1--
(كلنا من أمر البحر في شك)
لا أحد الآن في مأمن من طوفان أو إعصار أو زلزال سواء أكان يسكن مدينة تحت مستوى سطح البحر، وسطح الفقر، أم إمارة معلقة على صخرة النجوم. فقد اثبت "تسونامي " أن في إمكانه تسلق طوابق عدة وابتلاع أناس كانوا يعتقدون" أن البحر يبتسم" كما اعتقد الجزائريون منذ سنتين أن المطر الذي انهمر عليهم بغتة كان استجابة لصلوات الاستسقاء، وإذا به يخبّئ لسكان العاصمة أكبر فيضان عرفته الجزائر، ذاهبا حد خطف أناس باغتهم في الشوارع .. وابتلاعهم عبر المجاري ليلقي بجثثهم بعد ذلك إلى البحر.
كما الحبّ "كلنا من أمر البحر في شك"، نرتاب من مجاورته ونشك في حسن نواياه؛ فما عاد البحر يهبنا اللؤلؤ والمرجان والحيتان، بل الفيضانات والدمار والأعاصير الاستوائية والحلزونية، التي لا رقم معروفا لضحاياها.
كل الأسماء النسائية والرجالية التي تطلقها هيئات الرصد الجوي، لتمنح اسما لكوارثنا الطبيعية" تضافرت وتناوبت لتهز ثقة الإنسان بسيادته على هذه الأرض"
من المعتدي ؟ الإنسان .. أم الطبيعة؟
إذا احتكمنا إلى إبراهيم الكوني، الذي يقول في كتابه " ديوان البر والبحر"، إن الطبيعة بيت الله الذي ندنسه بدل أن نتعبد فيه، يكون الرئيس المؤمن بوش، قد دنس بيوت الله كثيرا، وتجنى على الطبيعة كما تجنى على البشر؛ فقد أصرت إدارته على رفضها القاطع التوقيع على معاهدة كيوتو للاحتباس الحراري الذي أدى إلى ارتفاع درجات الحرارة في المحيطات، ما تسبب، حسب الخبراء، في تشكيل الأعاصير الواحد تلو الاخر؛ ذلك أن القرار الأميركي يصنعه الأثرياء، أصحاب الشركات الأكبر من الدول ويدفع ثمنه فقراء العالم، وفقراء أميركا الذين ما كنا لنعرف مدى فاقتهم لولا فضيحة هذا الإعصار المسمى كاترينا.
نفهم تماما أن يطالب أنصار البيئة بإطلاق أسماء الأعاصير على السياسيين، مقترحين أسماء جورج بوش، وكونداليزا رايس، وتوني بلير، ورامسفيلد، باعتبارهم مسؤولين عن معظم الكوارث الطبيعية التي تحيط بالعالم، وتتسبب في اتساع ثقب الأوزون، وارتفاع حدة التلوث في العالم، إضافة إلى الحروب التي يشعلها سوق السلاح. ففي أميركا، حيث تخترع شركات الدواء العملاقة الدواء أولا، ثم تخترع له مرضا يليق برواجه، درجت الحكومات الأميركية على إشعال حروب لاستهلاك ترسانة اسلحتها واختيار الجديد منها، غير عابئة بما ستخلفه قنبلة نووية على مئات الآلاف من البشر في هيروشيما، أو ما ستتنفسه الأمهات من سموم، تشهد عليها تشوهات الأجنة والمواكب الجنائزية المتتالية لنعوش أطفال العراق.
نكبة أميركا ليست في شعبها، الطيب غالبا، والساذج إلى حد تصديق كل ما يتنفسه من سموم إعلامية؛ نكبتها في حكامها الذين يصرون على سياسة التفرد والاستعلاء، حتى على الطبيعة؛ فبوش الذي ابتدع "الحروب الاستباقية" ما كان في إمكانه أن يستبق إعصارا أو يلحق به. ذلك أن أولوياته هي غير أولويات مواطنيه، بحكم أنه الراعي للإنسانية والقيم السماوية، والموزع الحصري للديموقراطية على جميع سكان الكرة الأرضية. فأين له أن يجد الوقت ليوزع الإغاثة على المنكوبين من مواطنيه، وهو مشغول بتوزيع جيوشه حسب الخرائط التي تمده بها الشركات البترولية في معقله في تكساس؟
الجبابرة، سادة العالم وأنبياؤه المزيفون، عليهم ألا يعجبوا إن هم ما استطاعوا احتواء غضب السماء ولا غضب الأرض. ما الطبيعة إلا يد الله، وكان لا بد لجبروتهم أن ينتهي تحت أقدامها.
( قلوبهم معنا، وقنابلهم علينا، ص ص 197-200 )
-2-
( أنين الناي)
لاحقاً أدركت أن غناء رجال "مروانة" كان امتدادا لأنين الناي في "القصبة" آلة بوح لا تكف عن النواح، كطفل تاه عن أمه، ويروي قصته لكل من يستمع إليه فيُبكيه. لذا الناي صديق كل أهل الفراق لأنه فارق منبته، واقتلع من تربته، بعد أن كان يعيش بمحاذاة نهر، عوداً أخضر على قصبة مورقة. ترك ليجف فأصبحت سحنته شاحبة، وانتهى خشبا جامدا. عندها تم تعريضه للنار ليقسو قلبه، وأحدثوا فيه ثقوبا ليعبر منها الهواء كي يتمكنوا من النفخ فيه بمواجعهم.. وإذا به يفوق عازفه أنينا.
