لعل من يمن الطالع أن تتاح لي الفرصة أخيرا الاطلاع على منجزات هذا الرائد والمفكر والمربي بكاملها تقريبا، قمت بمراجعتها وتدقيقها وتمحيصها، فوجدتها قد تراوحت بين الأحاديث الصحفية والدراسات الاجتماعية والمقالات والخواطر الأدبية، ومما لفت انتباهي أن هذه الشخصية المتعددة المواهب قد أحسنت صنعا فيما قدمته من دراسات تراثية شملت الغناء والأمثال والأقوال والحكايات الشعبية إلى جانب اهتمامها بالمأثورات الشعبية الأخرى كالدبكة والسامر وما يصاحبها من آلات وأدوات كالمزمار البلدي( اليرغول) والشبابة والناي والموسيقى الشعبية بمختلف آلاتها وأدواتها، والزي الشعبي الرجالي والنسائي إلى غير ذلك من الفنون الشعبية الريفية خاصة، والعربية عامة. وإيفاءً لحق هذا الرائد وتخليداً لذكراه وإبراز العناية بتجربته الاجتماعية والتربوية في بلده ووطنه، خاصة أنه من الرواد الأوائل الذين اعتنوا بالتراث فيما كتب في مؤلفاته ومقالاته وخواطره، لذلك جاءت هذه الدراسة المتواضعة للعناية بتراثنا الوطني، وبفكر وتجارب أحد الرواد الممتازين فيه.
· وعليه فقد جاء في كتابه ( خطرات ريفية ) الذي صدر في القدس عام 1945 حديثه (عن الهوية )، في عرف القروي فقال: هي الاستيطان واثبات الوجود على سطح الأرض ضمن نطاق معين محدود، وإثباتها عنده يحمل معنى إثبات شخصه لا صورته، على بقعة أرض معينة لا قطعة كرتون، ويكون التعريف بشخصه وأرضه بقيمة ما يحدثه من أثر في تلك البقعة التي تحتضنه، ومن هنا جاز القول:( من لا أرض له لا هوية له) . (ص 10)
· وجاء في مقالة له بعنوان" أدب الفتوة في أغانينا الشعبية " قوله: " إني من عشاق الغناء الشعبي، لأنه في نظري هو الأدب الصادق وما عداه فهو لغو، لأن الأغاني الشعبية تتميز بالنزعة القوية التي تجمع بين الحب والنخوة، وهما أهم عناصر الفتوة، زينة العمر شبابه، وزينة الشباب فتوته". اسمع الراعي يقول: وقد اعتلى ظهر الجبل معتزا بفتوته:
( يما مويل.......الهوى يما......مويليا )
( ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا )
فهو يوحي بعزة النفس، وما أروع عزة النفس من وحي الهوى، وأسمعه مرة أخرى يقول:
( لاطلع ع راس الجبل واشرف على الوادي)
(وأقول يا مرحبا نسم هوا بلادي)
حنين صادق يدل على الوفاء والأريحية، هكذا تعكس الأغاني الشعبية ألوانا من المشاعر النبيلة . (خطرات ريفية ص 21-24)
ومن روائع الأمثال التي أثبتها في كتابه المذكور وقد تجاوزت الثلاثين، نختار منها:
امش على الحق يحتار عدوك فيك، الحق وصاحبه اثنين، دار الظالمين خراب، من عدم عدوه عدم صاحبه، حاميها حراميها،
(حسبت سياج الدار يحمي من العدا وما أسياج الدار إلا صحابها)
( المصدر نفسه، ص 35-37 )
أمثال شعبية تحمل مضامين جاءت من صميم حياة الانسان بإيجاز ووضوح وقرب تناول.
