناطير لنقل السائحين في جولة داخلية، نشاهد الهدوء الذي تحدثه الطبيعة، ولا نرى غير سائقي دراجات يتنقلون إلى عملهم وأسواقهم، ويبالغون في تزيين عجلاتهم بالأزهار، مثلما تنتشر محلات لتأجير الدراجات.
تصطف مطاعم السمك على حواف الشاطئ، وتلتصق طيور النورس بالصخور، وتنتظر ما يجود به السائحون من خبز وسمك، فيما يروج باعة المثلجات التركية للماء والبوظة التقليدية، وينتشر باعة متجولون على متن السفن لعرض بضاعتهم: القمصان الموسومة بتركيا وأحمرها وأخضرها، وأدوات تقشير الخضروات والفاكهة، والملابس الربيعية، والماء، والهدايا التذكارية، والقاسم المشترك بينهم التفاخر بمنتج بلدهم والحديث عن متانته ورخصه ثمنه.

الغابات في محيط اسطنبول
لغة الجسور
نتخلى عن الأميرات وجزرهن، وننطلق في النهار التالي داخل البسفور، المضيق الجميل الذي يمنح الناظر فرصة المرور من أسفل جسور إسطنبول وأشهرها الجسر الفاصل بين آسيا وأوروبا
نمر من أسفل أحدث الجسور "السلطان ياووز سليم" (سليم الأول)، أعرض جسر معلق في العالم، يستلقي على 59 مترا.
نقرأ عن سيرة الجسور التاريخية، التي تصل القارتين الأسيوية والأوروبية، التي صارت ثلاثة في غضون 43 عاما. فيما ظلت مخططات أخرى حبيسة مهندسيها كالجسر المخصص لمرور سكة حديدية فوقه، وعقب ولادة الجمهورية التركية الحديثة عام 1923، تكررت محاولة بناء الجسور، غير أن شارة البدء الفعلية انطلقت عام 1970، ووضعت حدًا للتنقل بالقوارب والعبّارات بين القارتين الجارتين: أوروبا وآسيا.
ووفق نشرات سياحية توزعها الفنادق، فقد افتتح الجسر الأول في الذكرى الخمسين لميلاد الجمهورية، في تشرين الأول 1973، وعند الافتتاح، كان رابع أطول جسر في العالم، وحاليا وصل المرتبة 21 عالميا، ثم تغير إلى جسر "البوسفور"، وتغير إلى جسر "شهداء 15 تموز "، عقب المحاولة الانقلابية الفاشلة.
وترتفع أعمدة الجسر 165 مترًا، ويصل طول الجسر 1560 مترًا، ويمتد عرضه إلى 39 مترا، ويضم ستة مسارب، وبلغت كلفته نحو 22 مليون دولار.
ويربط الجسر الثاني (محمد الفاتح) بين قسمي المدينة، ورأى النور في تموز 1988، وتعلوه المركبات بثمانية مسارب. ويمتد على نحو 1510 مترا، وعرض 39 مترا، وهو جزء من الطريق الدولي الأوروبي السريع.
أما ثالث الجسور فيجمع بين شطري إسطنبول الأوروبية والآسيوية، وهو أعرض جسر مُعلّق في العالم، بعرض 59 مترًا، وتعد أعمدته الأعلى في العالم، بارتفاع 322 مترًا، ويحتوي على عشرة مسارات: 8 للسيارات، و2 للقطار السريع، ويرتفع عن سطح البحر 59 مترًا.
تبدو الجسور من أسفل كالطرق السريعة أيضًا، ولا يغفل مرشدنا شعبان عن الإشارة لانتحار مهندس ياباني اشرف على إقامة الجسر الأخير، بعد انقطاع كابل فولاذي، تبين أن الخلل في صناعته.

