خاص بآفاق البيئة والتنمية
من قال أن إعادة التدوير والريسايكلينغ فكرة مستوردة، فقد أخطأ، وحده التأمل في مطابخ جدّاتنا يؤكد أن الحاجة أم الاختراع، فالمرأة الفلسطينية التي كانت تُدرك اهمية روث الحيونات في حديقة منزلها او في الحظيرة القريبة لتستفيد منه في صناعة الخبز، ليس صعباً عليها ان تستغل حبّة البطيخ حتى آخر رمق فتصنع منها المخلل او حتى أن تستفيد من قشر البيض في مُعالجة دجاجاتها او إصلاح تربة منزلها، وبالتأكيد لن يصعب عليها أن تجعل من الجريدة الأسبوعية غطاءً لسفرتها قبل أن تستقر في مثواها الأخير، في القمامة، في هذا التقرير نستعرض هذه النماذج التي تؤكد أن هناك حقاً ثقافة إعادة تدوير (Recycling) شعبية فلسطينية!
هندسة بالفطرة .. !
مع أن الفلاح الفلسطيني لم يكن خبيراً بالكيمياء، ولا بأبحاث الهندسة البيئية والكيميائية التي تبحث اليوم كيفية إنتاج الغاز الحيوي من النفايات العضوية، مثل روث البقر والغنم، إلا أننا لو تحدثنا مع أي عجوز عاشت في أيام لم يكن بالقرية أيّة مخبز لوجدنا تطبيقاً علمياً، حيث كان لكل عائلة مخبز خاص، يُسمى طابون، وكانت المرأة هي التي تخبز وهي المسؤولة عن "الطاقة" وفي كثير من الأحيان عن البناء والصيانة.
ومن أعجب ما يتداوله الناس في موضوع تأمين الوقود للطابون، أن بعض النساء كانت تتحرى مكان وجود ”العجّال” وهو الشخص الذي يأخذ أبقار القرية إلى المرعى، لتبحث عن"الطلع" وهو روث البقر، لدرجة أن بعضهن كُن يتسابقن إليه بل ويتشاجرن عليه، ولا يرتاح بال الواحدة منهن حتى تجمع فيه ما يملأ ”اللجن” وهو مثل السطل، تحمله على رأسها وتعود به إلى بيتها لتضعه في"المزبل" حيث يحفظ ليُستخدم لاحقاً في إيقاد الطابون.
لا شيء يُمكن أن يجعلنا نفهم سر التسابق والتشاجر على”روث البقر” إلا إذا علمنا انه كان أرخص وأسهل مصدر للطاقة، فالعُلماء اليوم يتسارعون ويتسابقون في مجال إنتاج الميثان والغاز الحيوي من روث البقر، حتى باتوا اليوم في المانيا مثلاً يبحثون في طريقة لبناء مصانع غاز على طراز "أمعاء البقر"، وبلا شك فسباق العلماء في مجال الطاقة لا يساوي شيئاً امام صراع الرأسماليين وشنّهم الحروب من أجل النفط.
مخلل البطيخ
مُخلل البطيخ
في بلاد مثل بلادنا، يكاد يستحيل أن تدخل بيتاً في الصيف دُون ان تجد البطيخ، فمع البطيخ يحلو السهر والتفنن، فالبعض لا يكتفي بمجرد تقطيع البطيخ إلى”حُزَم"، فنجد هذه تجعل من البطيخة سلّة مميزة تُبهر بها الضيوف وأخرى لا تقدمه إلا مع شيء من الجبن، وأحياناً على شكل بيتزا، هذه الفنون لم تكن دارجة في حسابات جدّاتنا، فبينما تنتهي دورة حياة البطيخة عندنا مع آخر لقمة حمراء لذيذة فيها، كُنّ (أي جداتنا) يُفكرن في كيفية إطالة دورة حياتها لأنها "نعمة"، وبحسب عُلماء الهندسة البيئية، تعتبر إطالة عُمر حياة أي منتوج من اهم العناصر في تحصيل اكبر كفاءة من المواد الطبيعة بدلاً من إهدار المواد بسرعة، لتستقر في القمامة.
كيف ذلك؟ ببساطة عندما ننتهي من تناول الجزء الأحمر، وقبل ان نُفكر بإلقاء البطيخة في سلّة القُمامة لتزيد "مزابلنا"عبئاً وتلوثاً، كانت الواحدة من جدّاتنا تأخذ هذا البياض وتصنع منه مخللاً، وبحسب الحاجة سليمة من قرية كفر برا، فإن الامر في غاية البساطة، نأخذ ما تبقى بعد الأكل ونُزيل منه كُل ما هو أحمر حتى يبقى الجزء الأبيض، وكذلك نُزيل منه القشرة الخارجية لنحصل على لب أبيض يشبه الفقوس او الخيار من الداخل، ثم نقطعه على شكل شرائح صغيرة - بحسب حاجتنا – ثم نُضيف إليه شيئاً من الملح والخل، ونضعه في علبة للتخليل ونتركه بضعة أيام حتى ينضج.
