محمد علي طه
-1-
هل تشاهد ( يا خواجة ) هذه التلال المحيطة ببلدنا.. إنها واسعة جدا، وكانت تدر علينا الخير واليوم هي امرأة عاقر.. لم نكن نزرع هذه التلال، وأقسم لك إنها لم تعرف الزرع يوما، بل كانت مراعي واسعة لأبقارنا وأغنامنا وماعزنا وجمالنا وخيولنا وحميرنا.. هذه التلال اسمها "أرض المشاع". وكنا نقسمها إلى قسمين: القسم الأول للعَمّال، والثاني للبطّال.. لم تفهم؟ سأفسرها لك: العَمّال هي دواب العمل، الخيول والثيران؛ والبطّال هي بقرالحليب والأغنام والماعز. وكان العشب يغطي التلال صيفا وشتاء، وأنعامنا تسرح وتمرح بها وتدر علينا بحليبها الكثير.. والله، كانت تلك أيام الحليب واللبن بحق. تصور..! لم نكن ندري ما نعمل بالحليب واللبن لكثرته. كان الأولاد يشربون منه كثيرا.. ونطبخ منه كثيرا، ونصنع اللبن والزبدة والجبن بكثرة، ونبيع الباقي في المدينة... واليوم يا خواجة، تحمل أم محمود الطنجرة وتدور في القرية من حارة إلى حارة، ومن شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، كي تشتري لنا رطل لبن لنأكله مع صحن مجدرة.. أين ذهبت الأبقار والأغنام؟!
جاء موظفو دائرة الأحراش، وبأمر من المحكمة استولوا على التلال، وغرسوها بفسائل السرو والصنوبر، ومنعوا أنعامنا من دخولها، وإذا دخل رأس بقر تلك المنطقة سجلوا اسم صاحبه ودعوه إلى المحكمة ليدفع عشرين، خمسين، سبعين ليرة! أنتم أقوياء يا خواجة.. لقد جعلتمونا نبيع أنعامنا لأن الدنيا ضاقت بوجهنا.. والله يا خواجة، هذه البلدة الصغيرة كانت تملك مئات الأبقار، ومئات الأغنام، ومئات الماعز؛ وكان العجّال إذا وصل إلى التلة يحول لونها أسود.. واليوم نبحث عن صحن اللبن ولا نجده. ونشتري الجبن من المدينة.. إيه.. دنيا!!
(جسر على النهر الحزين ، ص ص 53 – 56)
-2-
عائد الميعاري ولد عاقل يجري وراء لقمة العيش ويتجنب الصدام مع جندرمة "الحكم الشرعي" فلم تعرف قدماه إلا أزقة تل الزعتر؛ فعرفه الناس وعرفهم حتى صار جزءا من حياتهم اليومية.. في الساعة السابعة يمر بزقاق رقم خمسة..وفي الثامنة في زقاق رقم تسعة..وهلم جرا.
وعائد الميعاري يعرف أسماء زبائنه ويعرف أسماء مدنهم وقراهم فينسبهم إليها.. ويعرف نباتات وفواكه أرضهم ليداعبهم بأسمائها.. فهو يرسم كل يوم خارطة فلسطين في تجواله.. فعندما يمر أمام حانوت سامي طاهر يصرخ "يافاوي يا برتقال! ليمونك يا يافا أطيب من الكنافة! مناقيش بزعتر فطور العافية ياعم سامي!"، وحين يقترب من منجرة حسن سليمان يقول" يا عيني ع الملوخية، أكل الملوك يا ملوخية، مع حمام يا ملوخية، مناقيش بزعتر فطور العافية يا عم حسن!" فإذا وصل آخر الزقاق ورأى حسن الأمارة مشغولا بتصليح الحذاء صاح " من كفر كنا يا رمان.. مناقيش بزعتر فطور العافية صحة للنظر!" فينادي حسن الأمارة " ياعائد، يا ميعاري، يا بو الزعتر تعال!"
(عائد الميعاري يبيع المناقيش في تل الزعتر، ص 10)
-3-
حين دعته إلى زيارة النادي في مستوطنة "ياعد" [أجاب بقوله:]
_ سوف آتي إلى "ياعد" عن رغبة شديدة وشوق عارم.. سوف آتي على بساط الريح!!
- يا الله.. ولماذا؟
- لقد ولدت هناك يا سيدتي.. إنك تعيدينني إلى موطئ رأسي!!
- وهل ولدت في " ياعد "؟
- أبدا يا سيدتي. أنا ولدت في قرية ميعار التي أقمتم على أنقاض بيوتها مستوطنة " ياعد". هناك ولدت.. وهناك كانت ملاعب طفولتي التي اغتالوها!!
