خاص بآفاق البيئة والتنمية
شهدت واشنطن، في التاسع من كانون أول الماضي (2013)، توقيع كل من إسرائيل، الأردن والسلطة الفلسطينية على ما سمي "مذكرة تفاهم" لإنتاج مياه محلاة في منطقة العقبة، ومن ثم جعل نحو 100 مليون متر مكعب من المياه المالحة (المحلول الملحي) تتدفق سنوياً من منشأة التحلية جنوباً، نحو البحر الميت شمالاً. وبحسب نص "مذكرة التفاهم"، فإن الحديث يدور عن إنشاء "المرحلة الأولى/المشروع التجريبي لمشروع قناة البحرين الأحمر- الميت الكامل"؛ علما بأن المشروع الكامل سيتضمن العديد من الأنابيب الكبيرة ومنشآت تحلية ضخمة ومحطات توليد الكهرباء، ويتوقع أن يؤدي إلى تدفق نحو مليار ونصف المليار متر مكعب سنويا من مياه البحر الأحمر في البحر الميت؛ وذلك بتكلفة نحو 10 مليار دولار أميركي. بمعنى أن المذكرة الموقعة في واشنطن تشكل تفاهما إسرائيليا-أردنيا-فلسطينيا رسميا لتنفيذ توصية البنك الدولي في دراسة الجدوى (حول مشروع القناة) والتي مولها وأشرف عليها البنك (استنادا إلى رسالة التفاهم حول الشروط المرجعية لدراسة جدوى المشروع، والتي وقعتها عام 2005 كل من إسرائيل والأردن والسلطة الفلسطينية). ونصت "مذكرة التفاهم" على أن الدراسة المذكورة "أوصت بالاستمرار بالمشروع ولكن من خلال تطوير المشروع التجريبي/المرحلة الأولى التي ستضم في نطاق أصغر عناصر مشروع البحر الأحمر-البحر الميت الكامل". واللافت أن مقتطفات مقتضبة فقط من تلك الدراسة نشرت في بداية عام 2013، ولم تنشر الدراسة بالكامل حتى اليوم. كما لم تنشر أي جهة في السلطة الفلسطينية النص الرسمي الأصلي الكامل (وليس ترجمات غير رسمية) لما يسمى مذكرة التفاهم التي وقعت مؤخرا في واشنطن. فإذا كان الاحتلال الإسرائيلي هو الذي اخترع أصلا فكرة مشروع القناة (هذا ما سنعالجه لاحقا)، وهو أيضا الذي فبرك المذكرة الأخيرة التي وقعت السلطة الفلسطينية عليها، فلماذا يتم إخفاء نصها الكامل والرسمي عن الشعب الفلسطيني تحديدا؟
المذكرة (بحسب ترجمتها غير الرسمية) اعتبرت بأن هناك "تفاهما حول مشروع لإنقاذ البحر الميت من التدهور البيئي، ولتوفير المياه المحلاة، وتوليد الطاقة بأسعار معقولة وبناء رمز للسلام والتعاون في الشرق الأوسط". كما ورد في المذكرة بأنه "تم التوافق على تنفيذ مذكرة التفاهم الثنائية للجنة المشتركة بين الاردن واسرائيل الموقعة في 4 تشرين أول 2010، والتي تتعلق ببناء محطة لتحلية المياه في العقبة والتي سوف تسحب المياه من خليج العقبة / إيلات، وتحلية حوالي 80 مليون متر مكعب للاستهلاك في الأردن وإسرائيل، ونقل المحلول الملحي إلى البحر الميت في الشرق.... وكذلك بيع ما يصل الى 50 مليون متر مكعب من المياه من خلال بيت زارا – قناة الملك عبدالله". بمعنى أن المياه المحلاة سيتم التشارك على استهلاكها بين إسرائيل والأردن، ولا علاقة للسلطة الفلسطينية التي وقعت على المذكرة بها. وهذا يعني بأن إسرائيل ستحصل على المياه من منشأة التحلية في العقبة، بحيث تنقل المياه من العقبة إلى جنوب العربة في إسرائيل؛ وفي المقابل تسمح إسرائيل للأردن بزيادة ضخ المياه من بحيرة طبرية نحو شمال الأردن! والغريب أن النظام الهاشمي اتفق مبدئيا مع إسرائيل على حل مشكلة عجزه المائي من خلال عملية تبادل مياه عربية بمياه عربية أخرى، وذلك عبر إقامة الأردن لمنشأة تحلية في العقبة تزود المستعمرات الإسرائيلية في جنوب فلسطين بالمياه، وتحديدا مستعمرات جنوب العربة. ومقابل كل متر مكعب من المياه التي سيزودها الأردن للمستعمرات الإسرائيلية الجنوبية، ستزود إسرائيل الأردن بالمياه من بحيرة طبرية المنهوبة إسرائيليا أصلا، أو من منشآت التحلية الإسرائيلية في شمال فلسطين.
