إميل حبيبي
-1-
فوق صخرة في " وادي العشاق " في الكرمل دوّرتْ ( دوخت ) رأسه زغاريد جنيات، وحكايا شجر، وأغاني عيون ماء.
نطقت الطبيعة قبل أن ينطق ولدها ويكون تعلّم النطق منها، فرددنا ، كما صوت الطبيعة: " حفيف الشجر، وفحيح الافاعي، وهدير البحر، وهديل الحمام، وانسياب الماء وانصبابه، والعواء والعويل، والمواء والصهيل، والنعيق والنعيب، والنهيق والشهيق والزفير، والثغاء والوشوشة والحشرجة، والتأوه والأنين والحنين، والضوضاء والجلبة والبلبلة."
(خرافية سرايا بنت الغول، ص. 33 )
-2-
كانت [المدرسة] مسوّرة على ساحة داخلية فسيحة، قام في طرفها الغربي سبيل ماء متعدد الحنفيات. ولأمر ما تركت مفتوحة يسيل منها الماء ليل نهار، ولم نحاول إغلاقها، ولو حاولنا لما انغلقت، كأنه "مال دولة". وهو كذلك. وكان الطلاب المسلمون، من بيننا، يدّعون في رمضان أنهم يشربون ماء السبيل سهوا، وينحون باللائمة على الحنفيات التي لا تنغلق. ولم يطالبوا بحبس ماء الشرب عن المدرسة في رمضان، لأننا كنا مشغولين، في ذلك الزمان الواضح المعالم، بإطلاق سراح هذا المعلم [عارف حجازي] أو أخيه [فؤاد حجازي] من الحبس أو من حبل الإعدام. ترددت حتى الآن في البوح بهذه الذكرى خوفا من تنبه زملائي الأصوليين إلى استمرار هذا التسيب، فيفرضون على مدارس أحفادي وأولادهم شيوخا يقفون أمام الحنفيات يفحصون الهويات، مثلما فرض أبناء عمومتهم حاخاماتهم على مسالخنا التي نذبح فيها وننتف الدجاج، حذوك النعل بالنعل وبأثواب السترة وما إليها. وجدّنا واحد، وكلنا من آدم وحواء. واختلفنا ولم نتفق إلا عليها، حتى جاءت شركة "ميكوروت" للمياه فكفتنا مؤونة هذا القتال، فعطشتنا في شعبان وفي رمضان.
(خرافية سرايا بنت الغول، ص ص 67 ، 68)
-3-
كان، لمّا مشى في درب الآلام [ في حيفا]، أن جرُأ على الاقتراب من ذلك المعلم. أوقف سيارته في نهاية الشارع الذي كنا نسميه "شارع العشاق"، ولأمر ما سموه من بعدنا باسم "شديروت هتسفي" أي "جادة الظبي". وقد أقفر من أهله الظباء. وكان، في زمني، دربا ترابيا مستقيما، تحف به أشجار الصنوبر من جانبيه، في تناسق خص به الخالق سبحانه وتعالى دروب الفردوس. فجاء شعبه المختار، وردّ هذه الأمانة إليه عز وجل كاملة غير منقوصة، فلا تحفّ به الآن سوى السيارات الخصوصية واقفة على الجانبين الواحدة في قفا الأخرى لا تتحرك، كأنها مجتمعة في مقبرة أفيال تنتظر ساعة الحشر.
وفقت على صخرة من الصخور القريبة من موقع سيارتي، أطل على الوادي وعلى أطلالي، وأتشوف تلك الصخرة التي كان الماء يرشح من تحتها، وكانت طلوع البطمة والعناب والزعرور والشومر والنعناع وتفاح الجن تحرسها من وقع الأعين الغريبة.
قد لا تكون هذه الصخرة هي تلك الصخرة، ولم أكن أبحث عن ماء تحت صخرة، كي أهتدي إليها. فمنذ أن جفت عينا أم بديع من الدمع على فراق أصغر أبنائها الغائبين، فآثرت أن تلحق به إلى ديار الغربة قبل أن تحمل إلى ديار الآخرة، جفت عيون الكرمل مؤثرة الموت معه.
إنه لأمر مفزع أن تعيش وأن يموت الجبل.
(خرافية سرايا بنت الغول، ص ص. 86، 88)
-4-
"بل قل يا سيدي، إنها تنوي الخروج من هنا"... صاح الشرطي الإسرائيلي الواقف، مكتوف اليدين، على بوابة مندلباوم عندما أخبرته بأننا أتينا مع الوالدة التي "تنوي الدخول إلى هناك بعد أن أذن لها بذلك"، وأشرت إلى الجهة الأردنية من البوابة.
أطلق الشرطي كلمة "الخروج" من بين أسنانه في غنّة أراد لها أن يلقتني درسا، فالخروج، ويريد أن يقول : من الجنة، هو الأمر الجلل لا الدخول "إلى هناك". وعسكري الجمارك لم يشأ أن تفوتنا العبرة، فقال لنا، ونحن نتبادل قبلات الوداع مع الوالدة: "من يخرج من هنا لا يعد أبدا"!