ويورد في خاطرته " من وحي شباط" الحكاية المشهورة التي تنسج حولها الخرافات من أن بدوية استقلت مطر شباط في إحدى السنوات فقالت: " مر شباط الخباط ما بل نعجة ولا شعواط" فسمعها شباط وكان في الخامسة والعشرين من عمره، ولحظ قصر المدة الباقية له، فالتجأ لأخيه آذار، فاستقرض منه أربعة أيام أضافها الى الثلاثة الباقية من عمره، فصب فيها كل ما قدر عليه من مطر وبرد وثلج، فأروى الأرض، وطفحت السيول حتى جرفت ما عند البدوية من حلال، وراحت هذه الأيام في الفصول السنوية تدعى: (بالمستقرضات)، آيها الشهر: لقد صدق من سماك" شباط الخباط اللي ما عليه رباط".
وفي كتاب شخصيات يتحدث عن أسبوع " المستقرضات" أيضا. ( المصدر نفسه، ص 41-43 )
· كما جاء في مقالة له بعنوان" مقابلات ومقارنات بين الشعر البدوي والشعر الفصيح" ما قاله أحمد شوقي على لسان قيس بن الملوح في رواية مجنون ليلى يصف ذهول المجنون من أثر الحمى الغزلية:
إذا الناس شطر البيت ولوا وجوههم تلمست ركني بيتها في صلاتيا
ويضم من بيت المجنون الأصلي:
أصلي فما أدري إذا ما ذكرتها اثنتين صليت الضحى أم ثمانيا
· ويقول نمر العدوان أمير الشعر البدوي واصفا ذهوله على فقد وضحاء زوجته مخاطبا قريبه حمود:
( فرشت أنا يا حمود على الشرق صليت مدري على القبلة ولا شمالي )
( مدري أنا تيممت ولا توظيت ولا قريت الحمد ولا بدالي )
يقول حسن: يتهيأ لي أن الذي لا يميز بين الوضوء والتيمم أغرق ذهولا ممن" يخربط" في القراءة وعدد الركعات، كان الله بالعون. (خطرات ريفية، ص 48-50)
· وفي مقالة له بعنوان " يوم الحصاد" يقول على لسان غلام يردد بأعلى صوته وقد أخذت الحماسة منه كل مأخذ، وطفح على وجهه البشر والعرق معاً:
(أنا خيال المنجل والمنجل خيال الزرع )
فيتبعه إخوانه حصدا وإنشادا:
(منجلي يابو الخراخش منجلي في الزرع طافش)
ما أحلى النشيد مع العمل في موسم الحصاد! وهم يجنون فيه ما بذروه، وهو موسم عاطفي فيه الفرصة للتنفيس بتلميح غزلي محتشم (سبل الحصايد ذهب وململم الزينات) . . . أما الرجال فقد بدا في طليعتهم رجل بين الشباب والكهولة ينشد:
(هذي بلدنا أو بنفلح فراضيها وان عجعج الكحل بالبارود نحميها)
وهكذا يتحول الحقل الهادئ إلى نشاط وحركة بعد أن دبت فيه الحياة، وهم جميعا يرددون دعاءهم الدائم: " يا رب تطعمنا وتطعم منا".
اسمع إلى هذا الشاب يقول:
(يا بنت ردي غنمك عن اشكارتنا مدري رماك الهوى ولا محبتنا)
واسمع إلى كهل يسير بين الزرع متثاقلا يرد على الشباب بقوله:
( يا ما طردنا الهوى واحنا اصباوية واليوم عقال مافينا فلاتيه)
فيتصدى له شاب يرد عليه:
(يا ناس طرد الهوى بده فضاوة بال وانتو طردتو الهوى عالفارغ البطال)
(المصدر نفسه، ص 76- 89)
وجاء في كتابه: ( شخصيات) الذي صدر في القدس عام 1948 مقالة بعنوان( الحراث) ذلك الشخص الذي يشق بمحراثه خطوطا على سطح الأرض، لا يعرف التقويم الذي يعرفه الناس، بل مقاييسه مع الطبيعة يعبر عنها: ( بالوسم البدري) و( الوسم الوخري)، ويتعامل مع دوابه برفق فلا يضربها ( ولو أحرنت) وإنما يمسها بعصا طويلة حمل اسمها مدلول معناها المنساس أو( المساس)، وألطف من هذا وذاك قوله بعد قيامه ببذر الحب: " يا ربي أنا أرميه، وأنت بالغيث ترويه " وهو يرفع بيديه إلى السماء لا مستجديا بل شاكرا قائلا:رباه عرق الخجل مرارة، وعرق العمل حلاوة.