المساحات الخضراء في محيط اسطنبول
بورصة تفوق المال
نتجه صوب بورصة في الجهة الشمالية الغربية من تركيا، صاحبة المكان الرابع بالسكان. طوال الطريق، نمر بيالوا، المدينة الزراعية الممتدة، نشاهد حقول الزيتون والكيوي والعنب والتين والفواكه الأخرى، ونفتتن بجمالها الساحر وهندسة حقولها، نلتقط الصور من خلف زجاج حافلتنا، ونشاهد تجمعات صناعية ومياه وغابات عديدة، ونعبر من نفق يخترق الأرض بنحو 5 كيلو مترات، قاصدين بورصة.
نقرأ حول المدينة، ونلتقط معلومات من مرشدنا وهو يحدثنا عن أفضل المدن التركية الصناعية، التي تتوسط العاصمة أنقرة، وإسطنبول.
نسمع من المرشد عن المدينة المفتونة بالأبيض والأخضر، والتي دشنت ملعباً ضخمًا لكرة القدم باللونين ذاتهما: "أطلق على المدينة زمن العثمانيين (خداوندكار)، وكانت عاصمة لولاية عثمانية، ويطلق عليها (بورصة الخضراء) بسبب طبيعتها وغاباتها المتنوّعة، وحدائقها، ومنتجعات التزلج، وهي منطقة تاريخية وأثرية، فيها بنايات من العهد العثماني، وأضرحة السلاطين، وذات اقتصاد زراعي قوي، وتحتل المكان الأول في صناعة الحرير، وزراعة شجر التوت، والسيارات، والنسيج، والألبان، والعسل.

النوارس في بحر مرمرة
عربات وشجرة
نتسلق عربات (التلفريك)، ونعلو المدينة وغابات الصنوبر، وينابيع الماء، ونقترب من جبل أولدغ، الذي يحتضن مسابقات التزلج. وفي الأعلى منتزهات عامة، وينشط باعة الفواكه والخضار، فيما تروج مهنة تأجير مركبات الدفع الرباعي لاكتشاف المناطق الوعرة، ولا يخلو المشهد من الأزهار البرية والمزروعة.
نستظل بالشجرة التاريخية بداية جبل أولوداغ ( يعلو البحر بـ 2543 متراً)، وهي شجرة دُلب ضخمة عمرها 610 سنوات، وطولها 37 متراً، وقطر جذرها 10 أمتار، وتحتاج لأثني عشر إنسانا للإحاطة بها، وتعد إحدى رموز المدينة، وأسفلها حركة سياحة نشطة: مطاعم، ومتاجر لبيع الخضروات والفواكه، والملابس، والتحف، والعسل.

تربية النحل في محيط اسطنبول
نهبط من الجبال، ونتجول في المسجد الأخضر، وفيه كتابات مزخرفة بالخط العربي الرائع، وفيه جهد مُرّكز على حرفين (الألف) و(الواو)، ولا نصل سواحل مودانيا، المدينة الصغيرة، الشهيرة بمطاعم السمك الطازج، والمقاهي المختلفة. نخسر فرصة التجول في "التشربارك" الحديقة الثقافية، التي تضم مساحات خضراء لتناول الشاي، وألعاب أطفال، وأحواض مياه، ومقاهٍ، وقوارب تجديف. يسرد دليلنا السياحي: "هذه المدينة الموطن الأم لمؤسسي الدولة العثمانية، وينابيع وسط غابة أويلات العلاجية، تعود شهرتها لقصة أميرة بيزنطية كانت تعاني المرض الشديد، وحين أحضروها إلى أويلات شفيت".

جمع العبوات الزجاجية في اسطنبول وإعادتها إلى المصانع
نغادر بورصة بعد جولة قصيرة في مناحلها، ونحظى بارتشاف عسل الصنوبر، والورد، والتفاح، ونودع إسطنبول، فيما نشتعل حسرة على فقر بلادنا البيئي: فلا ماء كافية، والتصحر يسبح إلينا، والانتهاكات والاعتداءات على تنوعنا الحيوي حدث ولا حرج!
 |
جولة سياحية اسطنبولية |
 |
مدينة اسطنبول |
aabdkh@yahoo.com