( الأسود يليق بك، ص 64 )
-3 -
(العود والرصاصة)
عندما جاؤوا بجثمانه [ الأب الذي قتله المتشددون ] مع العود حمدت الله أنهم لم ينسوا عوده أو يسطوا عليه. رغم المصاب وتدفق الناس على بيتهم حال سماع الخبر، حضرتها فكرة إخفاء العود. ربما عاد أحدهم لكسره أو لمواصلة إطلاق النار عليه، فلعل رصاصة واحدة لا تكفي، وينبغي إفراغ مسدس في تلك الآلة الشيطانية.
كان العود قد اقتسم الرصاص مع سيده، كما يقتسم حصان النيران مع صاحبه في معركة؛ وكما يعود حصان جريح حاملا جثة صاحبه، عاد العود إلى البيت، معلنا موت من ظل رفيقه على مدى ثلاثين سنة، منذ أيام حلب، يوم قصد أبوها سوريا لتعلم الموسيقى، فكان أول عود اقتناه بالتقسيط لفخامته.
من الأرجح أن يكون أبوها قد احتمى بالعود، او أن العود حاول أن يفديه، ويرد عنه الرصاص، فما استطاع بصدره الخشبي أن يتلقى عنه سوى رصاصة واحدة، وذهبت اثنتان نحو رأس والدها فسقط متكئا عليه.
( الأسود يليق بك، ص 153 )
-4-
[ سألتْه وهما يتجولان في غابة بولونيا في باريس، والتي كان يحفظ أشجارها شجرة شجرة:]
_ لعلك إذن شبعت نساءً ؟
ردّ ضاحكا:
_ وربما شبعت أشجاراً !
_ حقا ؟
_ طبعا ..على الأقل بحكم عملي في صناعة الورق.
__ يكفي أني أقمت في البرازيل حيث رئتا العالم. أشسع الغابات توجد هناك، وأيضا مصانع الخشب والورق.
_ أي أنك تدلل الأشجار هنا، وتغتالها في مكان آخر.
_ لست من يغتالها. أنا أقدم الورق لكي يقرأ الناس الأوديسّة، وملحمة جلجاميش، و"فولتير"، والمتنبي، وجبران. المجرمون هم الذين يحتاجون لمسح غابة من على وجه الأرض لنشر كتب لا يقرأها أحد.. ولطبع جرائد بأوراق فاخرة نصفها محجوز للتهاني والتعازي ولـ"بزنس" الأفراح والموت.. ومجلات فخمة لا يمكنك حملها، مختصة بنشر أخبار "أمراء الصور".. الذين يدّعون برغم ذلك دفاعهم عن البيئة.
(الأسود يليق بك، ص. 177).
-5 -
_ازرع شجرة ترد لك الجميل، تطعمك من ثمارها، وتمدك بسبعة ليترات أكسجين يوميا، أو على الأقل تظللك، وتجمل حياتك بخضارها، وتدعو أغصانها الوارفة العصافير، ليزقزقوا في حديقتك. تأتي بإنسان وتزرعه في تربتك.. فيقتلعك أول ما يقوى عوده، يتمدد ويعربش، يسرق ماءك كي ينمو أسرع منك، تستيقظ ذات صباح وإذ به أخذ مكانك، وأولم لأعدائك من سلال فاكهتك، ودعا الذئاب لتنهشك وتغتابك. فكيف لا ينخرط المرء في حزب الشجر؟!
(الأسود يليق بك، ص.204)
- 6-
_ استعادت عافيتها وهي ترى ذلك المنظر المفتوح على شساعة السماء. أخيرا نجت من سطوة الفخامة المهيبة للمبنى، وما أيقظته فيها من أسى لا تعرف له سببا. فكرت أن الطبيعة مهما كانت مبهرة وخرافية، لا تشعرك بالنقص، ولا تلحق بك تشوهات نفسية، أنت لا تصغر وأنت تتأمل شلالات نياغرا الشاهقة، برغم ضخامتها، لأنك في الأصل كائن مائي، إنك ابن ذاك الشلال. ولا تصاب بعقدة نقص وأنت عند أقدام جبال الهملايا، برغم كونها أعلى قمة في العالم، فأنت ابن تلك الجبال، لأنك من تراب.
ثم.. تثري وتبني لك قصرا، في ضخامة كاتدرائية تناطح السماء، وإذا بك تصغر كلما وقفت أمامه، إنها خدعة الأحجام. لقد خلقت المساجد والكاتدرائيات لتقزم الإنسان، لأنها بنيت على قياس الله لا على قياسك، فهي بيوته.
