خاص بآفاق البيئة والتنمية
بالرغم من كثرة الحديث عن المشاكل البيئية من الوزن الثقيل، مثل التغير المناخي، انقراض الأنواع، وتلوث الهواء والماء، إلا أن الضجيج يعتبر أيضا الخطر الأكثر شيوعا والأكثر إزعاجا في جميع أنحاء العالم، وبخاصة في المناطق المكتظة سكانيا كما في فلسطين. نقول هذا الكلام بمناسبة الدراسة التي نشرتها المجلة الطبية الهامة: The Lancet في أواخر تشرين أول الماضي، وأعدها مجموعة خبراء من الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية، وفي مقدمتهم باحثون من جامعة بنسيلفينيا، حول العواقب الصحية الناجمة عن التعرض للضجيج (التلوث الضوضائي).
وبحسب الخبراء، قد يؤثر الضجيج مباشرة على حاسة السمع، إضافة إلى تسببه بأضرار صحية جدية لأجهزة الجسم الأخرى. منظمة الصحة العالمية تقدر بأن عُشْر سكان الكرة الأرضية يتعرضون للضجيج بشدة قد تتلف حاسة السمع. بل وفي الدول الأوروبية أيضا التي تبنى العديد منها سياسات بيئية متقدمة نسبيا، يتعرض أكثر من نصف المواطنين في المناطق الحضرية التي يعيش فيها أكثر من ربع مليون نسمة لمستويات من ضجيج المواصلات تعتبر خطرة على الصحة.
وتعد ظاهرة الطنين من الظواهر المألوفة الناتجة عن التعرض للضوضاء الشديدة؛ والمتمثلة تحديدا في سماع الأصوات دون وجود سبب خارجي لذلك. في بعض الأحيان يتم التعبير عن هذه الظاهرة من خلال الشعور بالرنين مرارا وتكرارا. ويسبب الطنين اضطرابات في النوم والإخلال في القدرة على الإصغاء.
وقد تفاقمت في السنوات الأخيرة الظاهرة المسماة بالضوضاء الاجتماعية. المقصود هنا هو الخطر المتأتي من الأنشطة الصاخبة، مثل حفلات الرقص الصاخبة أو تشغيل الموسيقى بشدة مرتفعة في المطاعم والفنادق وغيرها. وقد بين بحث جرى في بريطانيا، أن ثلثي الشباب الذين حضروا حفلات الروك أو ارتادوا النوادي الليلية في مدينة نوتينغهام، قد عانوا من تلف مؤقت في حاسة السمع ومن ظاهرة الطنين.
مشكلة الضجيج الاجتماعي معروفة جيدا في بلدنا أيضا؛ وقد نجدها في العديد من المقاهي والمطاعم والفعاليات والمناسبات التي يتم إحيائها في الشارع (باستخدام مكبرات تبث شدة صوت مؤذية). إحدى الطرق المقترحة للتعامل مع الضجيج الاجتماعي هي وضع أجهزة لقياس الضجيج. في حال أظهر الجهاز أن الضجيج أعلى من الحد المسموح به؛ عندئذ يجب على أصحاب المطعم أو المقهى أو القائمين على مناسبة أو حفل معين العمل على تخفيض مستوى الضجيج. ومن خلال سن قانون خاص بالتلوث الضوضائي، يمكن إلزام القائمين على المنشآت أو الأماكن التي قد ينبعث منها تلوث ضوضائي، باستخدام مثل هذه الأجهزة.
وتتضمن الدراسة المنشورة في مجلة The Lancet المستجدات المثيرة في مجال التطور البحثي الخاص بالعوامل المسببة لتلف السمع، وطرق العلاج. ومن جملة الأمور التي وردت في الدراسة، أن معطيات الأبحاث خلال السنوات الخمس الأخيرة تشير إلى أن تلف حاسة السمع قد ينتج من تداخل العوامل البيئية والوراثية؛ فالوراثة قد تفسر لنا نحو نصف الاختلافات بين الأفراد فيما يتعلق بشدة الإصابة في حاسة السمع.
ويقدر الباحثون بأنه خلال العقد القادم سوف يتم تطوير بعض الأدوية التي من شأنها تقليل إصابة الخلايا في الجهاز السمعي. وقد جربت بعض الأدوية على الحيوانات، ما أدى إلى منع تلف حاسة السمع أيضا في الحالات التي تم فيها تعريض تلك الحيوانات لضجيج مرتفع خلال بضع ساعات. ومع ذلك، فإن التجارب الإكلينيكية على البشر هي القادرة فقط على إعطائنا الإجابة على التساؤل فيما إذا كان هذا الدواء آمن وفعال.
وبالإضافة إلى الجهاز السمعي، أثبتت أبحاث كثيرة جرت على الحيوان والإنسان، بأن التعرض للضجيج قد يتسبب في أضرار كثيرة للقلب والأوعية الدموية، ابتداء من التغيرات الطفيفة ووصولا إلى زيادة احتمال الإصابة بنوبات قلبية. وقد تؤدي الضوضاء إلى تغيرات في ضغط الدم ومعدل النبض، إضافة إلى إفراز هورمونات مميزة لظروف الإجهاد والضغط. وبحسب أبحاث أخرى، تؤثر الضوضاء البيئية سلبيا على قدرة التعلم لدى الأولاد وعلى نموهم الإدراكي. وبالمقارنة مع الأولاد الذين يعيشون في بيئة هادئة نسبيا، فقد تبين وجود تدني نسبي واضح في مهارات القراءة والذاكرة لدى الأولاد الذين تعرضوا بشكل مزمن للضجيج بشدة مرتفعة نسبيا، وبخاصة ضجيج المواصلات في الشوارع، والطائرات، والقطارات.
وإلى جانب إصابة حاسة السمع بشكل مباشر، تتمثل الأضرار الصحية الأكثر شيوعا في اضطرابات النوم بأنواعها المختلفة؛ علما بأن الأطفال والعمال والمسنين هم الأكثر حساسية لذلك. ومن بين الآثار غير المباشرة لاضطرابات النوم يمكن الإشارة إلى تدني الحالة المزاجية والتعب خلال النهار وضعف القدرة الإدراكية. الإزعاج الناتج عن اضطرابات النوم شائع خصوصا في المناطق السكنية التي تقع بالقرب من المطارات وطرق المواصلات الرئيسية.
ولمنع التعرض للأمراض الناتجة عن التلوث الضوضائي، يفترض سن وتنفيذ القوانين الخاصة بهذا السياق. إضافة إلى تطبيق إجراءات فنية مثل إنشاء الجدران العازلة للصوت كشرط لمنح الموافقة على خطط إنشاء الطرق والمطارات وغيرها من بؤر الضوضاء. علاوة على إقرار لوائح معتمدة تفرض قيوداً على الأنشطة التي تولد الضوضاء، بما في ذلك تقصير عدد الساعات التي يسمح فيها ممارسة أعمال البناء أو الترميم أو غير ذلك من الأنشطة المثيرة للضجيج.
ويفترض أيضا بالجهات المعنية (الهيئات المحلية والشرطة مثلا) أن تتخذ إجراءات عقابية قانونية (غرامات مالية رادعة) بحق مثيري الضوضاء المؤذي للصحة العامة، وبحق أصحاب قاعات المناسبات والأعراس عندما يتسببون في ضجيج مؤذٍ للجيران.