(ارث الأستاذ حسن مصطفى،"مخطوط "، ص 62-64 )
· ونسي الأستاذ حسن أو تناسى دعاء الفلاح وهو يبذر الحب قائلا: " يا رب تطعمنا وتطعم منا، تطعم الدود في الحجر" الصخر" الجلمود، وتطعم الطير في ظلام الليل، وتطعم الحيوان في عتمة كانون ثان".
· ومن مقالاته وخواطره وأحاديثه الصحفية الكثيرة مقالة بعنوان " من روح الغناء الشعبي الفلسطيني" جاء فيها قوله: " أنه ممن يعتزون الاعتزاز كله بالغناء الشعبي الفلسطيني، لأن الإنسان الفلسطيني يصبو في أهازيجه إلى الفتوة أو النخوة أو الشهامة أو سمها ما شئت مستعينا في ذلك بنفس بدوي رشيق، وصلابة جبلية متينة، ولا عجب فالفلسطيني العربي جذوره في البادية، وفروعه تطاول قمم الجبال، مربوط بأصله البدوي ومعتز بفرعه الجبلي، أسمعه يهزج بمجزوء الرجز .
( الزاد يحرم والأكل لو طاحت الخيل السهل )
( يا مير لو قرب الأجل من هو للروح يردها؟ )
ثم أسمع الأهزوجة التالية:
( يا راكبا هجن عسوف كره على البيدا وشوف)
( لعين مخضبة الكفوف الخيل علينا ردها )
والغناء جمعي في الغالب وقد يصيح أحدهم بأعلى صوته ( شوباش) قائلا:
( لا تحسبونا خواجات ولا نبيع العطارة )
( حنا حماة المتاريس لو صار عالدار غارة )
فيهب الناس من خلفه هبة رجل واحد ملبين هتافه بمختلف الاستحسانات.
(مجلة القافلة، العدد 1، ص 6، 1947)
· وجاء في مقالة أخرى بعنوان( من روائع الصور الشعرية في الشعر العامي) قوله: يعجبني النفس الشعبي بنثره وشعره، لأن معظم ما يصدر عنه هو من وحي الطبع، وأية قيمة للقول والعمل إن لم يكونا من وحي الطبع؟
اسمع الفلسطيني يقول:
( يا قلب لني بطولك لقطعك وأرميك وأعلقك بالهوا وأعمل خلاصي فيك )
صورة لطيفة لرجل أتعبه قلبه، فراح يهدده بهذا المحاولة التأديبية، لو كان باستطاعته أن ينزع قلبه من جوفه ليحاسبه.
وتبدو في الغناء الشعبي الفلسطيني صورة قدمت لمقاضاة وقعت بين القلب والعين فهي تذكر بالمحاكمات اللطيفة بينهما التي أثارها جميل بثينة في شعره.
