خاص بآفاق البيئة والتنمية
يقاوم الخمسيني أحمد محمد أقحش زحف الكتل الأسمنتية على الأجزاء القليلة المتبقية من أراضي حي البساتين، وسط مدينة جنين. ويحرص على تقليد يومي منذ عام 1995 في العمل وزراعة الخضروات العضوية وتربية الماشية، فيما يحمل ذكريات جميلة عن أحوال المدينة الخضراء، قبل أن تتبدل ببنايات سكنية وطرق عريضة ومياه مفقودة.
يروي وهو منهمك في العمل: "بدأت في هذه الأرض حين تركت العمل في الخط الأخضر، وقد تواصلت مع مالكها هاني العبوشي لزراعتها مناصفة، فوافق على الفكرة، ومن يومها لا أفارق هذا المكان إلا للضرورة."
ويصف أقحش -الذي أبصر النور في حزيران 1965- الزحف الإسمنتي على أراضي جنين الخصبة بـ"الجراد الذي لا يُبقي ولا يذر"، فيما يقدم نقدًا لاذعًا لسياسات البلدية في التوسع داخل الأراضي الخصبة، وعدم التوجه نحو الجبال والأراضي الوعرة.
المزارع البلدي أحمد أقحش يقاوم وحيدا زحف الاسمنت وسط مدينة جنين
ذكريات خضراء
يستذكر والشمس الحارقة تغزو جبهته: " في طفولتي، كانت جنين جنة خضراء. وكنا نشاهد نبع عين نيني، وبقايا الطواحين، وبركة البساتين. وكنت أجمع ثمار العليق من جوانب البساتين، وخلال رمضان نحمل أباريق الفخار ونعود بالماء البارد من الينابيع، التي كانت قرب الجامع الصغير."
ووفق الأقحش، الذي يصف نفسه بـ"حارس ما تبقى من بساتين المدينة"، فإن استمرار الزحف الإسمنتي على الأراضي سيكون له ثمن باهظ في المستقبل غير البعيد، إذ "سنتحول لاستيراد الخضروات من الصين، وحينها سيرتفع ثمنها، وسنندم يوم لا ينفع الندم."
يرسم الراوي مقارنة بين ثمار ما يزرعه في الأرض المقابلة لمقر وزارة الزراعة، والمحاطة من كل الجهات بمبان ومتاجر، وبين ما هو معروض في الأسواق: "الرائحة الطبيعية للخس والخيار والنعناع والباذنجان تفوح في الأرض، والثمار لا تتلف حتى لو خزناها لأسبوعين، وكل شيء طبيعي في الصيف والشتاء من بصل، وفول، وملفوف، وخس، وبقدونس، وملوخية، وباذنجان، وذرة بيضاء، وحتى أشجار البرتقال القديمة في الأرض تعطي ثماراً مختلفة."
ويشعر أقحش بضيق الأسمنت، وبممارسات البلدية التي وسعت الطريق المجاور، وأتلفت السياج المعدني، وتماطل في إعادته لمحيط المزرعة، فيما يواجه دون كلل فضول الصبية الذين يقتحمون الأرض، ويعبثون بها. "يعكر ضجيج المدينة وأبواق السيارات صفو البستان الأخير الشاهد على أن "حي البساتين" كان في يوم من الأيام أرضًا خصبة تنتج خيرات طبيعية". يقول الأقطش.
يكمل:" يكفي فقط أن تجلس في البستان، وتشاهد الثمار الطبيعية، وتشم رائحة المحصول، وتأكل مما تزرع، وتستخدم الأسمدة البلدية، ولا تدخل إلى جسمك الكيماويات والسموم، ويختلط عرق جبينك بالأرض، وتتذكر إصرار مالكي الأرض على عدم تحويلها إلى أسمنت، بالرغم من الثمن المرتفع لها، وموقعها في قلب المدينة."
المزارع العضوي أحمد أقحش في مزرعته العضوية وسط مدينة جنين
أوجاع
ويسرد الراوي، الذي ورث مهنة الزراعة والارتباط بالأرض من والده وأجداده: "نعاني كثيرًا من العمارات والشوارع العريضة، ولا نتلقى مساعدات من أي جهة، ونستمع دائمًا إلى أن المساعدة لأراضي القرى وليس للمدينة، وأسعار الخضروات متدنية، وتكلفة استخراج المياه عالية، والبذور البلدية تكاد تنقرض، لولا احتفاظي ببعض الذرة البيضاء".
ويستخدم المزارع أقحش الزبل العربي، بعد تخميره، ولا يدخل الكيماويات لحقله، ويفيد بأن الحل للكثير من الآفات، يتمثل في زراعة كل محصول في وقته، ويستخدم مثلًا دارجًا " كل شيء بوقته حلو". ويعرض محاولاته لزراعة البصل والخس والسبانخ في الصيف دون كيماويات، التي لم تر النور، ويقول: "هذا دليل أن كل المنتجات التي نشاهدها في الأسواق، ونُدخلها إلى بيوتنا وأجسامنا مليئة بالكيماويات، التي لا نعرف أصلها وفصلها.
يضيف:" بالرغم من كل المعاناة هنا، وانتشار الأعشاب والآفات الكبير، وأضرار الطيور الجديدة كالبلبل الهندي على المحصول، إلا أنني أشعر بالسعادة في الأرض، وأدعو المسؤولين لوقف تدمير ما تبقى من مرج ابن عامر، والتفكير بمستقبل إطعام الأجيال القادمة مما نزرعه بأيدينا."
aabdkh@yahoo.com