كل هذا يحدث، بالرغم من أن إسرائيل تهيمن على فائض مائي جوفي وسطحي ضخم، وهي لا تحتاج أصلا إلى تحلية المياه؛ بل هي تتحدث عن مشاريعها المائية العدوانية علنا، وتستخدم مسألة المياه كأداة ضغط سياسية وسلاح ضد العرب. فإسرائيل تمنع الأردن الذي يعاني من العطش بسبب جفاف معظم أحواضه المائية وارتفاع نسبة الملوحة في مياه الشرب، من تحويل بعض مياه نهر الأردن إلى الأراضي الأردنية، ناهيك عن سرقة إسرائيل لمياه وادي عربة والمياه الجوفية في الحمة، علما أن اتفاق وادي عربة "يمنح" نظريا الأردن "حصصا" من مياه نهري الأردن واليرموك ومياه وادي عربة الجوفية.
 |
الموقعون على مذكرة التفاهم حول مشروع قناة البحرين-الإسرائيلي في اليسار، الأردني في الوسط، والفلسطيني في اليمين-
|
نسف الحقوق المائية الفلسطينية
والأهم من ذلك، نصت المذكرة على وجود "استعداد" إسرائيلي "لبيع 20-30 مليون متر مكعب من المياه من محطات تحلية المياه الإسرائيلية، ليتم تسليمها في نقاط التوريد المتفق عليها" للسلطة الفلسطينية! حيث "سيتم مناقشة ذلك بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وسوف يستند سعر المياه على سعر تحلية المياه وبمواصفات المياه الصالحة للشرب في نقطة التوريد. وسيكون الاتفاق مستقلا عن اتفاقات المياه الحالية بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية".
ويتنافى هذا الاتفاق الإسرائيلي الفلسطيني (بخصوص المياه المحلاة التي ستبيعها إسرائيل للسلطة من محطات التحلية الاسرائيلية) مع النفي الفلسطيني الرسمي المتكرر لما ورد في التقارير التي نشرت مرارا وتكرارا خلال السنوات الأخيرة في الإعلام الإسرائيلي، حول توجه إسرائيلي لتخصيص كميات من مياه البحر المحلاة لصالح السلطة الفلسطينية! ففي حديثه مع مجلة آفاق البيئة والتنمية (نيسان 2010)، نفى الدكتور شداد العتيلي رئيس سلطة المياه الفلسطينية (الذي وقع على المذكرة بالنيابة عن السلطة) التقارير الإسرائيلية جملة وتفصيلا. وأكد عدم وجود أي اتفاقية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل بهذا الخصوص، كما أن السلطة لم توقع على أي اتفاقية مع إسرائيل. وقال بأن "هذا الموضوع طرح مؤخرا في الإعلام الإسرائيلي ونفته سلطة المياه". واستغرب من إثارته مجددا، علما "بأننا لم نحصل بعد على حقوقنا المائية في الأحواض الجوفية ونهر الأردن". وأردف العتيلي: "نحن مع التعاون إذا كان يصب في المصلحة الفلسطينية وليس على حساب حقوقنا المائية" (المصدر السابق). والسؤال المطروح هو: هل حصل الفلسطينيون على حقوقهم المائية في الأحواض الجوفية ونهر الأردن؛ ما أدى إلى الاتفاق مع الاحتلال للحصول على المياه المحلاة؟ ألا يعني هذا التعاون مع المحتل نسفا لحقوقنا المائية؟
اللافت أن إسرائيل تعد أكبر "المتحمسين" لحث الفلسطينيين على شراء المياه المحلاة منها، أو تحلية مياه بحر غزة. ويكمن وراء هذه "الحماسة" دافع سياسي-أمني-استراتيجي يتمثل في ضمان إسرائيل مواصلة نهبها شبه المطلق للمياه الفلسطينية العذبة، وبالتالي مطالبة الفلسطينيين بسد عجزهم المائي الخطير الناجم عن السرقة الإسرائيلية المفتوحة للمياه، من خلال شراء المياه المحلاة؛ وبالتالي تكريس النهب الإسرائيلي للمياه العذبة.