- وما زلت تذكرها ؟
- هل تعرفين " البير الشرقي" ؟ هل ذقت ماءه الزلال ؟ وهل تعرفين "التينة الخضارية"؟ هل طعمت ثمراتها التي أحلى من العسل ؟ هل وقفت على ضفة "البركة" ونظرت إلى الجبال جنوبا ؟ هل مشيت على تراب وصخور "التركيب، وشاهدت الساحل الممتد من الناقورة إلى رأس الكرمل؟ وهل نزلت بين الأشجار والاعشاب والصبار إلى "الخرتمانية" وسمعت غناء العصافير ؟
- مهلا.. مهلا.. ما عدت أفهمك
- هل أنت ميعارية يا عليزا ؟
-. طبعا
هل تميزين بين طعم الزعتر الذي ينبت في " دب الربيع " وبين الزعتر الذي ينبت في "مراح الغزلان" ام الذي ينبت في "الصور"؟
- طبعا لا .
- إذن أنت لا تعرفين ميعار، ولا ترابها، ولا ماءها، ولا هواءها، ولا نباتها ، ولا خفة دم أهلها ؟
- ويلاه. أخاف إن جئت إلى هنا.
- ومم تخافين ؟
- أخاف أن تأخذ بيتي.
(بالعربي الفصيح ، ص ص 108 ، 109)
-4-
في طفولتنا ، وفي طفولة آبائنا، وفي طفولة أجدادنا – رحمهم الله – اعتاد أبناء هذا الوطن أن يغنوا للمطر وللشتاء وللغيوم؛ ولا عجب إذا اعتبروا المطر رحمة، ورأوا في الغيث الغزير خيرا وبركة...وكبرنا وعشنا وشفنا!!
جفت الينابيع، وغارت العيون، فضاع الصفاء، وشح الماء، صرنا نشرب الماء الممزوج بالكلورحينا، وبمياه المجاري أحيانا.. وتحملنا!!
وصارت شركة " مكوروت " تسقينا أحيانا وتقطع عنا الماء حينا.. وتحملنا!!
وفي الصيف الأخير اكتشف جهابذة العلماء في بلادنا أن المياه الجوفية قد ضاعت [ من؟] أيدي "مكوروت"..وأن بحيرة طبريا وصلت إلى الخط الأحمر..وأن الملوحة ازدادت في المياه الجوفية..وأن..وأن..وطلعت سلطة المياه ووزارة الزراعة والحكومة والصحافة و..و.." أنقذونا..أنقذونا.. لا تبذروا! وفروا كل نقطة!! لا تسقوا الأزهار.. بل دعوها تذبل!! لا تغسلوا سياراتكم!
لا تستحموا يوميا! لا تشربوا حتى الارتواء..بل خلوها بلّة ريق!!
(بالعربي الفصيح، ص ص 127-128)
-5-
للذين سلبوا دم الحياة من شجيرات الزيتون الخضراء الطرية مثل وجنات الاطفال، والتي تسبح الرب وتصلي على الأنبياء في المساجد والكنائس والخلوات والبيع والمعابد والمزارات، الذين سلبوا ومصوا دم الحياة من نصبات الزيتون بلا ذنب.. عفوا.. شجيرات لها ذنب وألف ذنب.
ذنب شجيرات الزيتون أنها تعدنا بالزيت.
ذنب شجيرات الزيتون أنها تعدنا بالحب وبالسلم وبالأمن وبالظل وبالنسيم العليل.
ذنب شجيرات الزيتون أنها تهلّل بالعربية للأطفال، وتزف العرسان بلغة الضاد ..
لهؤلاء القتلة أقول: الزيت في حب الزيتون، في المعاصر، في ألياف البد، في الخوابي، سيطاردكم أبد الدهر، أبد الدهر.. يا أبناء الموت، ورفاق الموت، وسدنة الموت، وخدم الموت.
(الباقون بيننا ، ص 41)
-6-
(النخلة مبروكة)
ماذا بقي من الوطن ؟
أين عصافير الدوري التي كانت تفد حولي في ساحة البيت؟
أين ساحة البيت ؟
أين البيت ؟
ويحدق بعينيه المتعبتين..
ويجد مبروكة
الشاهد الوحيد.. لا شيء سواها ؟
يعرفها. يسير إليها. يمشي. بهرول. يقفز. يعدو.
وأخير أعدو إليك يا مبروكة. يا عشيرة الطفولة. يا وفية. يا من حافظت على العهد!!
أتذكرينني؟ أتذكرين أترابي وإخوتي ونحن ندور حولك نرقص ونغني. نلهو. نرتمي على جذعك.
محدقا في جذعها العتيق باحثا عن بصمات أصابعه، آثار قدميه الصغيرتين حينما كان يتسلق عليها...
وفيما هو يبحث تنبه إلى أن جذع النخلة مائل. مائل كثيرا. مبروكة منحينة.
مبروكة مائلة.
وتراجع خطوات...
