خاص بآفاق البيئة والتنمية
لطالما اشتهرت مدينة أريحا بزراعة الموز، واصبح اسم هذه الفاكهة مرتبطا بمدينة القمر، حتى اذا ما اراد البائع اقناعك بشرائها ينادي بأعلى صوته "ريحاوي يا موز". لكن الوضع الآن آخذ بالتغير، وبدأ المزارعون يتجهون نحو محاصيل تحقق لهم ربحا أكثر بمصاريف أقل.
106 مزارعين للموز في مدينة أريحا التي تتميز بحراراتها ورطوبتها العاليتين، وتبلغ المساحة الكلية لهذا المحصول 1170 دونما، في حين أن المساحة المنتجة وصلت الى 774 دونما. ويبلغ معدل انتاج الدونم الواحد 4 أطنان سنويا ليصل بذلك مجموع الانتاج الكلي الى نحو 3000 طن في العام. وهذه كمية لا تغطي حاجة السوق الفلسطينية التي تستورد من اسرائيل لتغطية النقص الذي بدا جليا في شهر نيسان الماضي، حيث وصل سعر كيلو الموز الى أكثر من شيقل.
يسعى المزارعون في أريحا لمواجهة التحديات التي تعترض طريقهم بالتوجه نحو محاصيل اخرى، للتغلب على نقص المياه، وملوحة التربة، وظروف تخزين المنتجات، وفي المقابل تحقيق أرباح معقولة. لذلك، بدا واضحا في الاونة الاخيرة توجه المزارعين في أريحا الى زراعة النخيل بدلا من الموز الذي يحتاج الى 2500 كوب مياه عذبة سنويا للدونم، بينما يحتاج دونم النخيل ل 1200 كوب.
يقول سمير سمارة مدير مديرية الزراعة في أريحا "يحتاج الموز بالأساس، لتربة قليلة الملوحة، ومياه عذبة، وهذان العنصران اصبحا غير متوفرين بالدرجة المطلوبة في أريحا، ناهيك عن أن ربح دونم الموز قد يصل الى 1000 شيقل، في حين أن ربح دونم النخيل قد يصل الى 10 آلاف شيقل". وتابع: "قلة كميات المياه في السنوات الاخيرة بأريحا أدت الى ارتفاع نسبة الملوحة في آلاف الدونمات التي أصبحت غير صالحة اليوم لزراعة الموز. فمثلا، منطقة العوجا كانت مزروعة بحوالي 2000 دونم من الموز، وبعد سيطرة الاحتلال على راس النبعة في المنطقة، وسرقة المياه منها، أصحبت هذه المنطقة غير صالحة لتلك الزراعة".
ومن الأسباب الأخرى التي دفعت المزارعين الى التحول عن زراعة الموز، يقول سمارة " أن هذه الزراعة اصبحت غير مجدية اقتصاديا بالنسبة لهم، فالشجرة بحاجة للتجديد كل خمس سنوات، وهذا أمر مكلف. اما النخيل فتعمر لسبعين عاما، وعمرها الاقتصادي يصل إلى 40 سنة".
وعن دور وزارة الزراعة في انقاذ هذه الزراعة التي اشتهرت بها مدينة القمر منذ القدم. يؤكد مدير زراعة أريحا "أن السلطة لا تجبر أحدا على زراعة أي محصول، المزراع يقرر ما هو الأنسب بالنسبة له، في النهاية هو يريد جني الأرباح، وزراعة الموز اصبحت تحمل مخاطرة كبيرة، واذا اردنا اجبار المزراعين على الموز علينا توفير معدلات ربح معقولة بالنسبة لهم".
سياسة اسرائيلية ممنهجة
يرى مدير وحدة الدراسات والإعلام البيئي في مركز معا جورج كرزم، أن "تراجع هذه الزراعة ليس وليد اللحظة، فمنذ الاحتلال الصهيوني للضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، تحرك الأخير بشكل منظم ومنهجي لتدمير التراث الزراعي الفلسطيني الذي ميز الزراعات الفلسطينية، مثل الحمضيات والحبوب في أريحا والأغوار وقطاع غزة، والموز في أريحا. ومنذ أوائل الثمانينيات، عمل الاحتلال، من خلال ما يسمى"الإدارة المدنية" والشركات التجارية والزراعية الإسرائيلية وبعض وكلائها الفلسطينيين، على اختراع فكرة الصادرات الزراعية الفلسطينية الكمالية وشجع العديد من مزارعينا في الضفة وغزة على توجيه الزراعة الفلسطينية لإنتاج محاصيل تلبي حاجات الاقتصاد الصهيوني سواء للاستهلاك المباشر أو لسد فجوات تصديرية في الاقتصاد الصهيوني. وجاءت هذه السياسة في سياق تعميق دمج الاقتصاد الفلسطيني في الاقتصاد الصهيوني. وللأسف، واصلت السلطة الفلسطينية، منذ تأسيسها عام 1994، نفس السياسة الإسرائيلية التصديرية، وكان المستفيد الأساسي من هذا التوجه ثلة من الوكلاء والسماسرة الكبار".
