"عمر البرغوثي" أحد مؤسسي حركة مقاطعة اسرائيل (BDS):اسرائيل تحارب حركتنا من خلال وزارة الشؤون الاستراتيجية ووزير المالية الاسرائيلي يحذر من تعاظم الحركة عالمياً
عمر البرغوثي أحد مؤسسي حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها
خاص بآفاق البيئة والتنمية
مع العدوان الإسرائيلي الهمجي الحالي على شعبنا في قطاع غزة، والذي لم ينته رغم "وقف إطلاق النار"، بدأنا نشهد تطوراً نوعياً جديداً في انتشار حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) كأهم رد فعل عالمي على المجازر الإسرائيلية، وهذا بعد أن كانت الحركة قد حققت نجاحات كبيرة في العام ونصف الأخيرين.
وفي ذروة قوة اسرائيل الاقتصادية والعسكرية، بالذات النووية، ورغم فرض هيمنتها على دوائر صنع القرار الأمريكي فيما يتعلق بالمنطقة العربية وجوارها ككل، ورغم الضعف الرسمي العربي والفلسطيني، فإن إسرائيل تشعر اليوم بالتهديد من حركة المقاطعة BDS كركيزة رئيسية من ركائز النضال الشعبي والمدني، تستند إلى القانون الدولي وتستمد مبادئها من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
في حزيران 2013، أقرّت الحكومة الإسرائيلية بشكل رسمي أن الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS)، التي أطلقها المجتمع الفلسطيني بغالبيته الساحقة في 9 تموز 2005، باتت تشكل “تهديداً استراتيجياً” للنظام الإسرائيلي الذي يجمع بين الاحتلال والاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري (الأبارتهايد). في ضوء ذلك، قررت الحكومة الإسرائيلية نقل مسؤولية محاربة حركة المقاطعة إلى وزارة الشؤون الاستراتيجية، بعد أن كانت وزارة الخارجية تتولى هذا الملف.
بهذه المقدمة استهل ناشط حقوق الانسان وأحد مؤسسي حركة المقاطعة BDS السيد عمر البرغوثي لقاءه مع مجلة آفاق البيئة والتنمية بالتزامن مع حملة المقاطعة الشعبية التي بدأت تتكثف مع بدء العدوان الوحشي على قطاع غزة، وجرى الحوار التالي:
- حركة (BDS) اليوم باتت تشكل تهديداً استراتيجيا حقيقياً على علاقة اسرائيل مع باقي دول العالم، كيف حققت الحركة هذا الانجاز الذي يحسب لصالح قضيتنا ونضالنا ضد الاحتلال؟
بداية أود الاشارة إلى استطلاعات الرأي العام العالمي السنوية التي تجريها وكالة الـ BBC (GlobeScan) والتي أظهرت في السنوات القليلة الماضية، أن إسرائيل باتت تنافس كوريا الشمالية على موقع ثالث أو رابع أسوأ الدول تأثيراً في العالم! هذا ينعكس بلا أدنى شك على التجارة الإسرائيلية مع العالم.
تأسيس الحركة
في 9/7/2005، أصدرت الغالبية الساحقة في المجتمع الفلسطيني، من أحزاب ونقابات وهيئات واتحادات وحملات شعبية، نداءً تاريخيا لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS) في شتى المجالات، الأكاديمية والثقافية والاقتصادية والعسكرية حتى تنصاع للقانون الدولي وتلبي ثلاثة شروط تشكل الحد الأدنى المطلوب لكي يمارس الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير بحسب القانون الدولي: إنهاء احتلال جميع الأراضي العربية التي احتلت في 1967، بما في ذلك إزالة المستعمرات والجدار؛ إنهاء نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) القائم في أراضي عام 1948 ضد الجزء من شعبنا الذي يحمل الجنسية الإسرائيلية؛ وعودة اللاجئين إلى ديارهم الأصلية التي شردوا منها. أي أن حركة المقاطعة تبدد الانطباع الذي ساد بين الكثيرين بعد توقيع اتفاقية أوسلو الكارثية بأن الشعب الفلسطيني يمكن اختزاله بالفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة عام 1967، دون فلسطينيي 48 ودون اللاجئين.