ومن الواضح، أن مثل هذه المشاريع تصب في سياق المشاريع الإسرائيلية المائية الإستراتيجية الهادفة إلى تثبيت وشرعنة النهب الإسرائيلي الضخم للموارد المائية الفلسطينية؛ علما بأن الوضع المائي الذي كان سائدا منذ ما قبل أوسلو وحتى اليوم لم يتغير في الجوهر، بل إن الاتفاقيات ثبتت الوضع القائم قبلها؛ إذ لا تزال إسرائيل تسيطر وتتحكم بشكل فعلي وكامل ومطلق بموارد المياه الفلسطينية واستخداماتها وإدارتها وتوزيعها.
دراسة مشكوك في مصداقيتها ومليئة بالمغالطات العلمية
ثم إن زعم مذكرة واشنطن الإسرائيلية-الأردنية-الفلسطينية، بأنها تعبير عن التزام الأطراف الموقعة بتنفيذ توصية البنك الدولي (في دراسة جدوى مشروع قناة البحرين) بإنشاء مشروع تجريبي (المرحلة الأولى) "سيضم في نطاق أصغر عناصر مشروع البحر الأحمر-البحر الميت الكامل...وسوف يسمح ذلك الحصول على المزيد من المعلومات ومزيد من البيانات بشـأن جدوى وآثار المشروع، بينما في نفس الوقت البدء في إنتاج المياه المحلاة"- إن هذا الزعم وهذا الالتزام يستندان أساسا إلى دراسة مشكوك في مصداقيتها ومليئة بالمغالطات العلمية. إذ أن دراسة البنك الدولي المذكورة التي أوصت بتنفيذ "مشروع تجريبي" لنقل المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت اعترفت بمحدودية مثل هذا المشروع التجريبي على تقدير الآثار البيئية؛ ذلك أن البحر الميت قد يتعرض إلى مزيد من التدمير الهيدرولوجي بسبب الكميات الضخمة من مياه البحر الأحمر التي ستتدفق إليه والمختلفة تماما في تركيبها المائي الملحي والمعدني عن تركيب مياه البحر الميت. كما أقرت الدراسة بشكل صريح بأن مشروع القناة قد يؤدي إلى نمو طحالب حمراء غريبة ستغير لون البحر، وستتكون كتل من الجبص الأبيض في البحر الميت، إضافة إلى وجود مخاطر جدية على المياه الجوفية في وادي عربة.
كما تتناقض دراسة البنك مع ما كشفه بحث أعلن عنه ذات البنك في أوائل عام 2012 ورد فيه بأنه في حال إنشاء القناة بين البحرين الأحمر والميت، فقد تتفاقم ظاهرة الحفر البالوعية الناتجة عن انكماش البحر الميت وذوبان الطبقات الملحية الهشة في محيطه، ما يلحق الضرر بالمنشآت والبنية التحتية والطرق الممتدة على جانبي البحر، ويهدد الحياة والممتلكات والمنشآت، ويشكل خطرا على مرتادي شواطئ البحر الميت بهدف الاستجمام.
وكانت مجلة آفاق البيئة والتنمية قد نشرت منذ أكثر من ثلاثة أعوام (كانون أول 2009) دراسة حول قناة البحرين دحضت فيها ادعاء الأطراف المسوقة لمشروع قناة البحرين والقائل إنه مشروع بيئي هدفه الحفاظ على البيئة، وبينت، استنادا إلى العديد من خبراء البيئة، أن هذا المشروع سيسبب كارثة بيئية ستحل بالبحر الميت بالدرجة الأولى؛ إذ أن العديد من علماء الجيولوجيا يؤكدون بأن تنفيذ هذا المشروع سيتسبب في حدوث زلازل مدمرة، وذلك نظرا لأن تدفق كميات كبيرة من مياه البحر الأحمر في البحر الميت الذي يعد أخفض منطقة في العالم، سيؤدي إلى زيادة الضغط على قعر البحر الميت، ما سيولد اختلالات في طبقات الأرض في منطقة الأغوار التي تقع فوق ما يعرف بفالق شمال أفريقيا النشط زلزاليا؛ بمعنى أن تدفق المياه في تلك المنطقة قد يحرك الفالق وينشط الزلازل في المنطقة. وبخصوص الزلازل، فقد شهدت فلسطين في شهر تشرين أول (2013) الأخير، حدوث خمس هزات أرضية متتالية خلال أسبوع واحد تراوحت بين 3.6-3.3 على سلم ريختر، وكان مركز هذه الهزات جميعها منطقة بحيرة طبريا، أي تحديدا في منطقة حوض نهر الأردن والبحر الميت.