وأحسب أن مثل هذه الأفكار كانت تلاحق الوالدة في أيامها الأخيرة بيننا. فحين اجتمع الأهل والاصحاب في بيتها عشية السفر إلى القدس، قالت: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بي أمام عيني". وفي الصباح عندما نزلنا منحدر الزقاق إلى السيارة، التفتت وراءها، ولوّحت بيدها لأشجار الزيتون ولشجرة المشمش الجافة ولعتبة الدار، وتساءلت: "عشرين سنة عشنا هنا، فكم من مرة طلعت هذا الزقاق ونزلته"!
...لقد بلغت الخامسة والسبعين من عمرها ولما تجرب ذلك الشعور الذي يقبض على حبّة الكبد فيفتتها، ذلك الشعور الذي يخلّف فراغا روحيا وانقباضا في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين، شعور الحنين إلى الوطن؛ ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة "الوطن"، لاختلط الأمر عليها... أهو البيت، إناء الغسيل وجرن الكبّة الذي ورثته عن أمها... أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة إلى بيت الزوجية واحدا وراء الآخر وتركوها لوحدها!
ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهما؛ ولكنها الآن وهي تشرف على "الأرض الحرام"، وتنتظر الإشارة لها بالتقدم خطوة إلى أمام، تلتفت إلى ابنتها وتقول : " نفسي في جلسة أخرى على تلك العتبة."
(سداسية الايام الستة ، ص ص 13-14)
-5-
ارتقت بنا السيارة، لأول مرة بعد حرب حزيران، في منعطفات طلعة اللبّن اللولبية، في الطريق من نابلس إلى رام الله.
فلتت مني شهقة حين عبرنا المنعطف الأول، وارتج لساني ومقود السيارة في يدي، وهتفت بزملائي الذين كانوا معي في السيارة: عشرين عاما وأنا أحلم بهذه المنعطفات اللولبية. هذه الطلعة لم تغب عن ذاكرتي يوما واحدا. إني أذكر كل منعطف فيها هي أربعة فعدوها. وهذه الجبال المشرئبة تحرس السهل الأخضر، هي عشرة فعدوها، وهذا الهواء النقي، هذا الأريج أعرفه، إني أستنشق رائحة رافقتني طول العمر. هذا المكان مكاني!...
بعد إلحاحي رضي زملائي بأن أوقف السيارة عند المنعطف الأخير، الرابع. ونزلوا معي لنستنشق ذلك الهواء، ونملأ عيوننا بمشهد الجبال والسهل المحروس، وأشجار اللوز تملأ السهل والجبل. أما كان أجدر بهم أن يسموها منعطفات اللوز؟ وكان شيء في داخلي يدعوني إلى السجود. وكان شيء في عيني يذوب دمعا، وشعرت شعوراً غريباً. وكأني أحيا مرة ثانية سني شبابي الماضية، في مراتع صباي، لا أراها فقط بل أحياها وأستنشق هواءها، وأحس بدماء الصبا، مع رائحة الطابون والقطين، تجري مشبوبة في عروقي.
(سداسية الأيام الستة، ص ص. 69 ، 70)
-6-
وذلك حين كانت سيارة البوليس تخرج بنا من مدينة العفولة المرجيّة على طريق بيسان متجهة نحو مقامي الجديد. وكانت نوافير الماء على الجانبين تنشر رذاذها المنعش على خضرة يانعة ونحن في أوج الصيف، فإذا بالرجل الكبير، وهو محشور معي إلى جنب السائق في عربة الكلاب، يصبح شاعرا.
وكان يقول، وأنا "أمشئل": الخضرة، الخضرة على يمينك وعلى يسارك وفي كل مكان. أحيينا الموات وأمتنا الحيّات (وكان يعني الافاعي ). ولذلك أطلقنا على حدود إسرائيل القديمة اسم "الخط الأخضر"، فما بعدها جبال جرداء وسهول صحراء وأرض قفراء تنادينا أن أقبلي يا جرارات المدنية !"
"ولوكنت معي، يا ولد، حين عبرنا طريق اللطرون نحو أورشليم لرأيت أمامك الخط الأخضر مرسوما بالفعل على الطبيعة نفسها بخضرة جبالنا المكسوة بأشجار الصنوبر، الشجرة تخاصر الشجرة، والغصن يصافح الغصن، وفي ظلها يتعانق المحبون، ثم كنت سترى، قبالة جبالنا المكسوة، جبالكم العارية حتى بلا أسمال تخفي عوراتها المكشوفة صخورا ظلت تبكي ربع قرن حتى سحّت عنها كل التربة. دعونا نكفكف دموع الصخر، وأما أنتم فلا تكفوا عن الاشتغال بدموعكم وأنتم تبنون القصور في أعالي الصخور."
[ قلت: ]
"ألهذا هدمتم قرى اللطرون، وعمواس، ويالو، وبيت نوبا، وشردتم أهاليها، يا معلمي الكبير؟"
(الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل، ص ص 164 ، 165)