أسمع الفلسطيني يقول:
( القلب والعين راحوا تشاركوا الاثنين الحق في القلب لكن الأسى من العين )
محاكمة قصيرة مختصرة حار فيها حامل الهوى بين عينه وقلبه، فالحق على القلب لأنه صبا، والأسى من العين لأنها نظرت، وهو في مثل هذه الحالة سيبقى كما قال الشاعر الفصيح:
فإن لمت قلبي قلت عينك أبصرت وان لمت عيني قلت الذنب للقلب
فعيني وقلبي قد تشاركن في دمي فيا رب كن على العين والقلب
والشعر العامي يزخر بالأوصاف والصور الجميلة في وصف المحب لمن يهواه مستعينا بالتشابيه والمبالغات، لتدل على قوة شعوره فيقول:
( ملفوف في ملايته لف القمر في الغيم ملفوف في ملايته أسمر كحيل العين )
فمهما حجبت الغيوم البدر المنير لا تخفي عن العين جمال ضيائه، بل ما أعظم ما أكسب الغيوم التي التف بها جمالا!!
ويتسامى العامي بمحبوبته حين يقول:
( الزين مثل البلح روس الجريد مرباه من عاشره يوم طول العمر يهواه )
رعاه الله،، وضع الزين في أعالي الباسقات، ويا طول ما يحلق، وجمال البلح يزينه تعذر اليد من أن تنشه، وهنيئا لمن كان كالبلح روس الجريد مرباه.
(ارث الأستاذ حسن مصطفى،"مخطوط "، ص 66-67)
· وفي مقاله أخرى بعنوان " من الألم العبقري في الشعر البدوي" يقول أنبغ ما في البداوة الألم، فالبداوة قحط في المادة، خصب في الروح، قله في المعدة، وفرة في الإحساس، ويتخذ من نمر العدوان مثالا للألم العبقري في الشعر البدوي حين يصدمه القدر بفقد زوجته وضحاء فيهز شاعريته، ويقضي بعدها بقية عمره واجدا في الشعر صحوة من هول الصدمة، أسمعه يقول:
( مديت يدي للربابة أو ونيت ونة حزين شارد الذهن ملهوف)
أتدري ما هو ألون؟ ألون أنين الرجولة بلا لفظ واضح، لئلا يفضح صاحبه فيصير إلى الولولة والعويل أقرب، ولكن لا بد من الانفجار فاسمعه يخاطب ابنه عقاب:
(أنا لو دنو الحساد يا عقاب مني لخفي ونيني في ونين الذباب)
(وان غابت الحساد يا عقاب عني لحن تالي الليل حن الرباب)
(على الصاحب اللي فات يا عقاب مني من بعده يا لوعتي يا عذابي)
أية رباب سارت أنامله عليها فوننت مع ونينه، وون معك، فبدوت للعوام رنينا، وللخواص أنينا.
ولا يجد الشاعر له منفذا عندما يصف ما يحس به إلا في المغالاة، فانظر إلى الشاعر العامي المصري وهو يصور قصر ليلة الوصل حين يقول:
( وليلة الوصل تطلع شمسها المغرب) (مجلة القافلة، العدد25، ص5 )
ليلة خاطفة ما تكاد تغيب الشمس عند المساء حتى تطلع فيخالها طلعت المغرب.
· فصاحبنا معجب بالأدب الشعبي العربي عامة، والشعر منه خاصة، فهذه مقالة له بعنوان" من روح الغناء العراقي الشعبي" فهو مولع به، لأنه ذهب إلى العراق وعلم في دار المعلمين في بغداد واحتك بالشعب العراقي، وأعجب بالغناء العراقي الشعبي، لأنه يمتاز_ في نظره _ بصدق العاطفة، إلا أنه يفوق غيره بلجام الحشمة، أسمع العراقي يقول:
( حين تراني الناس وألبي بي ثوب الصبر يا ناس ساتر علي)
هكذا تكون الحشمة، وهكذا يكون الصبر فكلاهما يستران الحال.