علاوة على ذلك، لم ينشر البنك الدولي (في موقعه الإلكتروني) النص الكامل لدراسته (أو سلسلة تقاريره) التي زعم فيها بأن مشروع إنشاء القناة من البحر الأحمر إلى البحر الميت مُجْدٍ بيئيا، اقتصاديا وهندسيا. بل ما نشر عبارة عن ملخصات للتقارير التي أعدها بشكل أساسي "باحثون" إسرائيليون وبعض الأردنيين، بينما خلت من أي فلسطيني؛ ما يشير إلى أن لدى البنك ما يخفيه من بعض محتويات التقارير، وبخاصة البيئية منها، والتي قد تحوي معطيات في غير صالح المروجين لهذا المشروع. كما ورد في سياق التقارير مفاهيم ومصطلحات صهيونية (مثل "Kineret" بدلا من بحيرة طبريا...).
نهب إسرائيلي غير محدود لمياه حوض نهر الأردن
تزوير المعطيات والأرقام
وغني عن البيان أن البنك الدولي لم يتورع، في الماضي القريب والبعيد، من تزوير وتحريف المعطيات والأرقام في بعض تقاريره و"دراساته" الخاصة بدول الجنوب، بما فيها الدول العربية والإسلامية، بهدف تبرير سياساته وأجنداته الاقتصادية-السياسية وفرض خططه الاقتصادية النيوليبرالية والنيوكولونيالية التي دمرت البنى الاقتصادية-الاجتماعية للعديد من الدول الفقيرة. وآخر فنون التزوير هذه تمثلت في "دراسة" نشرت في كانون أول 2013، أعدها باحثون مغاربة لصالح البنك الدولي حول قطاع الزراعة في المغرب؛ فعمد إثرها البنك إلى نشر "الدراسة" بعد أن زوّر معطياتها وحرَّفَ بعض نتائجها، معتمدا على إحصائيات وأرقام مغلوطة. وقد نشر البنك "الدراسة" الملعوب بها دون موافقة أصحابها؛ وبالتالي، أضيفت هذه "الدراسة" إلى سلسلة "دراسات" وتقارير سابقة للبنك افتقرت إلى المصداقية العلمية ولم تعبر عن الواقع، بل زورت الحقائق. وقد بادر الباحثون المغاربة الذين أعدوا الدراسة الأصلية (غير المزورة) إلى رفع دعوى قضائية ضد البنك، يتهمونه فيها "بالنصب والاحتيال وانتحال صفة". وقد سبق أن رفعت بعض الدول الإفريقية دعاوى قضائية ضد البنك بسبب ما تسببت به خططه المفروضة على شعوب هذه الدول من إفلاس اقتصادي وتفاقم الفقر والمجاعة وانعدام التنمية.
استخفاف مكشوف بالعقول
والأنكى من ذلك، أن نصوص المذكرة هي مجرد ترجمة حرفية لنفس المفاهيم والطروحات الصهيونية التي تقف خلف خطة مشروع قناة البحرين. إذ أن ما ورد في المذكرة من أن مشروع القناة يهدف إلى "إنقاذ البحر الميت من التدهور البيئي"، عبارة عن تثبيت للزعم الإسرائيلي الذي يضع الطرفين الفلسطيني والأردني على قدم المساواة مع "إسرائيل" في المسؤولية عن التراجع الهائل في مستوى البحر الميت، أو كما تزعم وسائل الإعلام الإسرائيلية بأن سبب "تراجع مستوى البحر الميت بنسبة الثلث عما كان عليه في الستينيات هو استخدام الدول المشاطئة له، أي الأردن وإسرائيل والأراضي الفلسطينية، مياه نهر الأردن الذي يغذيه للري". وبالطبع، هذه "المساواة" غير صحيحة إطلاقا، بل كاذبة، إذ لا يوجد للفلسطينيين أية سيطرة أو سيادة أصلا على أي جزء من نهر الأردن.
