خاص بآفاق البيئة والتنمية
الدكتور مصطفى جرار (يسار) مع الدكتور محمد قروق في جامعة الحسن الثاني بالمغرب
أبصر د. مصطفى راشد جرّار النور نهاية ربيع 1976 في قرية الهاشمية بمحافظة جنين، وتنقل بين مدارس قريته وبلدة برقين المجاورة. في طفولته كان يراقب محيطه، ويدوّن في ذاكرته تفاصيل الحياة اليومية دون أي تدخل بشري في الجوار، وراح يراقب عناصر المناخ قبل أن يُكمل الثانوية العامة، بطريقة أولية، ويتذكر التغيّرات المتلاحقة التي تسلّلت إلى سلوك الناس.
كان مصطفى يتابع أستاذه في المرحلة الثانوية غازي الأقحش، حين يسرد عناصر المناخ، والأقاليم، ويرسم خارطة العالم العربي، ويشرح عن الصحاري الجافة، فيما لا زال يتذكر عناوين فرعية لكتب الجغرافية الطبيعية، ولا ينسى ما يسرده المعلم الذي رحل قبل سنوات، حول الأقاليم الاستوائية، وسبّب سرعة نمو محاصيلها؛ بفعل الماء والحرارة والأمطار الموسمية.
حظي مصطفى على المكان الثاني في صفه، واجتاز الثانوية العامة، التي تغير موعد تقديمها حتى الأيام الأخيرة من تموز 1994، ولم تظهر نتائجها إلا في العاشر من آب، وحينها فرح كثيرًا بمعدله المرتفع في الجغرافيا، ونسي معه الجهد الكبير في استخدام الدراجة الهوائية من قريته إلى مدرسته في البلدة المجاورة.
وقال: لم تكن أجهزة التكييف، أو حتى المراوح شائعة، لكنها اليوم بدأت تنتعش بارتفاع درجات الحرارة الكبيرة، فيما بدأت تهديدات عديدة تعصف بعناصر البيئة الحيوية كانقراض بعض الطيور والحيوانات والنباتات، فأسراب الحجل لم تعد تسرح وتمرح في جبل "الشيخ شبل" الأعلى في القرية، وصارت الحيوانات تتعرض للصيد الجائر. وكنا نسمع عن إمكانية ذوبان المناطق القطبية، ونتعامل مع الأمر باستخفاف.
ثلوج غائبة
وأضاف: آخر مرة شاهدت الثلوج في قريتي كانت في عام 1992، واليوم مر ربع قرن دون أن يطرق الثلج بابنا مرة أخرى، وحين حط الزائر الأبيض بسخاء على جبالنا المتدنية عامي 1920 و1950 كنا في علم الغيب. وبدأتُ بعد الماجستير في التعمق بالجغرافيا الطبيعية، وفي 2010 كتبت بحثَا عن ثقب الأوزون وبعدها قررت التخصص في المناخ، ثم تواصلت مع الدكتور محمد سعيد قروق (عضو مقرر في مؤتمر الأرض، ومن علماء المناخ المعروفين عالميًا)، الذي أشرف على أطروحتي في الدكتوراه، في جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء المغربية. يومها قدمت له خطة عن العلاقة بين مستويات الأوزون والتغيرات المناخية في فلسطين، لكنه اقترح التعديل، وانتقلتُ لملاحقة التغيرات المناخية والأمن البيئي في الضفة الغربية.
طرح جرّار حلولًا متعلقة بالتغير المناخي، كاستغلال الوفرة في المياه لأوقات الندرة، مثل القيام بمشاريع مائية أو على المستوى العملي للسكان الاعتماد على الحصاد المائي، وزيادة مساحة المناطق الخضراء، والتقليل من غازات الانبعاث الحراري، وسن القوانين المتعلقة بذلك، وتوعية السكان بمخاطر التغير المناخي ومواجهتها وكيفية التأقلم والتكيف معها.