وأسمعه مرة أخرى يقول:
( يا عين زيدي أبكاك سابك وليفك وبحجة الدخان وابكي عكيفك)
عاطفة تتأجج، ودمع ينهمل، ولكن الرجولة تأبى أن تفضح نفسها وتتذرع بحجة الدخان لتنسب إليه الدمع، والله يعلم أن الدمع مصدره نار القلب، لا دخان الموقد، أنا أقول لا دخان لفافة التبغ الذي يحمل الرائحة الكريهة والنفور من المحب، فقد سمعت أحدهم يقول: مقسما ( والله لو كنت فتاة ما تزوجت مدخنا) ولكن هذه العاطفة يفلت لجامها أحيانا فتبدو في أعنف حالاتها حين يقول:
(جيت ولقيت الدار خالية من الأحباب هملن دموع العين يم عتبة الباب)
أو حين يقول:
(ساعة مشوف أهواي مقبل علي حبلي يقع بالقاع وتموت أيديه)
صور لعاطفة صادقة، تنطلق من قلب ملوع بالحب وقد أضناه وأصابه في الصميم.
(مجلة القافلة، العدد 1، ص5، ص8، 13/6/1947)
· وفي مقاله أخرى له بعنوان" من روح الغناء الشعبي الأردني" زينها بهذه المقارنة الجميلة حيث يقول: كلما ذكر الفرات والأردن حالت في مخيلتي صورة لطيفة لإطار بدوي جميل يزين طرفي الهلال الخصيب، إذ أن غربي الفرات وشرقي الأردن يمثلان اتصال البادية بالنهرين اللذين يحدان ذلك الهلال، والقاطنون في المنطقتين يمثلون بداوة أصيلة جذورها في الجزيرة وفروعها تتناوش الهلال، يتجلى ذلك في الانسجام التام والتشابه الكامل في مختلف مظاهر الحياة بين سكان هاتين المنطقتين وأهل الجزيرة، دعوة إلى الوحدة العربية بطريقة غير مباشرة تتمثل في تطابق الأفكار والعواطف، والخيال وأسلوب الحياة، وحدة غنائية تامة في تلك البقاع، فالغناء الشعبي في شرقي الأردن يجمل في لون واحد هو" الهجيني" من "الهجين" وهو الهجيني" بعينه في نجد، وبعينه أيضا غربي الفرات، وان أطلق عليه هناك ( الركباني) من الركب.
أسمع الأردني يقول مخاطبا محبوبته:
(يا شوق حنا تفارقنا مع السلامة والوداع)
(يا رب تكبر وتلحقنا من فوق مدموجة الباع)
وهل البادية غير: الشوق ومدموجة الباع ( الناقة) ؟!
وعندما يشتد الشوق بصاحبه، ويخرج به عن حد صبره، لا يجد البدوي في الناقة تلك الوسيلة التي تحد من جزعه لتوصله إلى مكان هواه، فيتمنى وسيلة أسرع، أسمعه يقول:
(يا علني طير وأحوم وأشرف على ذيل القرية)
(وأيقظ وليفي من النوم وأحبه حبه شفاوية)
وليف أي وليف ؟ يعطيك البدوي صورة عنه وهو يترنم في هذه المقطوعة الهجينية:
(يا بو شعور حرير سود والوجه ظي القناديل)
(يا بو ثنايا تقول برود من مزنة هللت سيل)
وصف طالما الفناه في الشعر الشعبي، والشعر العربي الفصيح حيث يجتمع ليظهر حسن كل منهما. وهكذا نجد البادية: شوق ونوق وحداء وهجيني...
(كتاب ارث الأستاذ حسن مصطفى،" مخطوط "، ص 145-174)
ونجد الأستاذ حسن مولع بل مغرم بالحديث في خواطره الصحفية عن المصطلحات والمفاهيم العامية باللغة المحكية، أسمعه وهو يتحدث عن خاطرة له بعنوان( النفيلة...) يقول: يعجبني في مصطلحات هذا البلد الطيب كلمة" نفيلة" وهي تطربني قولا وفعلا، لأنها المقياس الرئيسي الذي يزن به أهل هذا البلد قيم الرجال والأعمال.
