التنوع النباتي الذي ميز أرض النجمة في بلدة برقين
خاص بآفاق البيئة والتنية
بدأت في سن مبكر بالانحياز للطبيعة، ورحت أميل إلى التواصل مع الأرض بأزهارها الملونة، وتنوعها الحيوي الفريد. كم كانت سعادتي وأنا أتنقل وحيدًا في أرضنا التي أطلقنا عليها النجمة، وهي المنطقة الواقعة بين بلدتي برقين والجارة مثلث الشهداء.
يومها، كانت خالية من أي إشارات للزحف العمراني الأسود، بل على النقيض من ذلك، كان يمكن مشاهدة العديد من أسراب الحجل، وابو زريق، والحمام البري، والشحرور، والسوّد، والأرانب البرية، ومخلوقات كثيرة كالنسناس والغريري، وما كنا نطلق عليه خطأ "القط البري". أما أزهار الأرض فقد كانت أكثر غزارة، وكنا نشاهدها كسجادة طبيعية تفيض بالجمال: الحنون، وقرن الغزال، واللوف، والأصيبعة، وتفاح المجانين، والعلك، والأقحوان، والعوينة، والزعتر، والزعتر الفارسي، والزعيت مانة، والسنارية، والجعدة، والعشرات من النباتات البرية المتسلقة، وأكثر ما كان يثير استغرابنا تلك النبتة التي تلتصق بملابسنا، فأسمينها "العربيشة".
أما أشجار اللوز فكانت تحيط بالنجمة من كل الجهات، وفي موسم إزهاره تتحول إلى أرض معطرة، وحين تهب رياح شباط التي تسبق المطر، كانت تتناثر وتستقر لتغطي الأرض الحمراء.
أحزان وصور
ولا أنسى كيف كنت أصاب بالحزن حين يبدأ والدي بحراثة الأرض قبل حلول الربيع، واكتمال سجادة الأزهار الملونة، فكنت أتمنى أن تبقى كما هي، بالرغم من أننا كنا نزرع المساحات السهلية بين الأشجار الصغيرة بالبطاطا الحلوة، والبصل، والبندورة، والبطيخ، والكوسا، والبامية، والفقوس، ودوار الشمس، وغيرها.
الشيء الوحيد الذي عوضني قليلاً اللجوء إلى توثيق المشاهد بالصور، فما زلت أذكر ربيع العام 1982، حينما كنت في الثامنة من العمر، حين استجمعت كل نقودي المتواضعة التي جاءت معظمها من مناسبة العيد، واتجهت إلى صاحب ستوديو للتصوير في المدينة المجاورة. كان المصور سمينا وبدت ملامح وجهه جادة جداً، بجوار النظارة السميكة التي كان يرتديها: "شو بدك يا ولد، صورة فورية...؟" هكذا قالها لحظة دخولي لمكتبه في طرف جنين الشمالي، فأسرعت: "لا يا عمو، بدي استأجر كاميرا وفيلم، علشان.."، رد بسرعة البرق، قبل أن أتمم الجملة: "لا نؤجر كاميرات لأطفال يا حبيبي.."، خرجت إلى شأني لأفتش في موقف السيارات عن أخي الكبير ليستأجر لي بدوره الكاميرا، ولأحقق رغبتي في تصوير مشاهد الطبيعة التي أحببتها، فموسم أزهار اللوز وشقائق النعمان والأرض الملونة فرصة نادرة لا تتكرر في العام إلا أسابيع وأياما معدودات.
عثرت أخيرًا على ضالتي، كان أخي عائداً من عمله، فاستغرب وجودي وطلبي، لكنه حقق لي رغبتي، وأستأجر لي آلة تصوير وفيلم "كوداك" الذي كان متوفراً آنذاك.
أسرعت إلى النجمة، وأفرغت بسرعة معظم رصيدي من الصور، فقد شفعت لي بعض مهاراتي التي اكتسبتها من أبناء الجيران الأكبر من اتمام المهمة بنجاح، ولم أبق غير ثلاث صور لعائلتي. أستغرب الجميع كل هذا الاهتمام بالطبيعة، فقلت لهم: الطبيعة أحسن من الأخبار وتصوير الناس، لأنها جميلة وليس لها لسان أو أيدي تؤذي من يشاهدها.
مرت الأيام بعجالة، وكبرت معها سنوات عمري، وأصبح باستطاعتي وأنا في الثانية عشرة أن أبرم بمفردي صفقة لاستئجار عدسة تصوير من نوع رخيص وفقير، فقد أعددت رصيداً معقولاً من مناسبات العيد المتكررة.
التوسع الاسمنتي العشوائي والزراعات الكيميائية في أراضي برقين قضاء جنين
رثاء البرتقال
كان الصيف في العام 1986 حاراً، وكانت هواياتي تتشكل على نار أكثر حرارة، استأجرت كاميرا تصوير بنفسجية اللون، وذهبت إلى الحقل المجاور المزروع بالبرتقال، كان صاحب البيارة المرحوم محمود الرفيق يشكو الحال، فالبرتقال عطش، والأسعار متدنية، والإنتاج شحيح، فقررت أن أكتب عن هذا الفلاح موضوعاً إنشائياً، وفعلت ذلك ولم اكتف بالكلمات، فالتقطت صورتين للفلاح ولأشجاره، ثم نقلته لمدرسي الذي فرح كثيراً بتعابيري، فأسرعت لاحقاً إلى مكتب لصحيفة "الفجر"، وقلت لهم أريد أن أنشر هذا الموضوع في صحيفتكم، وهذه الصور ملونة أيضاً، تلقف مدير المكتب الموضوع، وكان عنوانه: مزارعو البرتقال يشمون الأرباح ولا يذوقونها. بعد ثلاثة أيام صدرت الصحيفة وبها موضوعي، ولكن الفارق أن قصتي الإنشائية المتواضعة، لم تحتوي على أسمي، وإنما جاءت موقعة باسم مدير المكتب، ومع ذلك لأنني شاهدت لأول مرة كلماتي مطبوعة في صحيفة محلية يومية، وصوري سيشاهدها الناس، وصاحب الحقل العجوز سيفرح بأنني نفذت وعدي له.