هذه الحقوق الأساسية الثلاثة تتوافق مع الأجزاء الاساسية الثلاثة المكونة للشعب الفلسطيني: فلسطينيو الشتات، ويشكلون 50% من الفلسطينيين في العالم؛ الفلسطينيون في الأرض المحتلة عام 1967، ويشكلون 38% من الشعب الفلسطيني، وفلسطينيو 48 (حاملو الجنسية الإسرائيلية) ونسبتهم 12% من الشعب الفلسطيني.
امتداداً لتاريخ الشعب الفلسطيني الحافل بالنضال السلمي والشعبي، ومن ضمنه تجارب المقاطعة، سيما في الانتفاضة الأولى، وتأثرا بتجارب النضال في جنوب أفريقيا وحركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة بقيادة مارتن لوثر كنغ، تناضل حركة مقاطعة إسرائيل (BDS) لعزل إسرائيل بشكل شامل وفي جميع المجالات (الأكاديمية والثقافية والرياضية والعسكرية والاقتصادية)، كونها دولة احتلال وأبارتهايد واستعمار استيطاني، كما قاطع العالم جنوب أفريقيا خلال حقبة نظام الفصل العنصري.
رغم سعينا لفرض مقاطعة شاملة على إسرائيل، فإن المقاطعة تتبع مبدأ “الحساسية للسياق”، أي أن نشطاء المقاطعة في كل موقع هم الأكثر قدرة على تحديد الشركات أو المؤسسات التي يستهدفونها بحملاتهم وكيفية النضال للوصول إلى هذه الأهداف المحلية. إن أغلبية حلفائنا في الغرب، مثلاً، يستهدفون الشركات المتورطة في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي في الأراضي المحتلة عام 1967 فقط، ولكن بعضهم بدأ في تجاوز ذلك فتبنى المقاطعة الشاملة لإسرائيل ومؤسساتها المتواطئة.
حركة BDS ليست حزباً سياسياً ولا حركة أيدولوجية، انها حركة حقوق إنسان عالمية ذات قيادة ومرجعية فلسطينيتين. وهي تعتمد على الجهود الطوعية والمبدعة للأفراد والمؤسسات المؤيدة لحقوق الإنسان وإعلاء شأن القانون الدولي. فهي إذاً ليست حكراً على طرف سياسي أو أيدولوجيي أو غير ذلك.
لدينا حلفاء إسرائيليون من القوى المعادية للصهيونية والمتفقة على نداء المقاطعة بأكمله. ورغم قلة عدد مناصري BDS من الإسرائيليين، إلا أن تأثيرهم كبير وهام في الحركة العالمية للمقاطعة. نعتز بدورهم كشركاء لنا في مقاومتنا المشتركة للنظام الإسرائيلي الاستعماري والعنصري وصولاً للحرية والعودة وتقرير المصير.
إن اللجنة الوطنية الفلسطينية لمقاطعة إسرائيل، وهي أوسع تحالف في المجتمع الفلسطيني، تقود حركة المقاطعة العالمية (BDS)، حيث تضع معاييرها وتنسق مع حلفائها حول العالم في حملات مقاطعة أو سحب استثمارات عينية. كما إن هناك عدد من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية التي تعمل في نفس الاتجاه بشكل مستقل، مما يرفد عمل حركة المقاطعة.
