خاص بآفاق البيئة والتنمية
تبجح مؤخرا العالِم الرئيسي في وزارة الاقتصاد الإسرائيلية بإعلانه أن وزارته وقعت على اتفاقية تعاون تكنولوجي مع شركة مونسانتو العالمية؛ وقد حافظت الوزارة على سرية نص الاتفاقية، إلى أن اضطرت للإعلان عنها في أعقاب مطالبتها بذلك من قبل جهات برلمانية وبيئية وحقوقية إسرائيلية مختلفة؛ بموجب قانون "حرية المعرفة" الإسرائيلي. وتنص الاتفاقية على أن يساعد العالم الرئيسي في وزارة الاقتصاد الإسرائيلية شركة مونسانتو في إيجاد الشركات الإسرائيلية التي تعمل على تطوير تقنيات تتجاوب واحتياجات الشركة؛ بينما تحصل الشركات الإسرائيلية من العالم الرئيسي على المنح اللازمة لتمويل البحث والتطوير اللازمين. وبدورها تلتزم مونسانتو بدعم عمليات البحث والتطوير التي تنفذها الشركات الإسرائيلية المعنية، سواء بالمال أو بالإرشاد التسويقي أو بتأجير المعدات أو بالاستشارات التكنولوجية، بمقدار مساو في قيمته للمنح التي يقدمها العالم الرئيسي. كما تسعى مونسانتو إلى توفير فرص تسويقية للشركات الإسرائيلية. حقوق المعرفة التكنولوجية تبقى بحوزة الشركات الإسرائيلية؛ وفي حالات معينة، قد يتم نقلها لشركة مونسانتو. وتحرص مونسانتو على دعم الاقتصاد الإسرائيلي، بقولها إن "الاتفاقية ستساهم في ازدهار الاقتصاد الإسرائيلي وتسويق التكنولوجيا الإسرائيلية".
وتعتبر اتفاقية مونسانتو مع الحكومة الإسرائيلية سابقة مثيرة؛ ذلك أن لهذه الشركة العديد من أشكال التعاون والشراكات مع باحثين في المؤسسات الأكاديمية ومراكز بحثية وشركات في مختلف أنحاء العالم، إلا أنه لا يوجد لها علاقات رسمية مشابهة مع دول. ومنذ ما قبل توقيع الاتفاقية الأخيرة، عملت مونسانتو في "إسرائيل" تحديدا من خلال بعض الشركات الإسرائيلية التي اشترتها، مثل "أ. ب. بذور"، "روستا غرين" و"بيولوجيكس".
وحاليا، لا يوجد في "إسرائيل" محاصيل تجارية لمنتجات زراعية معدلة وراثيا، بل توجد تجارب حقلية فقط؛ لأن معظم الصادرات الزراعية الإسرائيلية تذهب إلى أوروبا التي تمارس سياسة صارمة ضد الأغذية المعدلة وراثيا. لكن "إسرائيل" تستورد منتجات غذائية تحوي مكونات معدلة وراثيا؛ وبشكل أساسي الذرة والصويا اللذين يدخلا في بعض المنتجات الغذائية بإسرائيل.
الشركات التي تنتج وتسوق أغذية معدلة وراثيا تخشى من أن وسم سلعها بإشارة التعديل الوراثي سوف يردع المستهلكين عن شراء منتجاتهم. صحيفة "الجارديان" البريطانية نشرت في مطلع شهر أيلول الماضي بأن شركات عملاقة مثل مونسانتو وكوكا كولا استثمرت كل منهما خلال النصف الأول من عام 2014 نحو 27 مليون دولار في ممارسة الضغوط ضد وسم الأغذية المعدلة وراثيا؛ بينما أنفق كل منهما لنفس الغرض حوالي 9 ملايين دولار طيلة عام 2013. مونسانتو تعارض وسم الأغذية المعدلة، لأنه، بحسب زعمها، "لا يوجد خطر مثبت" من الأغذية المعدلة، ولأن "الوسم الإلزامي قد يفسر بأن الأغذية التي تحوي مكونات معدلة هي أقل جودة مقارنة مع مثيلاتها من الأغذية العادية أو العضوية، وهذا غير صحيح"، كما تدعي مونسانتو.