المثير في الموضوع، ما يذكره المهندس محمد الكيلاني في مقالة حول اهمية قشر البطيخ وهو أن "البطيخ يحتوي على مادة تسمى سترولين citrulline والتي تتحول بدورها عند الهضم إلى مادة أخرى تسمى ارجينين Arginine والتى تساعد على إسترخاء الاوعية الدموية وتعالج إرتفاع ضغط الدم، بل إن الامر يتعدى ذلك فهذا التأثير هو نفس تأثير حبوب أو أقراص الفياجرا الشهيرة لمعالجة الضعف الجنسي لدى الرجال. ويكمل: "والمدهش حقا في الامر أن تركيز مادة السترولين هذه موجودة بالقشرة البيضاء التي تقع تحت اللب الأحمر".
إعادة استعمال مخلفات الصحف الورقية
جريدتك .. مفرش سفرتك
كثيراً ما تأتي الصحيفة الأسبوعية إلى المنزل يوم الجمعة صباحاً فلا يأتي صباح السبت او الأحد على الأكثر حتى تستقر الصحيفة في سلّة القمامة، بل إن كثيراً من الصحف تصل القمامة دُون ان تصل بيت المواطن، وهذه كارثة بيئية حقيقية فالأوراق لا تصنع بكبسة زر او بوصفة سحرية، إنما تأتينا من الأشجار.
تؤكد دراسة امريكية أن عملية طباعة عدد يوم الأحد من جريدة النيويورك تايمز تستهلك وحدها 75 الف شجرة، ومن الجدير بالذكر أن إعادة تدوير طن واحد من الورق فقط، يحفظ 13 شجرة من القطع، وفوق هذا حوالي 2 ونصف طن من النفط، حوالي 4 آلاف كيلو وات ساعة من الكهرباء، وحوالي 30 ألف لتر ماء، إلا ان كُل هذا سيذهب هدراً عندما لا نُعيد تدوير الورق، فكيف كانت جدّاتنا تتعامل مع الموضوع ؟
ببساطة كانت تستخدم الصحف الأسبوعية كمفرش للسفرة عند الطعام، بدلاً من توسيخ الطاولة التي ستضطر إلى تنظيفها بعد الأكل او وضع مفرش"نيلون" احادي الإستعمال كما تفعل”بنات اليوم” والذي يُلقى مباشرة إلى القمامة بعد الأكل، ولعلنا لا نُلقي لهذه السلوكيات بالاً ولكن جدّاتنا توّفرن الكثير من المواد الخام في هكذا تصرفات، عندما تستغني عن ”مفرش احادي الإستعمال” مثلاً، وفوق كُل هذا فإنها تقوم بما يُسمى Downcycling لأنها تستخدم مُنتجاً لم يعد له حاجة، كمنتج آخر أقل قيمة وهو المفرش، وهذا بالتأكيد أفضل من إلقاء الصحيفة في القمامة بعد مُطالعتها.
استخدام قشر البيض لتحسين خواص التربية
قشر البيض
لعلّنا اليوم لا نفكّر مرتين ونحن نُلقي بقشر البيض في القمامة، مع أن جدّاتنا لم تكن يسألن نفسهن أصلاً إذا كن سيرميهن ام لا، لأن كل جدة كانت تستغلها من أجل صحة الدواجن التي كانت ترعى طيلة النهار في حديقة المنزل، حيث تنصح بتهشيم القشرة وإضافتها للأعلاف او حتى ببساطة نثرها على الارض مع الأعلاف كي يأكلها الدجاج، هذه العملية البسيطة تحمي الدجاج من هشاشة العظام وزيادة نسبة الكالسيوم من دون دفع تكاليف إضافية للبيطري او ما شابه.
ولكن هل يجب ان يكون عندنا دجاج كي نستفيد من قشر البيض؟ بالطبع لا، فالمعروف أن قشر البيض من المواد التي يمكن ان تتحلل بسرعة وبالتالي يمكن أن تتحول إلى سماد طبيعي من دون إستخدام برميل السماد التقليدي، فبمجرد تهشيم القشرة وإلقائها بالقرب من النباتات فإن التربة تستفيد من المعادن الموجودة في القشر، مثل الكالسيوم، وبالتالي تصبح الأرض اكثر خصوبةً.