إذن، الادعاء الفلسطيني الرسمي القائل بأن الانخراط الفلسطيني في مشروع قناة البحرين سيمنح الفلسطينيين "حقوق المشاطأة الكاملة وعلى قدم المساواة وبشكل متكافئ مع الأطراف الأخرى"، ليس أكثر من مجرد استخفاف مكشوف بعقول أبناء شعبنا، وكلام وهمي لا صلة له بالوقائع وموازين القوى الفعلية على الأرض.
والأمر المثير للريبة، أنه لدى دفاعهما عن مشروع القناة، تتجاهل بعض الأوساط الفلسطينية والأردنية الرسمية حقيقة أن إسرائيل تتحمل مسؤولية تدهور أوضاع البحر الميت (الذي تجتر المذكرة الزعم الإسرائيلي بضرورة إنقاذه من التدهور البيئي الذي تسببت به إسرائيل أصلا)، حيث تنهب سنويا مئات ملايين الأمتار المكعبة من مياه بحيرة طبريا ونهر الأردن اللذين يغذيا البحر الميت. كما أقامت إسرائيل ما يزيد على 18 مشروعا وسدا لتحويل مياه نهر الأردن إلى مشروعاتها الزراعية في صحراء النقب وغيرها؛ وحولت الأودية الجارية التي تتجمع فيها مياه الأمطار وتجري باتجاه الميت إلى المناطق المحتلة عام 1967، خصوصا إلى المستعمرات، وقد وصلت نسبة المياه المحجوزة والمحولة عن البحر الميت إلى حوالي 90% من مصادره. كما حفرت إسرائيل ما يزيد على 100 بئر لسحب المياه الجوفية من المناطق القريبة التي تغذي أيضا البحر الميت بالمياه، إضافة إلى إقامة المصانع ومراكز استخراج الأملاح، وبخاصة البروميد، بصورة كبيرة، من البحر الميت، والتي تؤدي حسب آراء الخبراء إلى ارتفاع مستوى التبخر.
وحتى أواسط الستينيات، كان نحو مليار و300 مليون متر مكعب من المياه يصب سنويا على طول الجزء الجنوبي من النهر، في جريان سريع، علما بأن عرض النهر كان يتراوح بين 40-60 متراً. أما اليوم، وبسبب النهب الإسرائيلي أساسا، فلا يصب في ذلك الجزء من النهر سوى كميات هزيلة جدا من المياه، لا تتجاوز 20 – 40 مليون متر مكعب، بينما يتراوح عرض النهر بين نصف متر إلى ستة أمتار فقط! أي أن كميات المياه التي كانت تجري تاريخيا في النهر انخفضت بنحو 98%. وحاليا، لا تتجاوز المياه الطبيعية التي تصب في الجزء الجنوبي من النهر 2% من المياه التي كانت تصب فيه في الماضي.
وبعد كل ما ذكر، هل المطلوب من الأطراف العربية أن تشارك الإسرائيليين في مشروعهم الهادف إلى إصلاح ما أفسده الأخيرون بشكل منظم؟
 |
مشروع قناة البحرين
|
الجذور الصهيونية لمشروع القناة
في الواقع، مسألة الجذور الصهيونية لمشروع القناة محسومة وتؤكدها الوقائع والمعطيات التاريخية والفكرية والجيوسياسية والاستراتيجية الصهيونية المكشوفة والصارخة. والتأكيد الاحتلالي الأخير لهذه المسألة جاء قبل ساعات قليلة فقط من التوقيع على المذكرة (في 9/12/2013) على لسان سيلفان شالوم وزير "البنى التحتية والمياه الإسرائيلية" والذي وقع على المذكرة نيابة عن إسرائيل؛ إذ أعلن الأخير من واشنطن بأن هذا المشروع عبارة عن "مشروع تاريخي عظيم وتحقيق لحلم هرتسل". ومع ذلك، ورغم الإعلان الإسرائيلي الواضح والمكشوف بأن المشروع هو إسرائيلي بل هو تجسيد لحلم مؤسس الحركة الصهيونية، فقد وقعت السلطة الفلسطينية على المذكرة/الاتفاق مع الاحتلال، إلى جانب النظام الهاشمي! ألا يذكرنا هذا بأعضاء الكنيست الإسرائيلي الذين، فور انتخابهم، يؤدون قسم الولاء لدولة إسرائيل، وفوق رؤوسهم ترفرف صورة ثيودور هرتسل؟! ألا يشكل هذا اعتناقا لأطروحات ومشاريع الحركة الصهيونية والدولة اليهودية؟
