خاص بآفاق البيئة والتنمية
حوّل عوني ظاهر بيته المُقام في أطراف بلدة ياصيد القريبة من نابلس إلى مخزن لمتحفٍ يجمع سيرة فلسطين في قرن. وصار التربوي المتقاعد، الذي تجاوز الخمسين سنة بقليل يتباهى بأرشيفه الممتد.
يقول ظاهر المبتسم دائمًا حتى في المواقف الصعبة، وهو يجلس فوق صندوق خشبي صنعه بيديه يحوي كنوزًا أثرية: "إن أردت أن تعود إلى الوراء مئة عام، فلك ذلك، وكله موجود بين دفتي هذه الخزنة".
ويوثق المربى والتربوي المتقاعد: "جمعت كل أشكال الحياة الاجتماعية والتربوية والأزياء والحرف والزراعة والإعلام والموسيقى وغيرها. وتضم جدران منزلي أدوات وتحف ومقتنيات انقرضت، وأزياء صارت من الماضي الجميل، وكأن معداتي ووثائقي القديمة تتصارع فيما بينها لتكون هي الواجهة، وتقدم نفسها للضيوف أولاً".
يُقدم سيرة انحيازه للتراث والوثائق والأدوات العتيقة، فيقول: "اشتهرت والدتي فاطمة- رحمها الله- في شبابها بكل ما له علاقة بالقش وصناعته، وكانت تتباهي بين بنات جيلها بـ "القبعة" و"القرطلة" و"الجونة" وغيرها، وهي أسماء يجهلها غالبية شباب اليوم. أما أنا فكنت أراقبها عن قرب، وأشاهد كيف تستعمل الأدوات المختلفة في المطبخ والعمل وأشعر بالسعادة. وبدأت في سن مبكر أيام الشباب، عام 1980، بجمع الكتب وقصاصات الصحف والمجلات والوثائق القديمة، وكلّما كنت أشاهد أشياء تراثية أشتريها مما أملكه من نقود، وآثرت المتحف على اقتناء سيارة وجرار زراعي، فبعتهما لصالح الأدوات القديمة".
عوني ظاهر إلى جانب مقتنياته التراثية
عرض حي
غيّر ظاهر معالم منزله، وصار بيته يضيق على ما فيه فشرفة المنزل مثلًا، مزينة بعشرات الثياب الفلسطينية التقليدية، أما المدخل الخلفي فكله أدوات زراعية عديدة وقديمة، ومقاعد دراسية خشبية قديمة، وأدوات للحلاقين والفلاحين والتجار والنجارين والباعة المتجولين ومربي الماشية والخيول والمعلمين والصحافيين وعامة الناس، وكل ما يحتاج إلى حيز كبير. وتعج الغرف الداخلية بكتب ووثائق تربوية نادرة، وفاضت على ما فيها من أدوات الفخار والقش والقصب والزجاج والنحاس والحديد، ولا تستطيع الساحات الخارجية للبيت، أو محيط الحديقة من استيعاب الفائض من مقتنيات كبيرة الحجم.
يقصّ: "لدي 2000 كتاب قديم في مواضيع مختلفة، ومجلات نادرة، وقصص أطفال قديمة، وكتب (راس روس) الأصلية لخليل السكاكيني، وجمعت منذ أكثر من ربع قرن قصاصات من صحيفة القدس ومجلة البيادر السياسي، وأول وثيقة احتفظت بها عقد زواج جدي ( العرميط) وجدتي (سعاد) عام 1905، وكان مهرها 50 غرشًا تركياً ( وليس قرشًا)، ثم أضفت عقود زواج والدي، وأخوتي، وأولادي، وخصصت مكاناً شاغراً لعقود أحفادي".
عوني ظاهر وكنوزه التراثية
أجيال
يقف ظاهر بزي تقليدي لا يفارقه على مقربة من صناديق خشبية صنعها للتخلص من عدم استيعاب منزله، وبانتظار أن يستطيع توفير مكان واسع لعرض مقتنياته التي تُوثق أزمنة: الدولة العثمانية، والاحتلال البريطاني، والعهد الأردني، والاحتلال الإسرائيلي، والسلطة الوطنية.
يواصل: "من يدخل بيتي يستطيع أن يعود برجليه مئة عام إلى الوراء، فيلمس أدوات صارت في رحمة الماضي كالبريموس الأخرس، ولوكس الكاز، وطواحين القهوة القديمة، والمكوى الذي يعمل بالحطب، وساعات عمرها أكثر من نصف قرن، ودربكة (أداة موسيقية) مصنوعة من نبات القرع ونحاسيات وفخاريات عديدة، ومدق حجري لصناعة الزيتون وسكاكين نادرة، وأدوات زراعية لا يعرفها أبناء اليوم، وأزياء عديدة. ولم أجمع إلا ما كان يستطيع غالبية الناس تداوله، وأعجز عن شراء مقتنيات العائلات الإقطاعية والطبقات البرجوازية".
ومما يستضيفه بيت المربي الذي عمل في سلك التعليم 30 عاماً، أدوات كاملة بوسعها بناء ديكور لفيلم فلسطيني يوثق الحياة قبل قرن بكل التفاصيل والملابس والأدوات للمنزل والمطبخ والحرفيين والمدارس.