إن ذموا شخصا قالوا: " ما فيه نفيلة" وان زادوا في الذم قالوا: (عمره ما سوا نفيلة) وان غالوا في الذم قالوا: ( ما منه ولا نفيلة). وهكذا في المديح أيضا فان مدحوا شخصا قالوا: (صاحب نفيلة)، وان زادوا في المديح قالوا: ( أبو النفايل). فما هي النفيلة؟ وما عساها أن تكون؟ تقول قواميس اللغة: ( نفل) فعلا، أعطاه نافلة من المعروف، ومما لا يريد ثوابه منه. والنافلة: (ما تفعله مما لم يفرض عليك، ولم يجب عليك فعله..)، أما في عرف هذا البلد (فالنفيلة) تمثل جماع الخير والفضيلة.
(جريدة فلسطين، 5/1/1960).
· كما كان مغرما ومعجبا ببعض الأقوال الشعبية فيلبسها ثوبا غير ثوبها المباشر في معناها معلقا عليها، أستمع إليه في خاطرته( ملح الرجال) يقول: قديما قال الواقعيون: ( الكذب ملح الرجال) وأغلب الظن أن المقصود هو نسبة استعمال الملح لا طعمه، يؤكد لنا ذلك الخبراء في عجن الأمور وتقليبها وخبزها وقلعها، ويضيف، واتخذ رجال الأعمال من هذا المثل شعارا، بل ترنيمة وخاصة رجال السياسة منهم، فهم يجيزون الكذب لضرورة فنية، كأن يحسنوا به طعم الصدق بنسبة ملح الطعام، أو يستعملوا الكذب ملينا كأملاح الفواكه، والى ما هناك من كذب ومسميات...
(جريدة فلسطين،6/3/1960)
وأنظر إليه معجبا بالطبيعة والتقاويم الشعبية وما قيل فيها من أقوال في هذه الخاطرة بعنوان: (آذار الهدار)، قال الخبراء عن هذا الشهر أنه آذار الهدار، (ساعة شمس وساعة أمطار) وقال العلماء: (أن الأمزجة تتأثر بالطقس والتقلبات الجوية) . ويضيف: فان كان آذار في طقسه هدارا، فمزاجنا هدار معه( ساعة صفا وساعة عكار)، وتعقد الآمال في آذار_ وان سطعت شمسه _ على الأمطار، لنتجنب ويلات الجفاف، كما ونعقد الآمال في آذار على الصفاء وان تعكرت بعض ساعاته. (جريدة فلسطين،16/3/1960)
· واهتم أيضا بالمصطلحات المعربة في الأغاني المستحدثة للمطربين المعاصرين، فقد جاء في خاطرة له بعنوان( أغانينا) " فنرتكي" على القلم، ونبدي إعجابنا (بالمرتكي) على السيف و ( الناعورة)، وربع الكفافي الحمر) (وأهزوجة الفخر)، (وأهزوجة النصر) والى ما هناك من الأغاني والأهازيج الشعبية التي أخذت إذاعتنا في الآونة الخيرة ترعاها فتحييها، وتنميها وتطورها، ومما يميز أغانينا الشعبية تلك النزعة القوية، التي تجمع بين الحب والنخوة، وهما أهم عناصر الفتوه زينة العمر شبابه، وزينة الشباب فتوته، ويضيف متهكما، وحرام أن تخضع هذه الفتوة بكليتها إلى عبد الحليم حافظ، وشادية وباقي المراهقين والمراهقات!
· والناس عندما يتذوقون الأدب الشعبي( الفولكلور) والغناء الشعبي( الفوكسنج)، والرقص الشعبي( الفولكدانس) والمعاهد الشعبية( الوكسكول) إنما يتذوقون أنفسهم وبيئتهم.