ولو ربطنا ما ورد في دراسة البنك الدولي وفي مذكرة واشنطن الأخيرة، من أن مشروع القناة الكامل والمشروع التجريبي يهدفان إلى "توفير المياه المحلاة، وتوليد الطاقة بأسعار معقولة وبناء رمز للسلام والتعاون في الشرق الأوسط"- لو ربطنا ذلك بحقيقة تعامل الاحتلال الإسرائيلي مع مشروع "قناة البحرين" باعتباره مشروعا "وطنياً إسرائيليا" كما أعلن سيلفان شالوم عام 2012؛ والذي شدد على أن هذا المشروع يعد "مشروعا وطنيا عظيما سيساهم في تنمية النقب والعربة" (معاريف 3/7/2012)- عندئذ فإن السؤال المشروع الذي طرحته في تقارير سابقة وأطرحه هنا مرة أخرى هو: هل تساهم السلطتان الأردنية والفلسطينية في دعم مشروع إسرائيلي ظاهره بيئي-مائي، وباطنه سياسي-أمني-ديمغرافي-استيطاني استعماري خطير؟ علما بأن العديد من الناشطين البيئيين الإسرائيليين يعارضون مشروع القناة، لأسباب بيئية وجيولوجية وهيدرولوجية.
ثم إن تنفيذ مشروع قناة البحرين (بشقيه التجريبي والكامل) بغطاء أردني-فلسطيني، لصالح توفير المياه العذبة وتوليد الطاقة الرخيصة لإسرائيل، يعني عمليا التخلي عن الحقوق التاريخية والطبيعية والوطنية الفلسطينية الثابتة في حوض نهر الأردن، وشرعنة فلسطينية-أردنية رسمية لمواصلة نهب إسرائيل واستنزافها لمياه حوض النهر، بل تغطية هذا النهب؛ لأن القناة ستمنح الاحتلال الإسرائيلي فوائد ومزايا اقتصادية-مائية-سياحية وأمنية مجانية إضافية؛ وفي ذات الوقت، يواصل الاحتلال سرقته المنظمة لمياه بحيرة طبريا ونهر الأردن، والتي، أي تلك المياه، هي من الحقوق الطبيعية والوطنية والسياسية والتاريخية الثابتة للفلسطينيين وسائر العرب في المنطقة (الأردن وسوريا).
وليس مصادفة أن استحدث نتنياهو، في حينه، وزارة جديدة أسماها وزارة "تطوير النقب والجليل" التي أوكلت إلى سيلفان شالوم الذي اعتبر مشروع "قناة البحرين" ضمن أهم أولويات وزارته؛ ذلك أن مشروع قناة البحرين سيسرع في عملية الاستيطان الإسرائيلي لصحراء النقب التي تشكل نصف مساحة فلسطين، حيث ستوفر لها مصادر مائية وكهربائية رخيصة جدا. وتكثيف الوجود السكاني الإسرائيلي في النقب يعني مزيدا من نهب أراضي العرب في المنطقة واقتلاعهم منها.
كما أن حزب الليكود وحكومته السابقة (حكومة أرئيل شارون) كانا أيضا من أشد المتحمسين لمشروع القناة. وقد صرح شارون في حينه، وتحديدا بعد الإعلان عن اتفاقية دراسة جدوى قناة البحرين (عام 2005)، بأن هدف "إسرائيل" من الآن وحتى عام 2020 هو توطين مليون يهودي في صحراء النقب. ومن هنا جاء ما يسمى بمخطط برافر الصهيوني الخاص بمنطقة النقب والذي تهدف الحكومة الإسرائيلية إلى تحويله (عبر الكنيست) إلى قانون يهدف إلى مصادرة أكثر من 800 ألف دونم من أراضي النقب العربية وتهجير أكثر من 70 ألف عربي من أراضيهم ومنازلهم هناك، وتدمير نحو 40 قرية وتجمع سكاني فلسطيني في المنطقة. وقد علقت إسرائيل، مؤقتا، تنفيذ هذا المخطط، بسبب المظاهرات الحاشدة والمواجهات الشعبية الفلسطينية التي هبت في حيفا والنقب وغيرها.