عوني ظاهر
ألوان
يفيد: "لدي عشرات الآلاف من بعض القطع الصغيرة كأزرار الملابس، والمئات من الأدوات الخشبية والزجاجية والنحاسية، العشرات من الثياب المطرزة للرجال والنساء، وعندي سرّطلية ( لباس أبيض مخطط بالأسود) وهي قطعة نادرة وعزيزة على قلبي، ونقود قديمة، ومتحفي هو كل ثروتي التي أعتز بها".
عرف قلب ظاهر هوى الأرشيف الإعلامي والتربوي، ويضم في تفاصيله مذياع خشبي يعمل بالمصابيح القديمة، وأسطوانات موسيقية نادرة مع آلات عرضها، وأجهزة تصوير فوتوغرافية قديمة، ووسائل تعليمية تجاوزها الزمن، ووثائق تربوية منذ عقود، وقصص، وكتب، منشورات سياحية، وحكايات للشهداء، ورسائل، وشهادات مدرسية عتيقة، وعجائب وغرائب عديدة، ونقود معدنية، وقلائد زينة للنساء، وإكسسوارات، والكثير الكثير مما يخطر في البال.
مقتنيات تراثية جمعها عوني ظاهر
عجائب وغرائب
تسكن في بيت ظاهر أو أبو العارف كما يعرفه الناس، مئات الوثائق غير المألوفة، وتبوح بتقارير كتبها مشرفون تربويون عام 1944، عن زيارة لمدرسة في قرية باقة الشرقية قضاء طولكرم يصف فيها معدو التقرير البلدة وجغرافيتها( بخطوط العرض والطول) وتاريخها وآثارها ومساحتها وسكانها، ثم يأتون على ذكر ترتيب طلبة الصف، وقدرات واحد منهم في القراءة والكتابة. يقول: كان المشرفون قديما يقيمون الطلبة أما اليوم فالمعلم هو الذي يجري اختباره، وعادة يضع المشرفون ملاحظات شكلية لا علاقة لها بالمعلم.
ومما تُقدمه الوثائق، كتاب من مدير اشتكى للحكومة استخدام الهاتف من معلم لغرض شخصي، وطلب أحد المربين رخصة حيازة سلاح خشية على نفس من ثأر لعائلة أخرى، وعريضة تطالب بعدم نقل معلم لقدراته. أما الطلب الغريب، فيسجل أحد المعلمين من قرى جنين احتجاجًا لوزارة المعارف على عدم شمله بتوزيع قماش (الفانيلا)، فيلتمس طالباً حقه منها أسوة بمدرسي المدينة.
انحاز ظاهر لتعلّم الكيمياء في الجامعة الأردنية، لكنه لم يعمل بها أو يعلّمها في حياته، وهو اليوم أب لستة أبناء وبنت واحدة وثلاثة أحفاد، وأنفق منذ عام 1980 وحتى اليوم ما يعادل نصف راتبه ( نحو 50 ألف دولار) في شراء مقتنيات قديمة، ونقلها، وتبديل بعضها، وصيانة البعض الآخر، وملاحقة الجديد الذي يفتش عنه.
منزل عوني ظاهر التراثي
احتجاج وبيئة
يتابع: "صنعت تابوتًا خشبياً بطول ثلاثة أمتار، ووضعته في صالة منزلي، وأدفن فيه وثائقي القديمة والنادرة، التي لا أجد مكانًا لعرضها بشكل يليق بها ويصونها من التلف، وحاولت توجيه رسالة احتجاج للجهات المسؤولة على غياب الاهتمام بتراثنا، فلو كنت في مكان ثانٍ بالدنيا، لشجعتني الحكومات، ولطرقت بابي، لأن من لا يحافظ على ماضيه الجميل سيخسر غده".
يكمل: "اهتم في توثيق كل شيء حولي، وأرتب وأدرس كل ما يتعلق بمقتنياتي، وأتعلم منها الكثير من مهارات الأجداد وممارساتهم الصحية والبيئية، وأنقل ذلك للناس، فقد كان الجيل القديم يستعمل الفخار والزجاج والورق، ولم يعرف البلاستيك، وكانت الأمهات يصنعن كل شيء في المنزل، ليس الخبز والطعام والحلوى ومونة الشتاء فحسب، وإنما ألعاب الأطفال والتحف وغيرها، وكانت الأمهات والجدات يبدلن العبوات الفارغة للبن من الفخار والزجاج، ويضعن الزيت في بطاط وجرار من الفخار، وحرصن على عدم استعمال الأكياس البلاستيكية، واستخدمن بقايا القمح، وأغصان الزيتون الغضة في صنع الفشيات".
ينهي:" تغيّر زماننا، ونسينا تراثنا، وبعضنا للأسف لا يعرف شيئًا عن بيئته ونباتاتها وأشجارها وآثارها، ونسينا إبداعات الأجداد وطريقة حياتهم الطبيعية والصحية، وتحولنا إلى الوجبات السريعة، والأصباغ والألوان، وكل ما هو غير صحي."
aabdkh@yahoo.com