جورج كرزم
خاص بآفاق البيئة والتنمية
ارتفعت في العامين الأخيرين العوائد النفطية العربية إلى معدلات قياسية، فبلغت 738 مليار دولار عام 2012؛ مرتفعة من 677 مليار دولار عام 2011، وذلك دون احتساب الدخول الناتجة عن الصناعات البترولية الأخرى. وحاليا، تبلغ العوائد النفطية في المملكة العربية السعودية أكثر من مليار دولار يوميا؛ وتتصدر الأخيرة دول العالم في إنتاج النفط بمعدل يفوق 10 ملايين برميل يوميا، مستفيدة من تعطل ضخ النفط الليبي بسبب حالة نهب الثروات النفطية والفوضى الدموية التي نشرها المستعمرون الأطلسيون وأعوانهم العرب في ليبيا.
وقدرت الاحتياطات النفطية المؤكدة لدى الأقطار العربية العام الماضي (2012) بنحو 714.4 مليار برميل، بنسبة 48.2% من الاحتياطي العالمي البالغ 1481.5 مليار برميل. أما الإنتاج النفطي للأقطار العربية فبلغ نحو 22.1 مليون برميل يوميا، أي 31.4% من الإنتاج العالمي.
ورغم تخلف بلدانهم اقتصاديا واجتماعيا، فإن الملوك والأمراء والسلاطين العرب تصدروا قائمة أغنى 15 شخصية حاكمة في العالم لعام 2011 (مجلة “Forbes” الأميركية، 24/04/2011)؛ إذ وقع سبعة منهم ضمن أغنى ملوك العالم. وبلغ صافي الثروة الشخصية للملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود (باستثناء العقارات التي تملكها الحكومة والدولة أو ولي العهد) 18 مليار دولار. ومصدر هذه الثروة هو الأرباح المتأتية من القطاع النفطي. الملك السعودي احتل المرتبة الأولى عربيا من بين أغنى الملوك والأمراء العرب، والثالثة عالميا (بعد ملك تايلند وسلطان بروناي). كما احتل خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات وحاكم إمارة أبو ظبي المرتبة الثانية عربيا والرابعة عالميا؛ إذ بلغت القيمة الصافية لثروته الشخصية 15 مليار دولار، والمصدر الأساسي لهذه الثروة هو أرباح جهاز أبو ظبي للاستثمار (نيسان 2011).
وبالرغم من هذه الدخول الضخمة، فإن نسبة الأمية في دول الخليج العربي الغارقة في بحار النفط، تتراوح بين 25% و60%. كما أن معظم شعوب الأقطار العربية المنتجة للنفط محرومة من الرعاية الصحية الأساسية، إذ تعاني المشافي من الإهمال الخطير والنقص الكبير في الخبرات الطبية والأدوية الأساسية.
السؤال الهام المطروح هو: من يتحكم بالموارد والعوائد النفطية العربية الضخمة، وكيف تتم عملية تقاسمها وتوزيعها؟ المسألة الأكيدة أن العديد من "الزعماء" العرب ينفقون ويبذرون جزءا كبيرا من العوائد المالية الناتجة من موارد بلدانهم الطبيعية، والمتمثلة بمئات المليارات، على صفقات الأسلحة، طمعا في العمولات المرتبطة بها. كما أن الارتفاع الكبير في العوائد النفطية العربية يبعثر معظمه لخدمة و"ترفيه" العائلات والعشائر الحاكمة التي تتصرف بثروات وأموال ومواطني أقطارها باعتبارهم ملكية خاصة لها.
لقد راكم العديد من الأثرياء العرب أموالهم من العمولات في الصفقات المشبوهة، ومن خلال خدمتهم لأمراء وملوك ورؤساء فاسدين، أي أن ثرواتهم ليست أكثر من "مال حرام"، وهي، غالبا، ليست أرباحا ناتجة عن نشاطات تجارية مشروعة.
ومع ذلك، تواصل الولايات المتحدة الأميركية والعديد من الدول الأوروبية دعمها للأنظمة العربية المتحكمة بالثروة النفطية والناهبة لها، بالشراكة مع كبرى شركات النفط الأميركية والعالمية، علما بأن هذه الأنظمة لا تعرف الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات العامة، بل هي عبارة عن أنظمة عائلية وقبلية ديكتاتورية. بمعنى أن الدعم الغربي لهذه الأنظمة، يعني عمليا دعما للفساد والقمع، وذلك لأن تأمين تدفق النفط بأسعار مناسبة يقف على رأس مصالح الدول الكبرى في المنطقة العربية.