تحليل وبحث
وكتب في مقدمة كتابه "مناخ فلسطين"، الصادر عن دار الشروق، قبل أسابيع: "نظرًا لقلة الأبحاث والدراسات والمراجع عن المناخ في فلسطين، الأمر الذي استدعى الباحث إلى كتابة هذا الكتاب، على شكل دراسة نظرية تحليلية عامة لجغرافية المناخ وعناصره في فلسطين كاملة، لكي يصبح مرجعًا مناخيًا أساسيًا يستفيد منه الطلبة، والباحثون، ومن يشتغل في حقل المناخ، أو في الحقول الأخرى، التي تعتمد بشكل مباشر أو ثانوي على المناخ".
وتابع: علم المناخ من العلوم الطبيعية الأساسية الهامة، التي تتناول الغلاف الجوي للأرض، وكل ما يتعلق بالغلاف الجوي من حيث: مكوناته، طبقاته، خصائصه، وحركة دورانه، ولكن هذا الأمر من الناحية العامة، أما من الناحية التفصيلية فعلم المناخ يدرس متوسطات حالة عناصر الطقس المختلفة لإقليم جغرافي معين خلال دورة زمنية لا تقل عن 30 سنة تقريبًا، والمناخ يعد كغيره من العلوم التي تطورت عبر الزمن واهتم بها الإنسان منذ القدم حتى الآن، وذلك بسبب التأثير المباشر للمناخ على فسيولوجية الإنسان وكل الأنشطة التي يقوم بها.
وأضاف جرّار: رغم التطور والتقدم التي وصلت إليه الحضارة البشرية، ومدى تكيفها مع البيئة الطبيعية، إلا أن تأثير المناخ بقي يلعب دورًا هامًا في حياة السكان، فنجد الإنسان سواء كان مزارعاً أو موظفاً يهتم بالنشرة الجوية اليومية من أجل ممارسة نشاطه اليومي، ويصل تأثير المناخ إلى أبعد من ذلك، أي على حركة النقل الجوي والبري والمائي، وكذلك على الأنشطة العسكرية، إلى غير ذلك من الأنشطة البشرية.
|
الدكتور مصطفى جرار |
بانوراما جغرافية
ووالى: جاء الكتاب كدراسة جغرافية شاملة عن مناخ فلسطين، لإعطاء صورة شاملة عن الخصائص المكانية والزمنية لعناصر المناخ في فلسطين التاريخية، وقد قُسّم إلى أربعة فصول، تناول الأول: العوامل الطبيعية المؤثرة في مناخ فلسطين، وتتمثل في الموقع الجغرافي والفلكي، المسطحات المائية، التضاريس، الغطاء النباتي والتربة، وهي تعد عوامل أرضية ثابتة تؤثر على النظام المناخي في فلسطين، ولكن درجة تأثيرها تختلف من عامل لآخر ومن مكان لآخر، فنجد تأثير الموقع الفلكي والمسطحات المائية يفوق بكثير تأثير كل من الغطاء النباتي والتربة. وتضمن الفصل الثاني: العوامل المناخية (الديناميكية) والتي تتمثل في توزيع الضغط الجوي والرياح، الكتل الهوائية والجبهات، المنخفضات الجوية، حالات الطقس في طبقات الجو العليا والتيارات النفاثة، كل ذلك للتعرف على المحددات الرئيسية والثانوية التي لها دور مباشر أو غير مباشر في النظام المناخي لفلسطين خاصة ومناخ شرقي البحر المتوسط عامة. أما الفصل الثالث فاهتم بعناصر المناخ الإشعاعية والحرارية والضغط الجوي والرياح في فلسطين، من خلال دراسة متوسطات تلك العناصر والعوامل المؤثرة فيها، من أجل إعطاء صورة جغرافية شاملة عن التوزيع المكاني والزمني لهذه العناصر، ولتحديد نظامها المناخي السائد حسب المناطق الجغرافية في فلسطين. وتتبع الفصل الرابع: عناصر المناخ الرطبة في فلسطين، والتي تشمل التساقطات المطرية، وحرارة نقطة الندى، والرطوبة النسبية، والتبخر، والضباب والعواصف الرعدية، لكي يكون لدينا معطيات أكثر شمولية عن عناصر المناخ السائدة في فلسطين، وكذلك التعرف على مدى التباينات المناخية المحلية للعناصر المناخية المدروسة على المستويين المكاني والزماني.
