أبو الحكم: صنعت خبزًا يُطعم جيشًا بأكمله!

أبو الحكم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يلتصق الستيني طارق حمّاد دراغمة بمهنة صناعة خبز الصاج منذ أكثر من نصف قرن، فقد بدأ حكايته مع بيت النار يوم كان في العاشرة، ولا زال يواصل عمله في تقليد يكرهه كل يوم. يروي وهو يُطوّع العجين فوق صاج مشتعل: بدأت في هذا العمل منذ عام 1954، خلال العطلة الصيفية، وذهبت من طوباس لنابلس بحثاً عن فرن، وعملت فترة طويلة فيه، ثم انتقلت لمدينتي، وبعدها العقبة، ثم عمان، والسعودية، وأقف في الفرن نفسه منذ عام 1965.
أحوال
وبحسب أبو الحكم، الذي أبصر النور عام 1944، فإن تغيّرات كثيرة عصفت بمهنته، بدءاً من القمح، والآلات، والوقود المستخدم، ومروراً بالأسعار، والأجور، وحجم المنافسة، وانتهاءً بأعداد الزبائن، وانقراض عادات ارتبطت بالخبز، الذي كان يعجنه معظم الناس في بيوتهم، ثم يرسلونه للفرن لخبزه كما يشتهون مقابل أجر.
يستذكر: في الستينيات لم تكن هناك آلات للعجن، وكنا نُشعل الحطب، وكان القمح الذي تنتجه سهول طوباس الواسعة وفيراً ورخيص السعر، وكنت أخبز عجين الكثير من الأسر، وصنعت القطايف، والكعك بالتمر، والمناقيش، وخبز الطابون العادي، وخبز الشراك.
يضيف دراغمة: قديمًا، كان كل شيء أفضل من اليوم، وطبيعي أكثر، وهذا بسبب المطر الكثير الذي كان يهطل، والبركة، وعدم وجود الغلاء، وحب الناس لبعضهم، وقلة المنافسة بينهم. ولا أنسى كيف كنا نشتري كيس الطحين بسبعين قرشًا، أما اليوم فيقترب من الأربعين دينارًا. وكانت أسطوانة الغاز بدينارين، واليوم بـ 18 دينارًا. وأول أجر حصلت عليه 15 قرشًا في اليوم، أما اليوم فيصل الأجر لثلاثين دينارًا. وكنا نبيع الخمسة أرغفة من خبز الصاج بقرش، واليوم الخمسة بدينار. واشترينا طن القمح بخمسين ديناراً وارتفع هذه الأيام إلى 400.
تقاليد
يحرص أبو الحكم على تقليد سنوي منذ عقود، إذ يشتري القمح من حقول الأغوار، ثم يذهب به لمطحنة في نابلس، ويٌبقي على النخالة فيه، لأن الطحين الأبيض الخالص ليس صحياً، ومنزوعاً من الفوائد ويتسبب بداء السكري. كما يواكب عمله في إنتاج القطايف، المُعد من السميد البلدي، والحليب، وماء الزهر، والسكر، ويقول: لم يكن في طوباس غيري وغير السيدة غصيبة نحضّر القطايف، واليوم صرنا أكثر من ستين.
يسترد: من أكثر العادات الجميلة التي خسرناها، توقف الناس عن إعداد ما يأكلونه من خبز بأيديهم منذ حوالي 40 سنة، فقد كانوا يعجنون ويرسلون العجين للفرن. أما اليوم فمعظم الجيل الجديد لا يعرف طريقة العجن، ولا يُخزن القمح في البيت مع أنه (عماد البيت هو والزيت كما يقول المثل الشهير) ولا يعرف الطريق للمطحنة، ولا يملك أدوات إعداد الخبز، وإذا وقع أي طارئ لا أعرف من أين سيوفرون خبزهم.
درس دراغمة للصف الثالث الإعدادي (التاسع اليوم)، وانتقل لمدرسة صناعية في عمان، وامتهن السباكة أيضاً، وعمل بها في ليبيا بعض الوقت، لكنه عاد إلى الصاج وبيت النار، فوجد سعادته في هذه المهنة، وخاصةً كلّما صنع خبز الشراك، الذي يذهب إلى المناسف، والمطاعم للشاورما، وصناعة المفروكة (بإضافة الزيت والسكر، ويقدم عن أرواح الأموات).
حوادث
لا ينسى أبو الحكم، الأب لثلاث بنات وولدين، وستة أحفاد، ما تعرض له من حادثي عمل، لا ينساهما، فوقع الأول خلال الستينيات في بلدة أبو ديس، حين أتت عجانة على أصبعه الإبهام الذي لا زال لا يستطيع ثنيه وتحريكه، أما الثاني فحدث في رمضان الماضي، ويومها وقع كف يده على الصاج الملتهب، ليسرع إلى الماء البارد، ونجا من الحرق بأعجوبة.
يواصل: أتذكر عادة "البشعة" التي سمعت بها من الأجداد، والتي كان يلجأ لها العرب القدماء، وتشبه حلف اليمين للمتهم بالسرقة أو القتل، فحين تنقطع قدرة القاضي على إثبات التهمة، يطلب منه أن يضع المحماسة (أداة معدنية تشبه المغرفة وتستخدم لتحميص القهوة) بعد تسخينها لدرجة كبيرة، على لسانه، فإن كان صادقاً لم يتضرر وإن كذب فإن لسانه يحترق.
ينهي: صنعت خلال حياتي خبزاً يطعم جيشاً بأكمله دفعة واحدة، وليت بيوت اليوم تتعود على الاكتفاء الذاتي، وتصنع خبزها بأيديها.
الفران أبو الحكم
aabdkh@yahoo.com