يتكون نداء المقاطعة الذي أطلقة المجتمع الفلسطيني في 2005 من شقين: أولاً، المبادئ والحقوق غير القابلة للتصرف، وثانياً، التكتيكات المطلوبة للوصول إلى الأهداف. كل حلفائنا حول العالم يتبنون حقوقنا الثلاثة المنصوص عليها في نداء المقاطعة، ولكن كل منهم يقرر، بشكل لا-مركزي، الأهداف المناسبة للمقاطعة أو سحب الاستثمار في موقعه والتكتيك الأنسب للوصول للهدف. إننا نتبنى مبدأ الحساسية للسياق، أي أن كل شريك ومؤيد لحركة المقاطعة يقرر الأنسب في سياقه. البعض يقرر مقاطعة جميع الجامعات الإسرائيلية، مثلاً، كما حدث من قبل أربع جمعيات أكاديمية في الولايات المتحدة في 2013، والبعض الآخر يتبنى مقاطعة شركة بعينها فقط لتورطها في المستعمرات المقامة في الأراضي المحتلة عام 1967، وكثيرون بين الإثنين.
- كيف تقرأ حملة المقاطعة الشعبية الحالية وما هي المؤشرات على استدامتها؟
المقاطعة الشعبية في الضفة الغربية، بما فيها القدس المحتلة، شهدت قفزة لم نرها منذ الانتفاضة الأولى، حيث انتشرت حملات شبابية ونسوية وعمالية وطلابية في القرى والمخيمات والمدن، معظمها بتوجيه من القوى السياسية والحركات الشعبية المنضوية في إطار اللجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل، ولكن ثلثها أو اكثر عفوي.
فبعد سنين طويلة من زراعة بذور المقاطعة المحلية والتحرر التدريجي من احتلال إسرائيل للعقول من قبل العديد من القوى الاجتماعية والشعبية، وفي وجه ثنائية البطولة والمأساة، المقاومة والمجزرة، في غزة وحتى قبلها، في القدس، وبعد القتل الوحشي لشهدينا محمد أبو خضير، وفي باقي أنحاء الضفة الغربية في مواجهة وحش المستعمرات والمستعمرين، باتت غالبية شعبنا تحت الاحتلال مقتنعة بأولوية مقاطعة إسرائيل، بمنتجاتها ومؤسساتها، لمعاقبتها والمساهمة في تعزيز عزلتها من خلال رفد حركة المقاطعة BDS حول العالم بمساهمة فلسطينية نوعية ومنتشرة ومؤثرة.
وانخفضت، بالنتيجة، مبيعات بعض الشركات الإسرائيلية في السوق الفلسطينية إلى النصف، مما حذا بسلطات الاحتلال إلى دعم خفض أسعار المنتجات الإسرائيلية لكسر المقاطعة الشعبية لها. في المقابل، فقد ازداد بشكل ملحوظ إقبال شعبنا على المنتجات الوطنية فزادت حصتها من السوق، مما يبشر بإمكانية زيادة قدرتها الإنتاجية ومعدلات التشغيل فيها. وقد نقلت اللجنة الوطنية للمقاطعة لاتحادات الصناعات الفلسطينية المطالب الشعبية الأهم القادرة على تعزيز وتسريع إحلال المنتج الوطني مكان الإسرائيلي: استمرار العمل على تحسين الجودة؛ زيادة تشغيل العمال؛ وتحسين شروط العمل.
قبل يومين -من تاريخ اجراء المقابلة الـ28 من آب- دعت اللجنة الوطنية للمقاطعة جميع أطر وحملات المقاطعة الشعبية في الضفة الغربية، بما فيها القدس، لتنسيق الجهود والاتفاق على استراتيجيات منسجمة تضمن الاستمرارية والتأثير وترفد المقاطعة العالمية كذلك. وقد لبى الدعوة عدد كبير من الحملات والمؤسسات، ونتج عن الاجتماع تشكيل "اللجنة التنسيقية للمقاطعة الشعبية"، وهي إطار تنسيقي يضم الجميع، ومفتوح لكل الحملات الأخرى التي لم تتسنى لها المشاركة، فهو إطار غير حزبي وغير "تابع" لأحد، بل هو ملك الجميع.
- وماذا عن المقاطعة العالمية، وما هي المؤشرات على تنامي أثرها عالمياً؟
في قراءة لوضع حركة المقاطعة عالمياً، فنستطيع أن نقول أننا على أعتاب نقلة نوعية في عزل إسرائيل على الصعيد الأكاديمي والثقافي وعلى أعتاب مرحلة التأثير الملموس والموجع على الاقتصاد الإسرائيلي.