وتحدث جرار في كتابه عن فلسطين بتفاصيلها الجغرافية: التضاريس، والأقاليم، والمسطحات المائية، والغطاء النباتي، والتربة، والرياح، والكتل الهوائية، والجبهات، والمنخفضات، والإشعاع الشمسي، والحرارة، والأمطار، والتبخر، والضباب، والندى.
شغف ومقالات
نال جّرار دكتوراه الجغرافيا الطبيعية، من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء عام 2016، وفي 2004 حصل على ماجستير هندسة التخطيط الحضري والإقليمي من جامعة النجاح الوطنية، وقبلها بأربع سنوات نال بكالوريوس الجغرافيا من الجامعة نفسها.
والتحق بدورات تطبيقية في نظم المعلومات الجغرافية، والاستشعار عن بعد، ويعمل اليوم معلمًا في المرحلة الثانوية لمادة الجغرافيا، وعمل أستاذًا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة.
وزاد: نشرت مقالات عديدة، منها مؤشرات التغيرات المناخية والسيناريوهات المستقبلية في فلسطين: في مجلة الأستاذ التي تصدر عن كلية تربية ابن الرشد بجامعة بغداد، وكتبت عن بعض الأسباب البيئية للتغيرات المناخية في فلسطين: في كتاب أعمال المؤتمر السنوي الدولي لمعهد البحوث والدراسات الإفريقية، بجامعة القاهرة، وعالجت تغير الأمطار في الضفة الغربية – فلسطين، في مجلة كلية التربية الأساسية للعلوم التربوية والإنسانية بجامعة بابل، ولاحقت أثر التغيرات المناخية على الموارد المائية في الضفة الغربية، في كتاب أعمال المؤتمر الدولي الأول حول تغير المناخ برام الله، وشاركت بأوراق جغرافية في مؤتمرات محلية عالجت: تغير الأوزون الكلي فوق بعض مدن الضفة الغربية عام 2009، والخصائص المناخية العامة لمدينة أريحا، والآثار المحتملة للتغيرات المناخية على القارة الإفريقية، والتغيرات المناخية وأثرها على التربة في الضفة الغربية، واستخدام طريقة الترابط بعيدة المدى في دراسة التغيرات المناخية – مع التطبيق على مناخ فلسطين.
أمن "أخضر"
ركّز جرّار في أطروحة الدكتوراه على إستراتيجية الأمن الغذائي، والأمن المائي، والمحافظة على البيئة والتكيف والتأقلم مع التغيرات المناخية، والاهتمام بأمن الطاقة المتجددة.
وأوصى بتوفير بيانات مناخية، كاملة وشاملة ومتواصلة زمنيًا عن كل عناصر المناخ، وإعطاء صورة أكثر دقة عن طبيعة التغيرات المناخية في الضفة الغربية، وإنشاء مراكز أبحاث مناخية متخصصة بهدف إنجاز أبحاث هامة من شأنها أن تخدم أصحاب القرار، ونشر التوعية الشاملة بين المواطنين حول التغيرات المناخية، والبحث عن حلول مستعجلة وطارئة لتوفير المياه عن طريق إقامة المشاريع المائية الإستراتيجية، كالسدود والخزانات العملاقة، ومعالجة المياه العادمة بدرجة عالية من الجودة لاستغلالها في ري المزروعات.
ينهي: من المهم ترشيد وتقنين استهلاك المياه، وإجراء فحوصات شاملة للتربة ( مكانيًا وزمنيًا) لاستمرار تتبع مدى تأثير التغيرات المناخية على خصائص التربة باستمرار، وملاحقة المصانع التي ينجم عن مخلفاتها غازات الاحتباس الحراري، وإنشاء المحميات الطبيعية للحفاظ على التنوع البيولوجي للنباتات الطبيعية والحيوانات البرية، وتنفيذ مشاريع زراعية كبيرة للمحاصيل الإستراتيجية، كالقمح والمنتجات الحيوانية بالاعتماد على المياه العادمة المعالجة لتحقيق الأمن الغذائي، وتدشين محطات لتوليد الطاقة النظيفة والمتجددة، وبناء الخطط العمرانية بالاعتماد على اعتبارات التغيّرات المناخية لدرجات الحرارة وكميات الأمطار.
aabdkh@yahoo.com