فلسطين وسائر المنطقة العربية ستزداد سخونة وجفافا وتصحراً في ظل مشهد جيوسياسي قاتم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
تلقى رافضو ظاهرة التغير المناخي في أوائل هذا العام لطمة مذهلة من بابا الفاتيكان، فرانسيس تحديدا، الذي دعا في منشور بابوي، إلى اتخاذ إجراءات عاجلة، خلال عام 2015، لمواجهة الاحترار العالمي. ورغم ذلك، حتى لو التَفَتَ إلى دعوته جميع المؤمنين الكاثوليك البالغ عددهم أكثر من مليار في العالم، وتوقفوا عن الطيران في الطائرات وأخذوا يسيرون إلى أعمالهم مشيا على الأقدام؛ فسوف تستمر ظاهرة الاحتباس الحراري في اكتساب القوة الدافعة.
التوقعات المناخية في منطقتنا العربية تحديدا مخيفة؛ إذ تقدر تلك التوقعات بأن تزداد سخونة منطقة غرب أسيا وشمال إفريقيا (أي بلادنا العربية)، وأن يتفاقم فيها الجفاف؛ وربما ما هو أكثر خطورة، أن الكتل السكانية المتنامية عدديا ستتصارع على موارد مائية آخذة في التضاؤل والاضمحلال.
من ناحيتها، تتوقع وكالة حماية البيئة الأميركية (EPA) بأنه ما لم تتخذ البشرية إجراءات جذرية لتعديل الحالة المناخية المتقلبة، فإن متوسط درجة الحرارة العالمية سيرتفع بنسبة 11.5 درجة مئوية حتى عام 2100. أما في حال اتخاذ إجراءات جذرية، فإن الوكالة تتوقع ارتفاعا في درجة الحرارة بمقدار درجتين مئويتين بحلول العام نفسه، أي بما لا يتجاوز الحد الأقصى لارتفاع الحرارة (درجتين مئويتين) الذي، في حال تجاوزه، يتوقع حدوث تدهور مناخي مدمر في العديد من أنحاء الكرة الأرضية.
درجات الحرارة في منطقتنا العربية لم تتغير كثيرا حتى الآن، إلا أنها ستتغير حتما؛ فالمنطقة تشهد بالفعل تقلبات شديدة في الطقس، كما أنها تعاني، بشكل عام، من عملية تصحر متسارعة. المطر في صحراء النقب الفلسطينية قد يصبح أكثر شيوعا؛ لكن المياه ستتبخر بشكل أسرع، وسوف ترتفع درجات الحرارة في الخارج إلى حد لا يطاق.
في المدى القصير، تأثير التغير المناخي على الحياة البرية (النباتات والحيوانات) في الصحاري القائمة، سيكون أقل من تأثر النباتات في المناطق شبه الصحراوية فيما يعرف "الشرق الأوسط" الذي يشمل فلسطين أيضا.
في الواقع، تطورت النباتات والحيوانات في منطقتنا، فأصبحت "متكيفة" مع المناخ؛ واعتادت لفترة طويلة على الهطول المطري المتفاوت بشكل متطرف من سنة لأخرى.
في غياب الإجراءات الجذرية التي يفترض اتخاذها خلال فترة حياة أطفالنا اليوم، فقد يصبح من الاستحالة بمكان، في المستقبل المنظور، مغادرة منازلنا أثناء حرارة النهار؛ إذ سيصبح عندئذ التواجد تحت الشمس في الخارج مميتا. كما ستواجه النباتات والحيوانات نفس الضغوط التي يواجهها الناس في المنطقة عموما. ولسنا بحاجة للنظر خمسين أو مائة سنة إلى الأمام، كي نلمس الخطر الشديد الذي سيداهمنا.
عندما يتحدث الناس عن التضخم السكاني العالمي، فأول ما يتبادر إلى أذهاننا الصين والهند. لكن، لدى تناولنا المسألة من الزاوية الديمغرافية، نجد أن ما حدث في منطقتنا العربية غير مسبوق. فمصر على سبيل المثال، تضاعف عدد سكانها خلال فترة الثلاثين عاماً التي سبقت سنة 1958؛ ومن ثم، في عام 1981 تضاعف عدد سكانها مرة أخرى. المشكلة أن مصر لا تستطيع مضاعفة مواردها الطبيعية الشحيحة في أقل من ثلاثين عاما، علما أن كميات المياه المتدفقة في النيل الأزرق آخذة في التضاؤل؛ ما يشكل وصفة محتملة للفوضى الاجتماعية-الاقتصادية-الطائفية وتفاقم الصراعات الطبقية والسياسية.