لا توجد دراسات دقيقة لحجم خسائر الاقتصاد الإسرائيلي جرّاء المقاطعة حتى الآن، رغم تصريح وزير المالية الاسرائيلي، يائير لابيد، بأنه في حال استمرت المقاطعة في النمو وانخفض التصدير لأوروبا بنسبة 20% ستخسر إسرائيل أكثر من 10,000 وظيفة وما قيمته 5.7 مليار دولار من العملات الأجنبية. وتُظهر بعض المؤشرات بداية تأثر التجارة مع أوروبا، مما يبرر التخوفات الاسرائيلية. فبيانات 2012 تظهر بأن هناك تراجعاً في الصادرات إلى الاتحاد الأوروبي بنسبة 7% عن 2011 (باسثناء الماس).وهذه نسبة لا يستهان بها كبداية، فإذا ما أخذنا بعين الاعتبار معادلة وزارة المالية الاسرائيلية، فإن هذا الانخفاض يكون قد أفقد الاقتصاد الإسرائيلي ما يعادل 3500 وظيفة. أما في العام 2013 فهناك توقع أن تكون الصادرات قد تراجعت بنسبة 20 مليار شيكل والصناعة قد خسرت نحو 11 مليار شيكل.
مما لا شك فيه إن بعض أهم المسؤولين ورجال الأعمال الإسرائيليين ينظرون لحركة المقاطعة اليوم كخطر محدق يتهدد الاقتصاد الإسرائيلي برمته ويلقي بظلال جنوب أفريقيا عليه، حسب تعبير وزيرة العدل تسيبي ليفني. أما وزير المالية الإسرائيلي، فقد صرح أيضاً في الآونة الأخيرة أن "الاقتصاد الإسرائيلي أكثر هشاشة من أمنها القومي". كما اصدرت وزارة المالية تقريراً ينص على "أن المقاطعة هي أكبر خطر على الاقتصاد الاسرائيلي".
يعكس هذا الهلع الإسرائيلي من حركة المقاطعة التطور الملحوظ في الإجراءات المتعلقة بالمقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات التي اتخذتها صناديق تقاعد ضخمة وشركات وبنوك، بالذات في أوروبا، ضد شركات ومؤسسات إسرائيلية متورطة في الاحتلال والاستيطان.
ففي هذا العام وحده، سحب صندوق بيل غيتس (Gates Foundation) استثماراته بالكامل، وقيمتها 182 مليون دولار، من شركة G4S الأمنية بسبب تورطها في انتهاكات حقوق الإنسان، ومن ضمنها الانتهاكات الإسرائيلية، كذلك فعلت الكنيسة الميثودية (United Methodist Church) ، إحدى أكبر الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، خسرت شركة G4S، وهي أكبر شركة أمنية في العالم، عقوداً مجزية في بريطانيا والنرويج والاتحاد الأوروبي وجنوب أفريقيا لتورطها في تقديم منتجات وخدمات لمصلحة السجون الإسرائيلية، حيث يتعرض أسرانا للتعذيب، وهو جريمة ضد الإنسانية، ولحماية الحواجز العسكرية والمستعمرات. بعض أهم النشرات المالية والاستثمارية باتت تنظر لحركة المقاطعة BDS كـ"عامل مخاطرة" (risk factor) لأي شركة تستهدفها الحركة.
أما صندوق جورج سوروس
(Soros) فقد اضطر في الربع الأول من هذا العام لبيع جميع أسهمه في شركة صوداستريم الإسرائيلية التي تصنع مشروبات غازية في مستعمرة معاليه أدوميم المحاذية للقدس المحتلة بعض أن ثارت فضيحة استثماره هذا في أوساط حركة المقاطعة وأنصارها حول العالم العربي والعالم. وقد خسر سهم الشركة ما يقارب 50% في أقل من عام، وكانت حملة المقاطعة ضد الشركة أهم عامل وراء هذه الخسارة، حسب التحليلات الاقتصادية. واليوم تعلن إدارة صوداستريم أنها تفكر جدياً في
إغلاق المصنع المذكور.
