نموت من الوباء أم من الغذاء؟
من كثرة تكرار ظهور الأوبئة الحديثة والضجة العالمية التي ترافقها دائما، ما عدنا نعرف ما هي المعايير التي على أساسها تصنف الأمراض أوبئة. كما ما عدنا نعرف ما هي معايير تعيين درجات الخطورة ولا كيفية تقييم الأمراض والتجارب السابقة والحالية والدائمة في المعالجة والمكافحة والوقاية، ولا كيفية اختيار الأدوية أو الأمصال واللقاحات واختبارها (بسرعة) وتسعيرها وتسويقها. كما ما عدنا نعرف متى وكيف يتم الاعلان عن القضاء على وباء بعد ان يكون قد وصل الى الذروة وقيل فيه ما يدعو الى الذعر.
مناسبة هذا الكلام، الضجة العالمية والإعلامية المستحدثة حول وباء "ايبولا" الجديد. هذا الوباء الذي يعتبر اقل خطرا من تلك الأوبئة التي تنتقل بالهواء وتم السيطرة عليها نسبيا. فـ"الايبولا" كما تقول ممرضة في مستشفى في أوغندا نجت منه بعد معالجتها، "وباء يمكن الوقاية منه" بمجرد "تحاشي إفرازات المصاب". وهذا ما يفسر ظهور أكثرية مصابة في الأطقم الطبية للبلدان التي انتشر فيها الوباء.
من يراجع تاريخ الأوبئة القديمة منها والحديثة، يلاحظ ثلاث ملاحظات أساسية. الملاحظة الأولى تتعلق بالأصل الحيواني لمعظم هذه الأمراض - الأوبئة (تؤكد الدراسات ان نصف الأمراض الإنسانية تقريبا مصدرها حيواني)، والثانية تتعلق بمدى ترابط عولمة وسائل الاتصال وسرعة انتقال الأمراض والأخبار عنها، والثالثة تتعلق بمدى سرعة نسيان هذه الأمراض - الأوبئة بعد إيجاد أمصال ولقاحات معينة وتسويقها بسرعة وتحقيق أرباح عالمية مهمة من جراء ذلك.
قبل "السارس" و"جنون البقر" و"انفلونزا الخنازير" و"انفلونزا الطيور"... تسببت الحيوانات التي أصبحت "أليفة" بالكثير من الأمراض المعدية مثل جدري الجمل ورشح الخنازير وسل الحليب والطاعون المنتقل عبر الفئران والملاريا المقترن بالناموس... التي أكسبت الإنسان الذي تعايش معها مناعة خاصة. ويقال ان المغامرين الاسبان قد حملوا معهم في حقائبهم بكتيريات أدت إلى القضاء على قسم كبير من الهنود الاميركيين، اذ لم يكن للسكان الأصليين في أميركا، الذين كانوا يعيشون بسلام مع حيواناتهم البرية، القدرة او الفرصة لاكتساب مناعة ما لمواجهة البكتيريات الصادرة عن الحيوانات الأليفة التي كانت تعيش مع الأوروبيين لفترة طويلة.
أما الملاحظة الأكبر التي يمكن تسجيلها في هذا السياق، فهي تتمثل في السكوت عن الأوبئة الأكبر والأخطر والأكثر فتكا على الصحة العالمية، التي باتت تعتبر من أمراض العصر كالسمنة وارتفاع ضغط الدم ونسبة الدهون في الدم والسكري وغيرها من الأمراض العصرية المرتبطة بأنظمة الغذاء الحديثة وحياة المجتمعات المسماة "رفاهية"، والتي باتت تحصد أعدادا اكبر من الوفيات، أكبر بكثير من الوفيات التي تسببها الأوبئة الحديثة.
فكم حالة وفاة في السنة ناجمة عن "وباء السمنة" بالمقارنة مع الأوبئة التي حصلت على الاهتمام الأكبر من وسائل الإعلام؟ فهذا مرض "السارس" الذي ضجت به الدنيا في حينها، لم يحصد سوى 774 ضحية حتى العام 2007 تاريخ السيطرة عليه، او التاريخ الذي انتهت فيه على المستوى الإعلامي العالمي الحملات المتعلقة برصد تطوره. كما لم يتجاوز عدد ضحايا وباء انفلونزا الخنازير العام 2009 ما يقارب 18500 حالة وفاة، بحسب منظمة الصحة العالمية.
صحيح ان فيروسات هذه الأوبئة تتحول ولا يمكن التكهن بحصيلة نهائية لأي وباء، كما ان هناك ضعفا في البيانات في الكثير من دول العالم لمعرفة أسباب الوفيات الحقيقية... إلا ان ذلك لا يغير في الكثير من أوجه الحقيقة التي أكدتها دراسة جديدة العام الماضي برعاية معهد القياسات الصحية والتقييم بجامعة واشنطن، كانت قد كشفت أن أنماط الوفيات ونسبة انتشار الأمراض تتغير بسرعة حول العالم. وان 25% من الوفيات في العالم هي نتيجة للأمراض المعدية وأسباب مرتبطة بالتغذية والصحة النفسية والولادة الحديثة. وان أكثر من 65% من الوفيات تحصل نتيجة لظروف غير معدية، وأقل من 10% فقط نتيجة للإصابات التي تكون غالبيتها في الأماكن الأكثر فقراً في العالم. وهذا ما يؤشر مجددا إلى أن الأمراض، الناجمة عن زيادة الغذاء والتخمة والسمنة ... أكثر فتكا من الأوبئة، وان معالجة هذه المشكلة الأكبر تتطلب إعادة النظر بالنظم الاقتصادية والغذائية المسيطرة... وبالرغم من ذلك، لا يتم استنفار الأطقم الطبية والدول حول العالم إلا من اجل الأوبئة التي تحتاج الى شركات الأدوية كمنقذة!