واللافت، أن شمعون بيرس، الرئيس الإسرائيلي الحالي، كان، منذ سنين طويلة، ولا يزال، من أكثر المتحمسين لمشروع القناة، وهناك أيضا رجال أعمال واقتصاد إسرائيليين كبار متحمسين للاستثمار في المشروع.
والغريب أن أوساطا فلسطينية رسمية تتجاهل بأن هذا المشروع يعد تثبيتا وتعميقا للوجود الاستيطاني الإسرائيلي في النقب وفي الضفة الغربية بعامة، وفي مناطق الأغوار بخاصة. فضلاً عن أن إنشاء المشاريع الإسرائيلية حول القناة سيجذب العاملين الإسرائيليين إليها وسيعزز الاستيطان الإسرائيلي في الأغوار.
يضاف إلى ما ورد، أن السلطة الفلسطينية التي تفتقر إلى الحد الأدنى من أشكال السيادة السياسية على الأرض والموارد المائية الفلسطينية التي تقع بالكامل تحت هيمنة الاحتلال، والتي (أي السلطة) تعد مجرد سلطة حكم ذاتي مرجعيتها السيادية قانونيا هي دولة "إسرائيل" (هذا ما نصت عليه اتفاقيات أوسلو وهو أيضا الفهم المتعارف عليه دوليا للحكم الذاتي)، خولت نفسها المشاركة في مشروع "قناة البحرين" (الأحمر-الميت) الذي يعد مشروعا "سياديا" يهدف أصلا إلى تثبيت الوجود الإسرائيلي الاستيطاني في فلسطين بعامة، وفي الأغوار وصحراء النقب بخاصة، فضلا عن المخاطر البيئية الكارثية التي يتضمنها المشروع. وقد سبق أن أشادت الرموز الفلسطينية المتساوقة مع هذا المشروع، منذ عام 2005، أي قبل مجرد الشروع في "دراسة الجدوى"- أشادت "بإيجابيات وفوائد وإنجازات" المشروع. فإذا كان هناك حكم مسبق بأن كل المشروع المقترح عبارة عن "إيجابيات"، فما هو المبرر، إذن، من عمل "دراسة الجدوى" التي كان يفترض بها أن تقرر إذا كان من المجدي، بيئيا واقتصاديا، تنفيذ المشروع؟ بمعنى، أن هناك قرار مسبق بتنفيذ المشروع، وما "دراسة الجدوى" سوى القناع "العلمي" و"المهني" اللازم لتنفيذ المشروع.
إذن، ولتوفير الغطاء البيئي الإقليمي لمشروع قناة البحرين؛ وبالتالي إخفاء الأبعاد السياسية والأمنية والاقتصادية والإستراتيجية الإسرائيلية التي يتضمنها المشروع، تحتاج "إسرائيل" إلى جهات عربية لتنفيذ "الحلم الصهيوني التاريخي" الاستراتيجي والمتمثل بشق القناة، تماما كما نفذت في الماضي مشاريع أخرى بأيدٍ عربية. هذا هو تحديدا التجسيد العملي على الأرض لما ورد في مذكرة واشنطن من أن المرحلة التجريبية لمشروع قناة البحرين تهدف إلى "بناء رمز للسلام والتعاون في الشرق الأوسط"، وذلك في اجترار واضح لما يقوله المسؤولون الإسرائيليون الذين يتعاملون مع مشروع "قناة البحرين" باعتباره مشروعا "وطنياً إسرائيليا".