وقبل شهرين تقريباً أقرت الكنيسة المشيخية (Presbyterian Church USA) سحب استثماراتها من الشركات HP و Caterpillar و Motorola Solutions، لتورطها جميعا في انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي للقانون الدولي.
كما قرر في مطلع هذا العام ثاني أكبر صندوق تقاعد هولندي،PGGM ، وتبلغ استثماراته العالمية أكثر من 200 مليار دولار، سحب استثماراته من أكبر 5 بنوك إسرائيلية بسبب تورطها في الاحتلال. وأعلن أكبر بنك في الدنمارك، "دانسكه"، مقاطعة بنك "هابوعاليم"، وهو من أكبر البنوك الإسرائيلية، على خلفية نشاطه في الأراضي المحتلة.
وأعلنت الحكومة النرويجية أن صندوق التقاعد الحكومي سيسحب استثماراته من الشركات الإسرائيلية المرتبطة بالبناء في المستعمرات، وخص بالذكر شركتي "أفريكا- إسرائيل" و"دانيا سيبوس". ويعتبر هذا الصندوق الاستثماري المُموّل من عائدات النفط الأضخم عالمياً، حيث تبلغ استثماراته 810 مليار دولار.
مقاطعة عالمية آخذة بالازدياد
أيضاً خسرت شركة "ميكوروت" الإسرائيلية للمياه قبل أشهر قليلة عقداً كبيراً في الأرجنتين يصل إلى 170 مليون دولار، بعد نضال طويل لناشطي المقاطعة هناك، بينما أنهت شركة "فيتنز" الهولندية للمياه عقدها مع "ميكوروت" لتورطها في الاحتلال كما خسرت الشركة عقداً كبيراً في البرتغال.
وفي سابقة خطيرة بالنسبة لإسرائيل، قررت الحكومة الألمانية، حليف إسرائيل الأقوى في أوروبا، استثناء الشركات والمؤسسات الإسرائيلية العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة (بما فيها القدس الشرقية) من أي اتفاق تقني وعلمي مستقوفي سابقة ربما أكثر خطورة، انسحبت بعض شركات الإنشاءات الأوروبية العملاقة من التنافس لإنشاء مينائين يديرهما القطاع الخاص في أسدود وحيفا (أي ليس في الأراضي المحتلة عام 1967) خوفا من تنامي المقاطعة العالمية لإسرائيل.
أما الشركات العالمية المتورطة في انتهاكات إسرائيل للقانون الدولي، فقد بدأت في دفع ثمن باهظ لهذا التواطؤ. إن حملتنا BDS لمقاطعة شركة "فيوليا"، على سبيل المثال، والتي أطلقناها في نوفمبر 2008 في مدينة "بلباو" في إقليم الباسك، تثبت جدوى المقاطعة الاقتصادية أكثر من غيرها. "فيوليا"، وهي شركة فرنسية متورطة في مشاريع إسرائيلية في الأرض المحتلة، خسرت عقودا، أو اضطرت تحت ضغط حملة المقاطعة أن تنسحب من مناقصات، بقيمة تفوق 23 مليار دولار حول العالم، في بريطانيا والسويد وإيرلندة ومدينتي سانت لويس وبوسطن الأمريكيتين، وغيرها.
في ضوء كل هذه النجاحات، والكثير غيرها، لحركة المقاطعة، حذّر وزير المالية الإسرائيلي في خطاب ألقاه أمام مؤتمر معهد دراسات الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب بتاريخ 29/1/2014، من تعاظم BDS في العالم قائلاً: "عدم الشعور بتأثير المقاطعة حالياً سببه أنها عملية تدريجية. لكن الوضع الحالي خطير جدا. فنظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا لم يتنبه إلى بداية حملة المقاطعة التي تعرض لها".