ما الذي حنى جذعك الباسق؟
الحنين ؟
الغربة ؟
الزمان ؟
ما الذي حناك ؟
هل انحنيت لتصمدي أمام الريح ؟ أم انحنيت لتشمي رائحة الأهل في الأرض ؟
(النخلة المائلة ، ص ص 12 - 14)
-7-
لماذا جئت ( من الوطن ) تحمل قلما وأوراقا وخطابا ؟
لو جئت يا محترم تحمل حفنة تراب من هناك من حقل الزيتون الواقع على محاذاة شارع الناصرة – طبريا، أو من الحاكورة الواقعة أمام البناية القديمة ؟ أو لو جئت تحمل زجاجة زيت زيتون.. من الرامة؟ لا. من المغار ؟ لا. من نابلس ؟ لا. من بيرزيت ؟ لا. من كرم زيتوننا الذي أقسم لي صديقي الطلياني إنه ما زال مغروسا وأخضر. لو جئت تحمل مرتبان زيتون أخضر أو زيتون أسود مع فيجن من هناك، او طبخة عكوب أو شوية زعتر من أرضنا، او ضمة بابونج من حاكورتنا.. لكان أفضل من ورقك وخطابك الناري.. متأسف خطابك الهادىء العلماني!
(النخلة المائلة، ص 20)
-8-
يبدو أني ولدت من شجرة.. من برعم من براعمها، أو من ثمرة من ثمارها، أو خرجت من جذعها، كما ولد إله الحب والجمال في مروج تلك البلدة التي ولدت فيها أمي.
فكرت ذات مرة أن أنتسب إلى تغلب أو إلى غسان، كما تزعم كثير من عائلات هذه البلاد، وكما راودني الوسواس الخناس؛ ولكنني تراجعت، فأنا لست زيادا.. وأمي معاذ الله أن تكون سمية. ولا أطماع لي في ولاية الكوفة أو البصرة أو صفد. ورضيت بنسبي الشجري، فالشجرة كريمة معطاءة لا تنافق ولا تنآمر ولا تخون.
أنا انتسب إلى شجرة السنديان القوية المعمرة دائمة الخضرة التي تتمتع بقوة الصمود والبقاء حتى لو قطع الفلاحون او الجنود جذعها أو حرقوها، فإنها تخرج براعم جديدة من جذورها المتمسكة بالأرض أومن جذعها القوي، وتعود شجرة جديدة شابة، وبفضل هذا النسب البلوطي، حافظنا على بقائنا في هذه الدنيا القاسية الفانية.
(سيرة بني بلوط ، ص ص 25 ، 36)
-9-
لما طرد الله تعالى جدنا آدم وجدتنا حواء من الجنة، تناول آدم قبضة تراب منها، وحملها معه؛ وفيما هو يهبط على الأرض نثرها عليها، فكان للجليل الحظ الأوفر والأكثر منها.
هذه البقعة الجميلة القدسية لن نسمح للإنكليز أن يدنسوها بإقامة معسكر لجنودهم فيها، ولن نجعلهم يتمتعون بمناخها اللطيف الناعم مثل خدود القرصعنّة، ولا بشمسها الدافئة مثل حنان الأم وحبها. لن يهنأوا بربيع الوطن..هذه الأشجار وهذا السريس والبطم والخروب والقندول تعرف أنفاسنا ورائحة أجسادنا، وهي تبادلنا الحب، وتزهر عندما نأخذ قيلولة في أحضانها؛ وتكره رائحة الأجنبي كما تكره الخيول الماء الترب مهما صفرت للفرس فلن تشربه، بل لن تطعمه.
عندما كنت عائدا أمس من مقابلة الشيخ، وفيما أنا أقطع الدرب من هضبة إلى واد وأشاهد النباتات والأشجار والأزهار، خطر لي سؤال بسيط يحمل معاني عميقة: لو قابلنا راعيا أو حراثا أو فلاحا من كفر الزعتر وسألناه عن أية نبتة أو عشبة أو زهرة أو شجرة لأجابنا بدون تردد في أية قطعة أرض تنمو.
اللسينة والدريهمة في وادي بلان، والشومر والخردلة والكتيلة وقرن الغزال في مراح الغزلان، وصابون الراعي وعين الجمل والبابونج والخرفيش والقريص وإبرة العجوز في خلة العبهر، والخبيزة والمرار في " صيرة " العجّال، والعلت في أم السحالي.
هل يفهم الإنكليز ماذا يعني هذا الامر؟ وماذا يقول لهم؟
لو كانوا يفهمون ذلك ويدركون معناه، ما أقاموا معسكرا لجنودهم في أراضي الملّ التي تحتضنها جبال الجليل كما يحتضن العاشق محبوبته.
(سيرة بني بلوط، ص ص 103،104)
-10-
وصلت إلى كرم التين بعد صلاة العشاء، وجلست عند جذع التينة الخرتمانية، تلك التينة الكبيرة التي هرمت قبل سنوات، وتهاوت جذوعها ميتة، ونبت حول الجذع الأم عدة تينات شابة شكلت دغلا من أشجار التين.
نحن شعب لا يموت.
ارتباطنا بالأرض قدرنا.
كلما اعتقدوا أننا انتهينا، تنبت شجيرات جديدة تنمو وتكبر وتثمر.
(سيرة بني بلوط، ص188).