(الأسود يليق بك، ص.ص 267_268)
-7-
كيف لي أن أعرف قياس امرأة ما سبرت جسدها يوما إلا بشفاه اللهفة...أعرف في أي عصر تراكمت حفريات رغباتها، وفي أي زمن جيولوجي استدار حزام زلازلها، وعلى أي عمق تكمن مياه أنوثتها الجوفية، أعرف كل هذا ولم أعد منذ سنتين أعرف قياس ثوبها.
(عابر سرير، ص 14)
-8-
أثناء مغادرتي انتابني حزن لا حد له، فقد فاجأني منظر موجع لغابة كانت على مشارف تلك القرية، وتم بعد زيارتي الأخيرة حرقها حرقا تاما من قبل السلطات، لإجبار الإرهابيين على مغادرتها، بذريعة حماية المواطنين من القتلة.
في كل حرب أثناء ثصفية حساب بين جيلين من البشر، يموت جيل من الأشجار، في معارك يتجاوز منطقها فهم الغابات.
" من يقتل من؟" مذهولا يسأل الشجر، ولا وقت لاحد كي يجيب جبلا أصبح أصلع، مرة لأن فرنسا احرقت أشجاره حرقا تاما كي لا تترك للمجاهدين من تقيّة، ومرة لأن الدولة الجزائرية قصفته قصفا جويا شاملا حتى لا تترك للإرهابيين من ملاذ.
باستطاعتنا أن نبكي: حتى الأشجار لم يعد بإمكانها أن تموت واقفة.
ماذا يستطيع الشجر أن يفعل ضد وطن يضمر حريقا لكل من ينتسب إليه؟
وبإمكان البحر أن يضحك: لم يعد العدو يأتينا في البوارج. إنه يولد بيننا في أدغال الكراهية.
(عابر سرير، ص ص 40_ 41)
-9-
أين ذهب الرجال؟ الكل يسأل:
اختفاء الرجولة لم يلحق ضررا بأحلام النساء ومستقبلهن فحسب، بل بناموس الكون وقانون الجاذبية.
ما الاحتباس الحراري إلا احتجاج الكرة الأرضية على عدم وجود رجال يغارون على أنوثتها. لقد سلموها كما سلمونا "للعلوج"، فعاثوا فيها وفينا خرابا وفسادا.
لتتعلم النساء من أمهن الأرض؛ لا أحد استطاع إسكاتها ولا إبرام معاهدة هدنة معها. ما فتئت ترد على تطاولهم عليها بالأعاصير والزوابع والحرائق والفيضانات. هي تعرف مع من تكون معطاءة وعلى من تقلب طاولة الكون.
ليعقدوا ما شاؤوا من المؤتمرات ضد التصحر والتلوث وثقب الأوزون والاحتباس الحراري. ليست الأرض مكترثة بما يقولون. هي تدري أن الرجولة لا تتكلم كثيرا، لا تحتاج إلا أن تكون، فيستقيم بوجودها ناموس الكون.
الرجولة..
هي التي تؤمن إيمانا مطلقا لا يراوده شك أنها وجدت في هذا العالم لتعطي لا لتؤذي، لتبني وتحب وتهب.
(نسيان، ص ص.13)
-10-
إذا كانت الهزات العاطفية قدرا مكتوبا علينا، كما كتبت الزلازل على اليابان، فلنتعلم من اليابانيين إذن، الذين هزموا الزلزال بالاستعداد له، عندما اكتشفوا أنهم يعيشون وسط حزامه.
يمر زلزال خفيف على بلد عربي، فيدمر مدينة عن بكرة أبيها، ويقضي على الحياة فيها لسنوات عدة ذلك أن الإنسان العربي قدري بطبعه، يترك للحياة مهمة تدبير أمره. وفي الحياة، كما في الحب، لا يرى أبعد من يومه، وهو جاهز تماما لأن يموت ضحية الكوارث الطبيعية أو الكوارث العشقية، لأنه يحمل في تكوينه جينات التضحيات الغبية للوطن وللحاكم المستبد..وللعالم وللأصدقاء وللحبيب.
وتصمد جزر اليابان يوميا في وجه أقوى الزلازل. كل مرة تخرج أبراجها واقفة ويخرج أبناؤها سالمين. عندهم يعاد إصلاح أضرار الزلازل في بضعة أيام، وتعدّ الخسائر البشرية بأرقام مقياس ريختر.. لا بقوته. فقلما تجاوز الضحايا عدد أصابع اليد.
صنعت اليابان معجزاتها بعقلها، وصنعنا كوارثنا جميعها بعواطفنا.. كما المباني اليابانية المدروس بناؤها ليتحرك مع كل هزة، علينا أن نكتسب مرونة التأقلم مع كل طارئ عشقي، والتكيف مع الهزات العاطفية، وارتجاجات جدران القلب التي تنهار بها تلك الأشياء التي أثثنا بها أحاسيسنا، واعتقدنا أنها ثابتة ومستمرة إلى جدران القلب إلى الأبد.
علينا أن نربي قلبنا مع كل حب على توقع احتمال الفراق، والتأقلم مع فكرة الفراق قبل التأقلم مع واقعه؛ ذلك أن في الفكرة يكمن شفاؤنا.
(نسيان، ص ص 28 - 29).