إن محورية التجارة العالمية في الاقتصاد الاسرائيلي هي مصدر قوة ومصدر ضعف في آن واحد. إضافة لذلك، فإسرائيل تأتي في الدرجة الثالثة بعد الولايات المتحدة والصين كأكثر دولة لديها شركات مدرجة ضمن مؤشر "ناسداك"، كما أن لدى اسرائيل عدد كبير من الشركات المحلية (start-ups) التي يتم شراؤها من قبل الشركات الأمريكية، مما يعني بالضرورة أنها معرضة أكثر من غيرها لمخاطر تراجع الاستثمارات الخارجية فيها.
المقاطعة ليست فقط اقتصادية
ويظهر هذا جلياً على المستويين التجاري والاستثماري. فعلى المستوى التجاري:
تدرس حركة المقاطعة عن كثب كل هذه الإنجازات والتحديات الكبيرة التي تعيق تحقيق المزيد منها، لتحدد بواطن القوة والضعف في الاقتصاد الإسرائيلي ولتطور استراتيجيتها حسب اللزوم. ولكن من المؤكد، كما استنتجنا واستنتجت إسرائيل، فإن انتشار المقاطعة الأكاديمية والثقافية والرياضية لإسرائيل يلعب دوراً جوهرياً في تنامي المقاطعة الاقتصادية لها. فعندما يدعو مغنٍ عالمي من وزن روجر ووترز (Pink Floyd) أو المطران دزموند توتو أو الكاتبة الكندية اليهودية المرموقة ناعومي كلاين وغيرهم لمقاطعة إسرائيل، فهم يسهمون بشكل هائل في تقويض سمعة إسرائيل ووسمها (brand)، مما يضعف الإقبال العالمي على بضائعها وخدماتها. وهذه الاستراتيجية ذاتها التي لعبت دوراً حاسماً في عزل نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا قبل عقود.
في مقابلة هامة للرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريس، مع صحيفة "معريف" في 2012 لخص هذا الربط العضوي بين المقاطعة الثقافية والاقتصادية بالتالي:
"لقد أنعم الله على إسرائيل بكثير من المواهب التي تقوم بتصنيع العديد من المنتجات الممتازة. لتتمكن من التصدير، تحتاج لمنتجات جيدة، ولكنك أيضاً تحتاج لعلاقات جيدة. فلماذا نصنع السلام؟ لأنه إذا تدهورت صورة إسرائيل، سوف تعاني من المقاطعة. هناك بالفعل مقاطعة فنية ضدنا – فهم لم يسمحوا [للمسرح الوطني الإسرائيلي] Habimah بدخول لندن – ومؤشرات على مقاطعة مالية غير معلنة بدأت تظهر".
- ما المتوقع في حال استمرار المقاطعة العالمية والشعبية؟
متوقع أن نستمر في تركيم الإنجازات لنحول جرائم إسرائيل ضد شعبنا في غزة إلى تصعيد لعزل دولة الاحتلال بشكل غير مسبوق. فحملات مقاطعة إسرائيل باتت منذ بدء العدوان الحالي على غزة الردّ الأهم حول العالم في وجه المجازر الإسرائيلية التي ترتكب بحق شعبنا المحاصر في قطاع غزة.
ففي الايام الأخيرة، اتخذ مجلس الاتحاد الأوروبي قراراً هاماً حول حظر استيراد منتجات اللحوم والألبان الإسرائيلية لو كان أي جزء منها يأتي من المستعمرات. وكان الاتحاد الأوروبي قد قرر في منتصف عام 2013 إصدار توجيهات تمنع تمويل مشاريع إسرائيلية في الأرض الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية. وخلال العدوان الحالي، "نصحت" حكومات 17 دولة أوروبية شركاتها ومواطنيها بعدم التورط في مشاريع إسرائيلية في الأرض المحتلة.