وإذ اعتدنا في نهجنا هذا تعين علينا إبراز " الذاتية" لأدبنا الشعبي، وأغانينا الشعبية، وتلك أسمى رسالة الإذاعات. (جريدة فلسطين،31/1/1960)
· ومما جاء في خاطرة له بعنوان( الأسمنت دكتاتور هذين الأسبوعين) قوله: رحم الله أيام الشيد، الشيد الأبيض الذي تمازج مع الحجر عاد صخرا، وكفى الشيد فخرا أن الشوامخ من الأبنية شيدت به، أسوار وأبراج، وقلاع وحصون و قناطر وأقنية، ومعاهد ومعابد، قرى وحواضر، كلها شيدت بالشيد ولم ( تسمنت) (بدكتاتور) هذين الأسبوعين الذي أطل وجهه الأغبر ونابه الأزرق، إلى أن يقول: أيها الناس حرام أن نهمل الشيد ذا الوجه الأبيض، فهذه الثروة الصخرية إلى الثروة الكلسية، وكأني( باللتون) يقول: (ما بتعرف خيري حتى تجرب غيري) (جريدة فلسطين،20/10/1959).
هذا غيض من فيض عطاء هذا الأديب في مجال المأثورات الشعبية المادية والمعنوية، اقتطفت ما اخترت منها في هذه العجالة لأبين دوره ومساهمته في هذا الميدان البكر في عهده، حيث أنه من الأوائل الذين اهتموا (بالفولكلور) في فلسطين ومن يطالع ما كتب يجد أن معظمها معالجات اجتماعية وسياسية واقتصادية وتربوية لهذه الجوانب الحياتية المختلفة، وكان قد كرس قلمه ناقدا ومعالجا بفكر ثاقب، وعقل راجح، وأسلوب واضح، وتهكم ساخر، رحمك الله يا أبا مازن فقد كنت فيلسوف الريف والحضر، ورائدا من رواد نهضة هذا الشعب العريق .
ولو أطال الله في عمره لكان له ما كان .....
ولله در الشاعر حين قال:-
يا موت مالك تصطفي الأخيارا فأخذتهم وتركتهم أخبارا ؟!
يا موت لم لا تبقهم في ربعهم هل أنت للعلماء تطلب ثارا ؟!
وخلاصة القول في أدبه الشعبي انه:
1. أكثر من الاقتباس والتضمين في نثره، ووظف الكثير من الآيات والأحاديث والأقوال في كتاباته مما يدل على ثقافة وعلم غزير.
2. استخدم المفردات المحكية في مكانها المناسب وعلق عليها، وكان معجبا بالتعابير الشعبية.
3. استخدم بعض المصطلحات المعربة من الانجليزية، كما اشتق مصطلحات من ألفاظ أعجمية.
4. أسلوبه من النوع المسمى (السهل الممتنع) فهو تقريري حينا وتعبيري أحيانا أخرى، وربما جمع بين الأسلوبين الأدبي والعلمي، وما اصطلح على تسميته بالأسلوب (العلمي المتأدب)، فهو يتذوق الأدب ويشرح ويفسر بتعقل.
5. كان اهتمامه منصبا على المعالجات الحياتية الريفية منها خاصة في ما كتب من مقالات وخواطر وأحاديث.
6. كان يجيد الانجليزية والعربية كيف لا؟ وهو الذي تعلم في الجامعة الأمريكية في بيروت والقاهرة مما أكسبه معرفة جيدة.
7. لا يخلو أدبه من سخرية لاذعة متشبها بالجاحظ والمازني في كتابتهما النثرية أحيانا.
المصادر:
1) خطرات ريفية، القدس: المطبعة العصرية، 1945.
2) شخصيات، القدس: المطبعة العصرية، 1948 (مفقود) .
3) مجلة القافلة، أعداد مختلفة، (1947-1948).
4) كتاب ارث الأستاذ حسن مصطفى الثقافي، ( مخطوط تحت الطبع ).
5) جريدة فلسطين، مجموعة مقالات وخواطر نشرت مابين الأعوام 1955- 1960.