جردة حساب
في جردة حساب لآخر سنة 2013، اكتشفنا الكثير من المواضيع الجديدة. اكتشفنا أن "النقد البيئي" لم يعد يمثل تلك المهمة السامية لتصحيح الأمور او محاولة فتح نقاش جدي وعميق حول المواضيع المطروحة... بل يمكن أن يتحوّل مفتاح وباب رزق لكثيرين!
اكتشفنا أن الاهتمام بالبيئة مربح، بعكس كل ما يُقال، او ما كنا نقول. هو "مربح" للملوّثين بقدر ما هو مربح "للمدافعين" عن البيئة! وقد اكتشفنا أيضاً، اننا كلما انتقدنا أحداً، من مسؤولين او شركات او مؤسسات او مشاريع... استفاد هؤلاء واستفاد "بيئيون" كثر!
فمعظم الملوثين الكبار أصبحوا متبرعين ومحسنين للكثير من الجمعيات والأحزاب المهتمة بالبيئة ولخبراء وصحافيين... وذلك بهدف إعادة تبييض كل صفحة سوّدناها بانتقاداتنا. وقد أصبح كل نقد (دون مبالغة)، فرصة جديدة عند كثيرين. فيذهب ممثلو جمعيات او خبراء او "صحافيون" الى صاحب العلاقة مع نسخة عن مقال ناقد او تحقيق ويقول له: ما هذا الموضوع؟ ضجّت الدنيا بقضيتك. هل يعقل ذلك؟ فيسارع هذا الملوّث والمخالف الى محاولة استرضاء المستفسر عبر الادعاء بأنه يحب البيئة وبأنه مستعد لتمويل "مشاريع بيئية". او "دراسات" إذا كان المعترض (المستفسر) "خبيراً".
اذا قبل الخبير أو"الناشط البيئي" أو الإعلامي بهذه المعادلة، يكون إيجابياً ويصبح مقبولاً ومحبوباً ربما. أما الذي يرفض ويستمر في النقد، فيصبح كائناً سلبياً، أصولياً، مريضاً نفسياً، لا يعجبه شيء، لا اجتماعي... ولا أخلاقي ربما! على أساس ان النموذج الأخلاقي المسيطر هذه الأيام، هو نموذج الإنسان "الشاطر" الذي يعرف من أين "تؤكل الكتف"، الكريم (من مال غير نظيف) المتسامح (بمعنى غير المبدئي والكاذب) اللبق (المصانِع)...الخ
وإذا كان النقد البيئي قد ضُرب (كما كل نقد بناء وضروري للمراقبة والتصحيح والتطوير)، فلا يفترض أن نتأمل خيراً من مقاربة أي ملف من ملفات البيئة وغير البيئة. ولا حاجة إلى استعراض أي من ملفات البيئة في لبنان والعالم، والتي تسير جميعها بخطوات متسارعة الى الهاوية. من ملفات تلوُّث الهواء من مصادر مختلفة وتغيُّر المناخ، إلى ملفات التمدد العمراني العشوائي وتراجع المساحات الخضراء وتهديد التنوع البيولوجي وزيادة كميات النفايات على انواعها وتراجع إمكانيات إدارتها بشكل سليم، إلى نقص المياه وتلوثها وسوء إدارتها، إلى هدر الطاقة واللجوء إلى أوسخ الوسائل لتوليدها... والتي تدار جميعها بإرادات مفسودة ومستوحاة من حال السياسة والمجتمعات ومنطق سيطرة رأس المال على الأسواق، وسيطرة هذه الأخيرة على كل السياسات.
مع نهاية العام 2013 تبدو الصورة بغاية السواد. صحيح أن السواد جزء من ألوان البيئة، إلا ان المشكلة هي في زيادة مساحته على حساب الألوان الأخرى، لاسيما الازرق والأخضر والأبيض.
لا تنفصل قضايا البيئة عن أي من قضايا العصر والمنطقة. كما لا تنفصل عن أي من القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
يمكن رد هذا السواد إلى ذلك الصراع الغاشم بين الدول الكبرى و(المتوسطة) في العالم على كل شيء، على الموارد والأسواق والمال والمستهلكين... والى تراجع دور الدول بعد فسادها، واستفحال ادوار القطاع الخاص وتخصيص جزء من ارباحه لتمويل افساد الدول والمجتمعات عبر مسمّيات جميلة كدعم الدول والشراكة معها وإراحتها من مهامها الاساسية عبر ما يُسمّى "الخصخصة" والتي لا تعني في الحصيلة سوى وضع اليد على الموارد العامة وسرقتها واستنزافها... وعبر ما يسمّى ايضاً "المسؤولية الاجتماعية للشركات" التي تعني التهرب من دفع الضرائب الحقيقية ومن معالجة الانعكاسات البيئية والاجتماعية للاستثمارات، عبر التبرع لبعض الجمعيات... مما يؤدي الى تراجع دور المجتمع المدني وفساده...الخ
كما يمكن ردّ السواد، إلى أوضاع المنطقة المتأزمة والى المرحلة الانتقالية التي تعيشها والتي لا تخلو من عنف. وإن الكمّ الهائل من العنف والإجرام الذي يمارس في المنطقة لن يترك مجالاً للأمل بمستقبل أفضل، لا بل سيساهم باتساع مساحات الأحقاد وتعميقها، وخلق قوى حاقدة لن تستطيع أن تحمل معها في المرحلة المقبلة مشاريع ثورية او اصلاحية حقيقية.
مع ضرورة التمييز أن "الحاقد" غير "الناقد". فالأول لا يستطيع أن يضع أفكاراً وبرامج مجردة، ولا يستطيع أن يكون موضوعياً ولا منطقياً... بينما يفترض بالثاني ان يكون لنقده أهداف سامية يسعى إلى تحقيقها، ويقبل النقد المضاد ويساهم في تعزيز "الفكر النقدي" الذي نفتقده كثيراً في ظل هذه الانقسامات الحادة، التي لا تتفق إلا على المساهمة في ترسيخ فكرة اللون الواحد الأحد، وعلى تسويد الوجوه وكل المساحات المتبقية في هذا العالم.