استجابت بعض الحكومات لنداءات حركة المقاطعة وحلفائها، بالذات النداء الصادر من قطاع غزة المحتل والمحاصر، بفرض عقوبات، ولو جزئية. فقبل أسابيع قررت الحكومة الإسبانية تجميد مؤقت لتصدير السلاح لإسرائيل، وقد كان الحظر العسكري على إسرائيل من أهم ما ناضلت وتناضل حركة المقاطعة BDS لتحقيقه في كافة دول العالم. كما قررت الحكومة البريطانية إعادة النظر في صادراتها العسكرية لإسرائيل، وصرّح نائب رئيس الوزراء البريطاني، نيك كليغ، تأييده لوقف تصدير السلاح إلى إسرائيل، بينما استقالت الوزيرة في وزارة الشؤون الخارجية البريطانية، سعيدة وارسي، من منصبها الوزاري احتجاجاً على سياسة حكومة ديفيد كاميرون المنحازة لإسرائيل، وبالذات تعنت الحكومة في رفض المطلب الشعبي العارم بوقف تصدير السلاح لإسرائيل خلال المجزرة.
كما دعت كل من منظمة العفو الدولية آمنستي ومنظمة أوكسفام لحظر بيع السلاح إلى إسرائيل.
أما حكومات أمريكا اللاتينية فقد تميزت بعقوباتها، فقد سحبت البرازيل والإكوادور وتشيلي والبيرو والسلفادور سفراءها من تل أبيب، كما جمدت تشيلي مفاوضات التجارة الحرة مع حكومة الاحتلال. أما الزعيم البوليفي، إيفو موراليس، فلم يضع إسرائيل على قائمة الدول الإرهابية وحسب، بل وقع بياناً لمعاقبة إسرائيل على جرائمها في غزة تبنّى فيه مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، ليصبح أول رأس دولة يفعل ذلك، وكذلك فعل القائد التاريخي لكوبا فيدل كاسترو.
وقبل أسابيع، أدانت لجنة فلسطين التابعة لحركة عدم الانحياز الجرائم ضد الإنسانية التي تقترفها إسرائيل في غزة، داعية لمحاكمة مجرمي الحرب الإسرائيليين في محكمة الجنايات الدولية، ولتفعيل وتصعيد مقاطعة البضائع الإسرائيلية وحظر تجارة السلاح مع إسرائيل.
وفي المجال الثقافي، شهدنا للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي-الصهيوني عدداً كبيراً من ألمع نجوم الموسيقى ونجوم هوليوود، ومن ضمنهم بعض الحائزين على جوائز "أوسكار"، يتعاطفون مع الشعب الفلسطيني علانية، ويذهب بعضهم إلى درجة اتهام إسرائيل بارتكاب "إبادة" بحق الفلسطينيين في غزة، كما فعلت الممثلة الإسبانية الشهيرة بينيلوبي كروز ومعها مائة من أهم نجوم الفن في إسبانيا.
وقرر بعض ألمع نجوم كرة السلة الأمريكيين الحاليين والمتقاعدين، مثل ماجيك جونسون، إلغاء مشاركتهم في أنشطة رياضية إسرائيلية في القدس المحتلة.
كما وألغت السويد صفقة تجارية مع شركة إسرائيلية، وباتت شركات تصدير المنتجات الزراعية الإسرائيلية تشكو من تقلص حقيقي لمبيعاتها في السوق الأوروبية.
وانضم لحركة المقاطعة اتحاد أصحاب الفنادق في مومباي، وهي من أكبر المدن الهندية، حيث أعلن وقف شراء كل المنتجات الإسرائيلية.
وأعلنت أربع مدن في اسكتلندة وواحدة في إنجلترة انضمامها لمقاطعة إسرائيل، لتكون أول مدن في الغرب تفعل ذلك.
وانضمت عدة جمعيات أكاديمية لحملة المقاطعة الأكاديمية لإِسرائيل، مما يتيح دائرة العزل الأكاديمي لإسرائيل. ومع قرب بدء العام الدراسي في الجامعات العالمية، يعد حلفاؤنا في الأطر الطلابية حول العالم خططاً لنشر سحب الاستثمارات من الشركات الإسرائيلية والعالمية المتواطئة مع نظام إسرائيل الاستعماري والاحتلالي.
