خاص بآفاق البيئة والتنمية
صحيحٌ ان الواحدة من جدّاتنا لن تفهمنا لو حدّثناها عن ( الرسكلة ) او حتى إعادة التدوير فهذه كُلها مصطلحات دخيلة على قاموسنا العربي والفلسطيني، ولعلّها نفسها تجعل الفِكر البيئي في بلادنا مُنغلقاً على فئة خاصّة جداً من "الخُضر"، إلا أننا لو تأملنا حال جدّاتنا سنكتشف انهن أكثر صداقّة للبيئة في كثيرٍ من سلوكيّاتهن، فالنكبات التي عاشها المُجتمع الفلسطيني ودور المرأة في إدارة الشؤون المنزلية جعلها رائدة في ابتكار الحلول لاستغلال كُل ما بين ايديها لتحيا وعائلتها بكرامة، فنجدها تُحوّل الزيت المقلي إلى صابون للنظافة كما سنجدها تستغل القوارير البلاستيكية البالية في تزيين منزلها وفي وقاية اهلها من الأمراض، كما سنجد الرجل يُساعدها في إعادة إستخدام مياه الوضوء لري الحديقة.
صناعة الصابون
إستخدام زيوت القلي في صناعة الصابون
يعتبر الفلافل من الوجبات الأكثر إنتشاراً في فلسطين، ومعها يُباع شيءٌ من البطاطس، كما أن اهل الساحل الفلسطيني يعشقون وجبات الأسماك بأنواعها المُختلفة، وكُل هذه الوجبات اللذيذة تعتمد إعتماداً كُلياً على الزيت الذي يُستخدم بكميات هائلة جداً أثناء الطبخ على مستوى الوطن، وبينما تقوم الكثير من الدول الصناعية اليوم بالإستفادة منه في صناعة الوقود الحيوي، فإن الغالبية الساحقة في بلادنا لا يُبالون بهذا الكنز – للأسف -، حيث يتم التخلص منه بتصريفه إلى شبكة الصرف الصحي فيزيد تلوثها تلوثاً، بينما نجد أن اجدادنا في الماضي كانوا يستغلون هذا الكنز في صناعة الصابون البلدي.
في حديث مع أم مهدي من قضاء طولكرم اخبرتنا أنها لا تستغني عن أي قطرة زيت، حتى تلك التي تبقى بعد تناول صحن من الحُمص، بحيث يتم تجميعها كُلها مع قطرات أخرى وزيوت أخرى، فيتم إستخدامها في قلي البطاطس او غيره من الاطعمة للاستفادة منه في تصنيع الصابون المنزلي. وأضافت أن الامر ليس معقداً فكُل ما يحتاجه المرء هو شراء الصودا الكاوية من السوق وخلطه بالماء على درجة حرارة معتدلة ثم سكب الزيت على المزيج ثم تحريكها حتى تصبح مثل " الشامبو " وبعد ذلك تُسكب في قوالب، ثم تجفف حتى تُصبح جاهزة للإستخدام كما يُمكن ان يضاف على الخليط شيء من العطر كي يكتسب رائحة جميلة.
ومن الجدير بالذكر أن الناس في الماضي كانوا يقومون بإستغلال شحوم الحيوانات في صناعة الصابون وذلك في سبيل الإستفادة من كُل اجزاء الحيوان بعد ذبحه، كما أن جودة الصابون تختلف بإختلاف نوعية الشحوم، فالشحوم المأكولة تستخدم مثلاً في صناعة الصابون الفاخر. وتذكر بعض المصادر أن أول أنواع الصابون صُنعت من شحم الخنازير وكانت تسمى سابو.
وضوء
إعادة استخدام مياه الوضوء والاستحمام في ري الحدائق
لا تُعتبر فكرة إعادة استخدام المياه الرمادية جديدة على وطننا العربي والإسلامي، صحيح انها لم تكن منتشرة إلا ان اليمن شهدت استخداما مميزاً لمياه الوضوء منذ قرون طويلة، وذلك في ري الحدائق التراثية والتي تُعرف بالـ "مقاشم"، وهي حدائق تقع بالقرب من المساجد ويرعاها البستاني المسؤول عن تصريف مياه الوضوء إلى بركة، ومنها قنوات ري موصولة بالمقشمة التي كانت تُضفي شيئاً من الخضرة والجمال على محيط المسجد.
اليوم، توجد العديد من الأنظمة المتطورة لإعادة إستخدام المياه الرمادية والتي تشمل مياه الإستحمام والغسل وكذلك الوضوء، وبعيداً عن التعقيدات الهندسية التي يجب مراعاتها، نجد في فلسطين بعض العائلات التي تقوم بإستغلال هذه المياه في ري الحديقة، والأمر لا ينحصر على مياه الوضوء بل يشمل مياه الغسالة ومياه الإستحمام وكذلك الوضوء.
وفي حديث مع عادل عثمان من قرية كفربرا الذي يقوم بتطبيق الفكرة بنفسه منذ فترة، أخبرنا انه راض وفخور جداً بالنتائج، ويوضح كيف أن الحديقة اصبحت خضراء يانعة بعد تطبيق الفكرة بكل بساطة وذلك من خلال تحويل ماسورة مياه الإستحمام والمياه التي تستخدم في الغسالة وكذلك المياه التي تستخدم في الوضوء وغسل الوجه واليدين إلى برميل خاص تستقر فيه، قبل ان تكمل جريانها إلى المزروعات التي تُزين الحديقة والتي ازدادت بشكل كبير بعد بدء تطبيق الفكرة البسيطة.