وهنا، لا بد من التنويه إلى دور الغرب الاستعماري في تفتيت البلاد العربية بشكل مصطنع، وبالتالي دور هذا التفتيت في إحداث تشتيت وتشوه كبيرين وخطيرين في كيفية توزيع الاقتصاديات والموارد والثروات العربية الطبيعية المتجددة وغير المتجددة. فقد فرض الاستعمار تجزئة الوطن العربي على أساس دويلات لا تملك كل منها، على حدة، مقومات الوجود الذاتي المستقل، حيث ركز الثروات العربية الضخمة في الأقطار قليلة السكان، واصطنع أقطارا ضخمة الثروات والمساحة وقليلة السكان، وترك أقطارا أخرى كثيرة السكان بموارد بيئية شحيحة ومحدودة، أو شحيحة السكان والثروات معا.
وبطبيعة الحال، تجزئة الوطن العربي التي فرضت بالقوة الخارجية، لا يمكنها أن تستمر في الحياة إلا بالقوة العسكرية الغربية التي تعيق وحدة الأمة العربية والوطن العربي.
الأغوار الوسطي عام 2014
احتداد الصراع على المورد الطبيعية والمائية المتناقصة
حاليا، جزء كبير من منطقتنا العربية يعتبر حارا وجافا، بل ويزداد جفافا. ويتوقع العديد من علماء المناخ مزيدا من التصحر، ذلك أن هطول الأمطار في المنطقة أصبح أكثر ندرة، وأنماطه تتغير باستمرار. لكن، توقعات الأمطار ترتكز على المؤشرات المرتبطة بدرجات الحرارة. وعموما، التوقعات الخاصة بالاحترار العالمي، تعني في الواقع المزيد من الأمطار؛ ذلك أن زيادة سخونة المناخ تتسبب في مزيد من تبخر المياه من المحيطات والبحار، تمشيا مع القاعدة الفيزيائية المعروفة: المياه المتصاعدة إلى أعلى يجب أن تسقط إلى أسفل. لكن، هطول الأمطار لن يوزع بالتساوي في جميع أنحاء العالم. بعض البلدان التي اعتادت على هطول أمطار غزيرة، ستحصل، فيما يبدو، على المزيد. بريطانيا، على سبيل المثال، تستعد لهطولات مطرية جارفة خلال السنوات القادمة.
اللافت أن المنطقة العربية المشرقية الخصبة الممتدة تحديدا من العراق (حوض نهري دجلة والفرات) والأجزاء الساحلية من بلاد الشام (بما في ذلك فلسطين)، عانت في السنوات الأخيرة من تراجع في الهطول المطري. ففي فلسطين، كان فصل الشتاء (موسم الأمطار) 2013-2014 هو الأكثر جفافا في تاريخها المناخي المسجل.
وكلنا يذكر، كيف عانت فلسطين العام الماضي من حالة جفاف حاد غير مسبوق، وبخاصة خلال الفترة الممتدة بين 15 كانون أول (2013) وحتى 9 آذار الأخير (أكثر من ثمانين يوما دون أمطار تقريبا)، وما رافق ذات الفترة من ارتفاعات كبيرة ومتتالية في درجات الحرارة فوق معدلها السنوي؛ فارتفعت الحرارة (خلال أشهر كانون ثاني، شباط وأوائل آذار) مرات عديدة أكثر من المعدل السنوي بـِ 10-13 درجة. ووصلت الحرارة بضع مرات في ساعات النهار (خلال ذات الفترة) إلى ما فوق 23–28 درجة مئوية، مع غياب شبه كامل للأمطار طيلة فصل الشتاء، وتحديدا طيلة "المربعانية" (22 كانون أول-31 كانون ثاني) ومعظم "الخمسينية" (التي تمتد من 1 شباط حتى 21 آذار).
الأقطار العربية الواقعة على تخوم الصحاري ستصبح أكثر صحراوية؛ أما البلدان الصحراوية- من منظور الجغرافيا السياسية المرتبطة بالتغير المناخي- فستصبح خلال العقود القادمة غير صالحة عمليا للسكن البشري.