في اليوم التالي، أسرعت إلى مدير مكتب الصحيفة، وقلت له: أين اسمي؟ فرد ببرودة أعصاب: عمو، أنا بعثت الموضوع من فاكسنا، وأرسلت الصور بسيارة للقدس، ودفعت الأجرة، يعني صار الموضوع إلنا..! قلت له: طيب، الصورة التي التقطتها، والكلمات هي نفسها، لم تغير شيئا، فقط شطبت اسمي، ووضعت اسمك... طالت أسئلتي، وامتدت تبريراته العرجاء، خرجت من المكتب لصاحب بيارة البرتقال، لأخبره بأنني نشرت الموضع. كان الفلاح النشيط لا يجيد القراءة، فحمدت الله كثيراً، لأنه لن يفرق بين اسمي واسم الذي سرق جهدي، ففرح بمشاهدته صورته، وطلب مني أن أحضر له عدداً، فلبيت رغبته جزئياً، إذ اقتطعت له صورته ومنحته إياها، واحتفظت بالموضع لنفسي..
كنا ننعم بالتمتع بما يحيط بأرضنا من بيارات البرتقال: أزهارها التي تسرق الروح، وثمارها الملونة، وخضرتها الفاقعة. كان كل هذا السحر يحدق بالنجمة من ثلاث جهات، فكنا نقول: هنا بيارة عمر الشيخ، وفي الأسفل بيارة أبو عباس، وعلى اليمين بستان دار حمدان، وفي المنتصف أشجار الرشيد الافتل.
الزحف الاسمنتي العشوائي الذي أخذ يحاصر أرض النجمة الواقعة بين بلدتي برقين ومثلث الشهداء وتميزت تلك الأرض بالأزهار الملونة والتنوع الحيوي الفريد
تقليد يومي
وحافظنا على تقليد يومي معظم أيام السنة، ولم يمنعنا من ذلك غير المطر الغزير، ولم نكن نبالي بالوحل، فنشق لأنفسنا مسارات فوق الصخر، والسلاسل الحجرية.
وفي طريق الذهاب، لم يكن يصادفنا غير بيت يتيم، ذاع اسم صاحبه واستقر في عقولنا، وبجواره بركة ماء من الاسمنت، وليس ببعيد منه، تستلقي خلة موسى، وفيها شجرة زعرور، وخروبة كبيرة، أما كروم الزيتون واللوز فتنتشر في كل الجهات، عدا عن الصبر ونباتات شوكية وأخرى ألصقنا بها تسميات غريبة.
بالتدريج، بدأ سحر المكان بالتراجع، وصار الزحف الإسمنتي يتفشى مثل سرطان مميت في جسد هش، أما الطرق العريضة فتكاثرت هي الأخرى، وانتشرت معها النفايات العشوائية، وقبل هذا وذاك جفت الينابيع وتراجع الشتاء، فقطع أصحاب البيارات مصدر رزقهم، وكأنهم قصوا رقابهم وذكرياتهم، وصارت مقالع الحجار تطوق الشارع الرئيس الرابط بين جنين ونابلس، وسرق معه ذكرياتنا العديدة، يوم كنا نلهو بلعبة المسارات، فيختار أحدنا اتجاها ويبدأ بعد السيارات المغادرة لنابلس، فيما يأخذ الثاني الاتجاه المقابل، ويحصي المركبات الواصلة للمدينة، ثم يفوز صاحب العدد الأكبر منها. ومما يلتصق بالذاكرة، قبل أن تختطف المقالع المشهد وتحجب النظر، حين شاهدنا ذات يوم رتلاً من دبابات الاحتلال كانت تدخل المدينة مطلع الثمانينات.
مقالع الحجارة التي تطوق الشارع الرئيسي الرابط بين جنين ونابلس
الأفق الرهينة!
أما الأفق البعيد، فصار يتشوه بالتدريج، إلى أن وصل زحف الاسمنت معظم الجهات، ولم نعد ننعم بالتأمل في طبيعة خالية من البشر وحجارتهم ومعدنهم الوقح. فهنا إسكان ضخم، وهناك بيوت عشوائية، وفي مكان ثالث كسارات، وفي ركن رابع مصانع للباطون، ومنشآت أخرى. بينما تطارد الأفق البعيد أبراج اتصالات تفسد كل شيء. فيما بدأت مؤشرات سوداء أخرى على زحف إضافي، والمزيد من المباني والشوارع، جراء تفتت الملكية، وتوزيع التركة بين أبناء المتوفين.
إحدى الأماني التي تسكنني أن أحول النجمة إلى محمية طبيعية، أحمى حجلها، وأعيد تنوعها الحيوي المفقود، واعهد أزهارها، وأرعى شجرها، دون أن أجد آثاراً سلبية لتدخل الإنسان.
هي النجمة، شاهد على إمعاننا المقصود في تدمير تنوعنا الحيوي، وتهديد بيئتنا بكل السبل، وسلوكنا العمراني غير المدروس، وجشعنا الذي لا يشبع، بجوار تغيرات مناخية باتت تشعل الضوء الأحمر!
aabdkh@yahoo.com