كما انضم اتحاد الطلبة في بريطانيا (ويضم 7 مليون عضو) للمقاطعة، وكذلك فعل اتحاد الطلبة في مقاطعة أونتاريو الكندية الهامة (ويضم 300 ألف عضو).
- هل اتفاقية باريس الاقتصادية ستسمح لنا بتحقيق المقاطعة الفعّالة التي ستحقق لنا التنمية الاقتصادية والاكتفاء الذاتي المطلوبين؟
المقاطعة ليست فقط للبضائع. إن حركة المقاطعة في الداخل الفلسطيني نجحت لدرجة كبيرة في مجالي المقاطعة الأكاديمية والثقافية. أما مقاطعة المنتجات الإسرائيلية التي توجد لها بدائل، فقد واجهت تحديات عديدة تمنعنا من تحقيق إختراقات. أهم عائق هو اتفاقية أوسلو وشقها الاقتصادي (اتفاقية باريس) بالذات، فهي تكرس هيمنة دولة الاحتلال على الاستيراد والتصدير والعملة والضرائب، كما تكرس تبعية الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد إسرائيل، مما يجعل سوقنا مَكَبّاً للبضائع الإسرائيلية. فبعد عقود من تدمير الاحتلال للبنية التحتية والإنتاجية الفلسطينية في مجال الصناعة والزراعة، وبعد مصادرة أكثر الأراضي خصوبة وأغنى مصادر المياه، وبعد تضييق حرية الحركة ومنع أي نمو في ما يسمى بمنطقة C (أي معظم الضفة الغربية)، بات الاقتصاد الفلسطيني أسيراً بحق لدولة الاحتلال وأجنداتها السياسية والاقتصادية.
كما أن تخصيص نسبة هائلة من ميزانيات السلطة لما يسمى بـ"الأمن" على حساب الزراعة والتنمية الصناعية وخلق فرص العمل أيضاً، أسهم في ضرب إمكانية إنعاش الإنتاج الوطني وتحقيق مقاطعة أوسع للمنتجات الإسرائيلية.
- ما التحدي الأكبر أمام انتشار ثقافة المقاومة كنهج حياة؟
هناك عوامل ذاتية لا زالت تشكل تحديات أمام انتشار ثقافة المقاطعة من جديد كجزء من المقاومة الشعبية، أهمها احتلال إسرائيل لعقول بعض الفلسطينيين، الذين باتوا منهزمين من داخلهم، يقبلون الاحتلال كقدر محتوم ويتكيفون معه. والبعض أصبح يعتبر كل منتج إسرائيلي (من "الخواجا") مميزاً وكل منتج وطني رديء. ففي الوقت الذي تباع فيه الأدوية الفلسطينية، مثلاً، في ألمانيا، نجد بعض الفلسطينيين في رام الله أو بيت لحم يرفضها ويفضل شراء البديل الإسرائيلي لـ"جودته". ولكن مع العدوان على غزة، بدأت هذه الظاهرة في الأفول والتحوصل.
إن الأطر المكونة للجنة الوطنية لمقاطعة إسرائيل لا بد أن تأخذ جميع العوامل أعلاه بعين الاعتبار في جهودها لتوجيه حملات مقاطعة البضائع الإسرائيلية لوضع استراتيجيات منسقة تضمن عودة الروح للمقاطعة كثقافة وكمقاومة شعبية، وتضمن الاستمرارية ما بعد العدوان، وحتى تحقيق أهداف نضالنا الوطني.
وأخيراً، وفي ختام هذا الحوار أؤكد بأن اسرائيل ومؤسساتها ستشهد، وقد بدأت بالفعل، موجة هائلة من المقاطعة ستضرب سمعتها وإسمها ومن ثم اقتصادها كما لم يحدث من قبل.
رام الله، 28، آب 2014