واضاف كرزم "بالفعل، نجح الاحتلال في "إقناع" بعض المزارعين باقتلاع أشجار الحمضيات والموز من بياراتهم، وزراعتها بالمحاصيل الأحادية التصديرية بدلا من الحمضيات والموز والخضروات، علما أن حمضيات وموز أريحا شكل تقليديا تراثا زراعيا مميزا كان يفتخر به الفلسطينيون. بمعنى آخر، عمل الاحتلال على سحق المنتجات الزراعية الفلسطينية الأساسية من خلال منع حمايتها من المنافسة الإسرائيلية والأجنبية، وتشجيع تحويل المزارعين الفلسطينيين الى الزراعة الكمالية التي لا يستفيد من أرباحها سوى نفر من الملاكين والتجار الكبار".
وبين ان "مشروع الصادرات الأحادية بشكل عام منوط برحمة الإسرائيليين الذين طالما "تعهدوا" منذ أواسط التسعينيات بعدم إغلاق المعابر أمام الصادرات الزراعية الفلسطينية! علما بأنهم سبق وقدموا نفس "التعهدات" مئات المرات. والغريب في الأمر، أن التركيز المبالغ فيه على التوجه التصديري يتم في الوقت الذي يفتقر فيه الفلسطينيون في الضفة والقطاع إلى السيادة السياسية والاقتصادية على الأرض والموارد والأسواق المحلية والحدود والصادرات والواردات وحركة رؤوس الأموال!".
من المسؤول؟
يقول مدير الدراسات والإعلام البيئي في مركز معا جورج كرزم بأن المسؤولية تقع بالدرجة الأولى على الجهات الحكومية وغير الحكومية التي سعت وتسعى إلى تنفيذ مشوه قسري ومصطنع لمفاهيم وسياسات اقتصادية لمؤسسات رأسمالية دولية معادية أصلا للشعوب الفقيرة والمقهورة إجمالا، مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية، تلك المؤسسات التي لا تؤمن سوى باقتصاد "السوق الحر" الذي جعل ويجعل من الحياة الريفية الزراعية التقليدية في الضفة والقطاع أول ضحاياه... وتساءل كرزم: "كيف يمكن لمجتمع يرزح تحت الاحتلال الاستيطاني العسكري منذ عقود طويلة وتتواصل ضده الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة أن يقف فورا ودفعة واحدة في "اقتصاد السوق" ويواجه المنافسات "الحرة" التي لا ترحم؟ فالبطالة في الدول الغربية نفسها تعد من أهم الأعراض "الجانبية" المدمرة لاقتصاد "السوق الحرة"، في حين أن إفرازاتها في دول الجنوب تتجسد في الفقر والمجاعة والحروب القبلية والمحلية".
الاقتصاد المقاوم في مهب الريح
يرى كرزم بأن أكثر ما يُعرّض الإنتاج الزراعي الفلسطيني الحالي للصدمات أنه يفتقر إلى التخطيط في إطار اقتصاد الصمود والمقاومة ومواجهة السياسات الاقتصادية الصهيونية الهادفة إلى تدمير الاقتصاد والسوق الفلسطينيين، ما يجعل هذا الإنتاج غير حصين وحساسا جدا وسريع التأثر بالضغوط الخارجية، الأمر الذي يهدد استمرارية وجوده..
واضاف "الحقيقة أن المشكلة ليست في التسويق الزراعي كما يزعم الكثيرون، لأن الفائض الناتج لدينا يقتصر أساسا على بضعة محاصيل قليلة، بينما نعاني من نقص هائل في معظم احتياجاتنا الزراعية الأساسية التي تعتبر عماد أمننا الإنتاجي الغذائي؛ فنستوردها من الاحتلال الإسرائيلي. ألسنا نستورد معظم المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب والقمح والأعلاف وغيرها، إضافة إلى بعض أصناف الخضروات الرئيسية والحمضيات والفاكهة والموز والشمام والبطيخ الذي اشتهرت به الضفة الغربية وقطاع غزة حتى أوائل التسعينيات، بل وكانتا تصدران فائضا منه؟ فالمشكلة إذن تكمن في ماذا وكيف نزرع".
زراعة الموز في أريحا آخذة بالتلاشي
ما المطلوب؟
يطالب مدير وحدة الدرسات في مركز معا جورج كرزم "ببلورة وتعزيز اقتصاد إنتاجي يتجه نحو الداخل ويكون بالتالي متحررا من التبعية لمدخلات الإنتاج الخارجية ومن رحمة الاقتصاد والسوق الإسرائيليين؛ أي اقتصاد مقاوم للاحتلال يتميز بالتداخل والتنوع ويلبي الاحتياجات الغذائية الاستراتيجية والأساسية النظيفة للناس. وهذا التوجه يعني اقترابنا من تحقيق سيادتنا على غذائنا، ما يعزز سيادتنا الاقتصادية والسياسية".