على أي حال، يوجد في "إسرائيل" شبه إجماع رسمي ومجتمعي حول ضرورة وسم السلع الغذائية المعدلة جينيا، انطلاقا من حق الجمهور في معرفة ما يحويه الغذاء الذي يستهلكه. وفي حين عارضت وزارة الصناعة والتجارة في "إسرائيل" (حاليا وزارة الاقتصاد) لسنين طويلة، وسم الأغذية المعدلة، بسبب معارضة الولايات المتحدة؛ فإن وزارتي الصحة والزراعة تؤيدان الوسم؛ وقريبا، سيقر "الكنيست" (البرلمان) الإسرائيلي اللوائح التي تلزم وسم الغذاء المعدل وراثيا.
استخدام مبيدات مونسانتو في حروب الإبادة
اشتهرت شركة مونسانتو بسمعتها العلمية والتجارية والسياسية السيئة. فهي تنتج مبيدات كيميائية للزراعة والصناعة، إضافة إلى البذور المعدلة وراثيا والمحمية بما يسمى "براءات الاختراع". وقد طالتها العديد من الانتقادات الحادة عالميا، بسبب تعاملها الاستعلائي المهين مع المزارعين الذين اتهمتهم بما أسمته "انتهاك براءات الاختراع" الخاصة بها، إضافة لنشاطها المريب في مجال الأغذية المهندسة وراثيا. ومن خلال ما يسمى "براءة الاختراع" (الملكية الفكرية) تدافع مونسانتو عن بذورها المزعومة، وتعمل بشتى الوسائل للاستئثار بها؛ فهي تفرض على المزارعين الذين يشترون بذورها المعدلة وراثيا الالتزام بعدم الاحتفاظ بتلك البذور لاستخدامها مرة أخرى في الموسم الزراعي التالي، بل يجب عليهم شراء بذور جديدة سنويا. وهذا يعني أن الشركة الاحتكارية تفرض تبعية المزارعين لها. ومن خلال منتجاتها والعديد من الشركات الزراعية التي اشترتها في العالم، تحتكر مونسانتو معظم سوق البذور المعدلة جينيا، بما في ذلك البذور المعدلة التي تستخدم مادة خام في الصناعات الغذائية، مثل الذرة والصويا. وقد رفعت مونسانتو دعاوى قضائية ضد المزارعين الذين زعمت بأن حقولهم احتوت على بذورها المعدلة دون تصريح منها. كما عملت الشركة ضد مزارعين لُقِّحَت حقولهم بشكل طبيعي من الحقول المعدلة جينيا المجاورة لهم، وذلك دون نوايا خبيثة من قبل المزارعين.
"براءات الاختراع" الخاصة بالبذور، تعني عمليا إملاء وفرض التكنولوجيات على شرائح الفلاحين، مثل المحاصيل الأحادية المعدلة وراثيا (GM)، واحتكار الشركات للبذور، وتحديدا من خلال ما يسمى (terminator technology) أي التكنولوجيا التي تحظر على المزارعين حفظ وإعادة إنتاج البذور التي تم جمعها (بحجة منع التلوث الجيني)، الأمر الذي سيهدد غذاء أكثر من 1.5 مليار نسمة في العالم يعتمدون على حفظ البذور من الحقول وإعادة إنتاجها. وفي الواقع، لتمرير هذه التكنولوجيا الأخيرة، تتستر شركات البذور تحت غطاء ما يسمى الملكية الفكرية للشركات (براءة الاختراع)؛ وهذا الغطاء ليس أكثر من عملية قرصنة بيولوجية تقترفها تلك الشركات، لأن الموارد الوراثية التي تسعى الشركات إلى احتكارها تحت مسمى "الاختراع المسجل" هي محصلة جهود المزارعين الجماعية لتحسين وإعادة إنتاج البذور عبر آلاف السنين، وهي بالتالي ملك للبشرية.