يضاف إلى ذلك، أن التوقيع على مذكرة واشنطن باسم الشعب الفلسطيني قد تم بغياب كامل لأي رقابة قانونية وتشريعية وإجراءات ديمقراطية شفافة (أين المجلس التشريعي المنتخب على سبيل المثال؟) ودون أي احترام لمواقف وأراء الخبراء والباحثين الفلسطينيين ذوي الصلة، والمؤسسات والمنظمات والاتحادات والنقابات....إلخ، الذين يفترض بهم مناقشة وإقرار أو رفض مشاريع ومخططات تمس الحقوق المائية والسياسية والوطنية الاستراتيجية لشعبنا، بل ومستقبل وجوده على الأرض الفلسطينية. علما بأن سلطة المياه الفلسطينية والبنك الدولي نظما في أوائل عام 2013 اجتماعات "تشاورية" في الضفة الغربية حول تقارير البنك الخاصة بمشروع القناة، دعي إليها خبراء وباحثون فلسطينيون ومنظمات ومؤسسات المجتمع المدني ووزارات ذات صلة؛ وكان موقف غالبية المشاركين في تلك الاجتماعات هو التحفظ على المشروع ورفضه! بل كان يفترض بسلطة المياه أن تعرض موقفها الواضح من دراسة البنك الدولي على المعنيين في المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الفلسطينية المعنية، في اجتماع تحدد موعده سلفا في رام الله؛ ومن ثم تم تأجيله إلى أجل غير مسمى؛ ليفاجأ الجميع لاحقا بحفل التوقيع على مذكرة معيبة ومخجلة لم تحظ بأي إجماع فلسطيني شعبي أو مؤسسي قانوني أو مجتمعي مدني. من الواضح، أن هدف ما يسمى "الاجتماعات التشاورية" هو مجرد مادة للثرثرة تم تسويقها باعتبارها نقاشات "ديمقراطية"، ولكنها في الحقيقة ليست أكثر من عملية استغفال أو "استهبال" للناس، وتغطية على الانخراط الفلسطيني الرسمي في مشاريع ذات طابع استراتيجي إسرائيلي مريب يمس الوجود الفلسطيني في فلسطين إجمالا. نحن نقف هنا أمام مدرسة أوتوقراطية تسلطية تنفذ مخططات مفروضة من الخارج ولا تعبر عن الحقوق والطموحات والاحتياجات الوطنية والاقتصادية-الاجتماعية-السياسية-البيئية الحقيقية، وتُصْدِر (تلك المدرسة) من أجل ذلك قرارات ومراسيم فردية تحسم في قضايا وطنية استرتيجية تمس وجود ومصير شعب بأكمله. تماما كما حدث أثناء "مفاوضات" أوسلو، حيث كان "المفاوضون" الفلسطينيون الشكليون برئاسة المرحوم د. حيدر عبد الشافي "يفاوضون" رسميا في واشنطن الإسرائيليين في العلن؛ بينما كان شخصان أو ثلاثة يجرون سرا وفي الخفاء "المفاوضات" الحقيقية التي أخرجت اتفاقات أوسلو وملحقاتها! د. عبد الشافي انسحب من "مفاوضات" واشنطن بعد الجولة الثامنة احتجاجا على الخديعة التي اكتشفها؛ علما بأن جولات المفاوضات العلنية العبثية في واشنطن استمرت بحلقاتها الإضافية في غياب الدكتور عبد الشافي.
البديل البيئي الوطني
أخيرا، نقول مرة أخرى، بأن حل مشكلة استمرار تراجع مستوى البحر الميت، وبالتالي "جفافه"، يكمن في أن تتوقف إسرائيل عن نهبها لمياه بحيرة طبريا ونهر الأردن؛ بمعنى أن توقف إسرائيل حجبها لتدفق مياه بحيرة طبرية في نهر الأردن (نحو 650 مليون متر مكعب يتم نهبها سنويا من حوض نهر الأردن)، فضلا عن وقف نشاطات المصانع الإسرائيلية المستنزفة لمياه البحر الميت (أكثر من 250 مليون متر مكعب تستنزفها المصانع الإسرائيلية من البحر). وهذا يعني توفير نحو 900 مليون متر مكعب سنويا من المياه المنهوبة مباشرة من البحر الميت أو من الروافد المغذية له، وهذه الكمية أكبر مما يحتاجه البحر لحل ما يسمى "مشكلة جفاف البحر الميت"، علما بأن البحر الميت يحتاج إلى نحو 800 مليون متر مكعب سنويا من المياه لوقف استمرار تراجع مستواه، وهذه الكمية تتناسب مع سرعة التبخر السنوية للبحر الميت. يضاف إلى ذلك، بالطبع، حصول الفلسطينيين على كامل حقوقهم المائية من حوض نهر الأردن.
أي أن وقف تدهور البحر الميت يكمن في انتزاع الفلسطينيين وسائر العرب لحقوقهم المائية في حوض نهر الأردن المحتل، وإعادة الحياة إلى نظام الجريان الطبيعي لسلسلة بحيرة طبرية – نهر الأردن – البحر الميت، الأمر الذي سيساهم في إعادة أكبر قدر من التوازن البيئي الطبيعي الأصلي لحوض نهر الأردن، وبالتالي تقليص المخاطر وعدم اليقين.