ويُضيف، أنه لا يرى حالياً أي حاجة لإضافة فلتر للمياه، فلا توجد روائح كريهة للمياه التي يتم إعادة تدويرها، كما انه لم يُلاحظ أي إزدياد لنسبة الملوحة في التربة، كُل ما لاحظه ان النباتات تنمو بانتعاش وكما لم تفعل من قبل. ومن الجدير بالذكر في هذا المضمار، أن الكثير من الخُبراء ينصحون بضرورة وجود مرشح للمياه (فلتر) منعاً للروائح والضرر بخصوبة التربة، ويُعتبر نظام الاراضي الرطبة Constructed Wetland من أشهر الطرق المُتبعة في تنقية المياه الرمادية بواسطة خصائص التربة والكائنات الحية فيها وهو ما يُسمى احياناً بالفلترة البيولوجية.
إلا ان الكثير من الخبراء يفضلون عدم الاعتماد على هكذا نظام فقط، فقد قام خبراء من جامعة السلطان قابوس في عُمان بتطوير نظام لإعادة تدوير مياه الوضوء في المسجد، وقد تم تزويده بمرشح بسيط وذكي يعمل من خلال 3 مراحل، حيث يتم تصفية المواد الصلبة من المياه من خلال طبقة من الرمل، ثم يتم ازالة الروائح من خلال طبقة من الكربون المنشط، وأخيراً يتم إبادة الجراثيم بواسطة مضخة الكلور.
إعادة إستخدام المواد البلاستيكية البالية
تُعتبر النفايات البلاستيكية والمغلفات من أخطر النفايات المنزلية كونها لا تتحلل إلا بعد فترة طويلة من الزمن وبالتالي فقد تُعرض حياة الكثير من الكائنات الحية للخطر، الأكياس البلاستيكية التقليدية التي نستخدمها مثلاً، تحتاج إلى حوالي 400 عام حتى تتحلل وإلى ذلك الحين، يُمكن ان تستقر في اعماق البحار وتبتلعها الأسماك والحيتان ظنّاً منها انها فريسة سهلة وبذلك يكون هلاكها. في الدول المتقدمة تجري العديد من الدراسات والأبحاث للتغلب على هكذا مُعضلات تُهلك اكثر من 10 آلاف كائن حي بحري في العام ومن الإبتكارات التي تم طرحها من خلال شبكة آلدي التجارية في المانيا، انها ابتكرت اكياس خاصة يُمكن ان تُرمى مع النفايات العضوية وبالتالي فإنها عندما تستقر في (الكومبست)، فإن البكتيريا ستكون قادرة على تحليلها لتتحول لاحقاً إلى سماد تستفيد منه النباتات.
في البيت الفلسطيني، لو زرنا بيت أي عجوز في قرية فلسطينية سنجد براعة في إستخدام المواد البلاستيكية البالية والتي تندرج علمياً تحت بند الـ Reuse، وهي من أفضل الإستراتيجيات للتعامل مع النفايات في علم إدارة النفايات، حيث انها لا تتطلب جهوداً خاصّة، بل التعود على نمط حياة يجيد إمكانية الإستفادة من الأشياء بدلاً من رميها ببساطة، فمثلاً، في صناعة المخللات وبالأخص في صناعة الزيتون ( الرصيع ) يتم الإعتماد بشكل اساسي في الكثير من المنازل على القناني البلاستيكية بغض النظر عن بعض التحذيرات الصحية من الموضوع. كما أن هكذا قناني تستخدم في إضافة المزيد من الخضرة على البيت، وذلك عندما تستخدم كوعاء للتربة التي تستغل لزراعة النعنع او الورود والزهور التي تستخدم في تزيين المنزل.
اعادة استخدام النفايات البلاستيكية
القناني البلاستيكية
على صعيد آخر فهناك استخدامات أخرى لتلك القناني البلاستيكية يُمكن ان تصنف علمياً بالـ Upcycling وهي إعادة تدوير ولكن بحيث يصبح للنفايات وظيفة ارقى مما كانت عليه في السابق، وذلك عندما تستخدم هذه القناني في ري الحدائق بعد ان يقوم المواطن بحفر حفرة صغيرة على قدر حجم القنينة ويتم ثقب القنينة في اكثر من موضع وذلك كي يتم ري الشجرة على طريقة التنقيط وهي من انجع طرق الري وأكثرها توفيراً للمياه، وذلك دون الحاجة إلى انظمة محوسبة وأنابيب وغير ذلك من مواد مُكلفة.
وفي الصيف، تأتي أهمية تلك القناني في مُقاومة الناموس (الهسهس) وهي من أكثر الحشرات انتشارا كما أن لانتشارها مخاطر كثيرة قُد تساهم في نقل الكثير من الأمراض كالملاريا مثلاً، وفي الماضي حاول العُلماء مقاومة تلك الحشرات بالمواد الكيميائية إلا انهم اكتشفوا مدى خطورة تلك المواد على البيئة المحيطة كالطيور وغير ذلك، ولهذا تعتبر مصيدة الناموس المصنوعة من القناني البالية من اكثر الطرق نجاعة وبساطة في الحد من انتشار هذه الحشرات في الحدائق وساحات المنازل، وفوق كل هذا لا تُسبب أي ضرر على البيئة، بل بالعكس هي اكثر الطرق صداقة للبيئة.