وقد ارتبط اسم مونسانتو أيضا بتسببها تلويثا بيئيا واسعا، وبرشوتها موظفين حكوميين في العالم الثالث، كما حصل على سبيل المثال في أندونيسيا. وقد حظرت العديد من الدول، بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي، استخدام بذور مونسانتو المعدلة وراثيا (وأيضا البذور المعدلة للشركات الأخرى)، وذلك بسبب الشكوك الكبيرة القائمة حول العواقب الصحية والبيئية لمثل هذه البذور. وطالما اندلعت عالميا الاحتجاجات والمظاهرات ضد نشاطات مونسانتو. ومن خلال الهندسة الجينية (الوراثية)، طورت مونسانتو أصنافا معدلة من بذور الذرة والصويا والكانولا المقاومة للمبيد العشبي "راوند أب" (Round-Up) الذي اشتهرت بتصنيعه؛ بحيث تبيع المزارعين كليهما (أي البذور والمبيد العشبي)، بذريعة أن الفلاح الذي يزرع أرضه ببذور الشركة يستطيع رش المبيد العشبي (راوند أب) دون إيذاء بذور مونسانتو المعدلة جينيا التي زرعها في حقله. ومن خلال الهندسة الوراثية، طورت مونسانتو أيضا بذور القطن التي تم حقنها بمورثات (جينات) بكتيريا تنتج سماً يعمل على إصابة الآفات الضارة، وبالتالي يتم تقليل استعمال المبيدات في زراعة القطن.
تأسست شركة مونسانتو في أوائل القرن العشرين، حيث تركز نشاطها آنذاك في مجال إنتاج الكيماويات الزراعية، وبرزت منتجاتها القاتلة مثل DDT ومبيدي الأعشاب Agent Orange وRound-Up الذي يعتبر أحد أبرز مبيداتها العشبية حتى يومنا هذا. أما مبيد Agent Orange فقد استخدمه الاستعمار البريطاني في الخمسينيات ضد الثوار في ماليزيا؛ ومن ثم استخدمه الاستعمار الأميركي بكثافة ضد الثورة الفيتنامية؛ فدمر وأباد أدغالا وغابات وقرى بكاملها أثناء ملاحقته للثوار. واللافت أن مبيد "راوند أب" لا يزال يستخدم في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأميركية، طيلة الستينيات وحتى هزيمتها في فيتنام عام 1975، اقترفت جرائم الإبادة الجماعية ومجازر بشرية ضد الفيتناميين، واقترفت قواتها جميع أنواع جرائم الحرب؛ فقصفت الشعب الفيتنامي بأكثر من 11 مليون جالون من المادة الكيميائية السامة والمسرطنة Agent Orange (العنصر البرتقالي) التي استخدمها الأميركيون بشكل واسع لإبادة القرى والمزارع والغابات التي كان يختفي بها الثوار الفيتناميون؛ علما أن مبيد الأعشاب ,D2,4 (البر سوبر) الذي لا يزال العديد من المزارعين الفلسطينيين في الضفة والقطاع يستخدمونه، يشكل مكونا أساسيا في مادة العنصر البرتقالي (نحو 50% منها). وما يزال أكثر من خمسة ملايين فيتنامي (من أصل 88 مليون هم سكان فيتنام) يعانون حتى يومنا هذا من السرطانات والولادات المشوهة (مواليد دون أيدي أو أصابع، أو تشوهات خلقية) بسبب الأسلحة الكيميائية التي استخدمها الاستعمار الأميركي ضد الشعب الفيتنامي، وبخاصة مادتي Agent Orange، والديوكسين.