وبالطبع، كلّما قلت الأمطار، كلما تضاءلت المياه الجوفية وتدهورت جودتها. وهنا، فإن الحلول المتعلقة بتحلية المياه، لا يمكن تطبيقها على نطاق واسع سوى في الدول الغنية، وبخاصة الخليجية. بينما الأقطار العربية الفقيرة لا تستطيع تحمل هكذا حلول. فعلى سبيل المثال، إجمالي كمية المياه التي يتم تحليتها سنويا في العالم، بالكاد تكفي لتغطية الاحتياجات المائية لمصر خلال شهر واحد. بمعنى، التحلية لا تشكل جواباً حقيقيا لأزمة الجفاف وشح المياه المتوقع تفاقمهما كثيرا خلال العقود القادمة.
وبالتالي، كلما ازدادت المياه ندرة وارتفعت تكلفتها، كلما احتد أكثر صراع الدول والمجموعات السكانية على المورد الطبيعية والمائية المتناقصة.
منطقة "البحر الأبيض المتوسط" تتميز بفصل صيف جاف قد يستغرق تسعة أشهر؛ أما فصل الشتاء (موسم الأمطار) فمتقلب للغاية. الفريق الحكومي الدولي المعني بتغير المناخ (IPCC) يتوقع ارتفاعا طفيفا في هطول الأمطار، طالما أن هناك ارتفاع في درجة حرارة الكوكب؛ لكن عموما، ستصبح التربة أكثر جفافا، لأن درجات الحرارة الأكثر سخونة ستتسبب بمزيد من التبخر.
فلسطين تحديدا، تقع في المنطقة التي ستخضع لعملية تصحر، ستشمل، بحسب IPCC، شمال أفريقيا والبلدان الواقعة في محيط حوض البحر الأبيض المتوسط، ومساحات شاسعة من آسيا كذلك. وفي ذات الوقت، تشير أرقام IPCC إلى أن درجات الحرارة في المنطقة المسماة "الشرق الأوسط" لم تتغير بشكل جوهري خلال الفترة 1901-1996؛ لكن، في حال شملت الحسابات منطقة آسيا، فستصبح عندئذ الزيادة 0.7 درجة مئوية. وعموما، الاتجاه المناخي العالمي لا مراء فيه، ومنطقتنا العربية لن تكون استثناء. وفي كل الأحوال، متوسط درجة الحرارة ليست هي المسألة الأساسية.
وكي ندرك طبيعة النظام المناخي المتغير في فلسطين وسائر المشرق العربي، لا بد أن ندرس الأحداث المناخية المتطرفة التي تعاني منها منطقتنا من فترة لأخرى. شتاء 2013-2014، على سبيل المثال، جاءنا بعاصفة ثلجية مجنونة. حتى القاهرة تلفعت باللون الأبيض. بعض المناطق في سوريا شهدت أعنف تساقطات للثلوج منذ عقود؛ ما فاقم بؤس المواطنين الذين يعانون أصلا من إرهاب العصابات الخارجية الغازية. وفي ذات الشتاء الماضي، لم تنهمر قطرة مطر واحدة على الحدود السورية-التركية؛ علما أن القرويين هناك ليس لديهم محطات تحلية أو صهاريج مياه. وعندما لا تمطر في مناطق أولئك القرويين ولا تتوافر لهم المياه، فكثيرا ما يرغمون على الهجرة.
الخلاصة أن التقلبات المناخية المتطرفة وعدم اليقين المناخي في منطقتنا العربية يتزامن مع مشهد جيوسياسي قاتم أيضا؛ حيث أن الأوضاع المزرية التي تعيشها الحواضر العربية المركزية (تاريخيا وحضاريا) مثل سورية والعراق ومصر، وتراجع الجزائر، وتحول أقطار أخرى مثل ليبيا واليمن إلى دول فاشلة، خلق فراغات قيادية مكنت الأنظمة الخليجية البترودولارية والعصابات الأجنبية الغازية من العبث في تلك الفراغات وشرعنة الفوضى الدموية السائدة في المنطقة. وقد شكلت تلك الأنظمة والعصابات الأجنبية قوة مغناطيسية للعديد من المحرومين الذين تنامى يأسهم من عجز حكوماتهم عن تقديم الحلول.