حروب الطاقة
يتميز الاقتصاد القائم على الطاقة الأحفورية (النفط والفحم الحجري والغاز الطبيعي) باعتماده على مخزون محدود وغير متجدد من الطاقة، علما بأنه استنادا إلى الاستهلاك العالمي الحالي للطاقة، فإن الاحتياطي العالمي من النفط الذي تبلغ حصته من الطلب العالمي على الطاقة نحو 40%، سيجف خلال العقود القريبة القادمة. بمعنى أن الثروة النفطية العربية ستتلاشى عاجلا أم آجلا. وسيزيد هذا الوضع من الأزمات الاقتصادية العالمية، بسبب الارتفاعات الكبيرة المتوقعة في أسعار النفط. بل، وللتخفيف من حدة الأزمات والتوترات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتوقعة في الدول الصناعية "المتقدمة"، تعمد هذه الدول، تحت ذرائع واهية، إلى شن حروب عسكرية لضمان نهبها لمصادر الطاقة غير المتجددة، والتي يقع الجزء الأكبر منها في دول الجنوب، والدول العربية الخليجية تحديدا. وما شن الحرب الاستعمارية على العراق وبعدئذ على ليبيا، وتفتيتهما كدول كانت قائمة، سوى المثال الصارخ الأكثر سطوعا على ذلك. فهاتان الدولتان تم تحويلهما إلى دول فاشلة، كما في أفغانستان والصومال قبل ذلك؛ فعمت الفوضى والبلطجة الدموية وحكم القبائل والعشائر والطوائف والعصابات المسلحة. كل ذلك، بهدف ضمان تدفق النفط بحرية إلى الدول الغربية، إضافة إلى ضمان التفوق العسكري الاستراتيجي لإسرائيل. لكن، الملاحظ في ليبيا تحديدا، أن الرياح الليبية جرت بما لا تشتهي السفينة الأميركية؛ فسيطرت العصابات المسلحة على مواقع الإنتاج وموانئ التصدير، لتنخفض الصادرات النفطية إلى أقل من 10% مما كان عليه الحال قبل العدوان العسكري الغربي عام 2011.
وقد تعمد نفس الدول الغربية أيضا، بدعاوى حقوق الإنسان والديمقراطية وما شابه من كليشهات، إلى تجزئة وتفتيت دول أخرى غنية بمصادر الطاقة الأحفورية، على أساس عرقي أو طائفي أو قومي. لهذا، سبق أن أكدت "الإستراتيجية الجديدة" للحلف الأطلسي لعام 1999 على أن مهمتها الجديدة ستكون "تأمين الوصول إلى المصادر على الصعيد العالمي".
ولتسهيل عملية تمرير مشاريعها الاستعمارية، وتثبيت الأنظمة العربية والإسلامية المتحالفة معها، كان لا بد للولايات المتحدة الأميركية من أن تشن أيضا- من خلال أدواتها العربية والإسلامية- حربا مدمرة شاملة على الأقطار العربية الممانعة لها والتي تمتلك مخزونا حضاريا وثقافيا غنياً وعريقا، وتحديدا القطر السوري؛ بهدف تفتيتها وبالتالي القضاء على الحركات والمنظمات الوطنية المقاومة للمشاريع الإسرائيلية والأميركية في المنطقة العربية.
ويتميز الواقع الحالي لاحتياطي مصادر الطاقة التقليدية غير المتجددة، بوجوده في بقع معينة محدودة من العالم، إلا أن استهلاكه غير متمركز، وينتشر في كل بقاع الأرض. ومع ذلك فإن استغلال هذه المصادر يتميز بالتمركز الشديد بأيدي بضع شركات احتكارية غربية، تعمل باستمرار على زيادة التمركز والاحتكار تحت ستار ما يسمى بالعولمة.
إذن، تقف الدول الصناعية ومن خلفها شركات النفط الضخمة، مثل شيفرون واكسون وموبايل الأميركية، وبريتش بتروليوم البريطانية، وشل الهولندية، وغيرها من عمالقة النفط، متأهبة دائما للحرب من أجل الهيمنة المطلقة على منابع النفط في الخليج العربي وشمال أفريقيا والتفرد بهما. وهذا ما يفسر تحول المنطقة العربية والإسلامية، مجددا، إلى ساحات حروب طاحنة.
وحاليا، تجثم الولايات المتحدة فوق منابع النفط في الخليج العربي، وتحاصرها بالقواعد العسكرية، وتهيمن شركاتها على حصة الأسد من الغنائم النفطية.
وغالبا ما تكون الشعارات الأميركية في "مكافحة الإرهاب" ونشر "الديمقراطية" و"حقوق الإنسان" مجرد غطاء لتثبيت وتوسيع السيطرة على الموارد النفطية العربية والإسلامية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك، ما رشح من الوثائق الأميركية التي تسربت، في حينه، وكشفت دور شركات النفط في رسم السيناريو الأفغاني منذ مطلع التسعينيات، أي قبل أحداث سبتمبر 2001، إذ خططت هذه الشركات لاحتلال أفغانستان وتمديد أنابيب النفط والغاز عبر أراضيها، ابتداء من آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمنستان وأوزبكستان)، وصولا إلى باكستان والبحر. إذن، من المحتمل جدا أن يتجدد مسلسل حروب الطاقة، بل، وخلال العقدين القادمين، من المرجح أن ينتقل هذا المسلسل من منطقة الخليج إلى الدول النفطية الصغيرة في أسيا الوسطى، ذلك أن استخراج الطاقة والاستهلاك الغربي لها، والنمو الاقتصادي يتسارع بقوة إلى الأعلى، ليس فقط في أوروبا وأميركا، بل أيضا في بعض الدول النامية كالصين والهند. وتعد قفزة الأسعار الكبيرة في سوق النفط، خلال العامين 2007-2008 نذير شؤم، لأنها نتجت عن نضوب النفط في بعض الحقول الكبيرة في فنزويلا، فضلا عن النضوب المتوقع، حتى العام 2015، في آبار سيبيريا في روسيا، والتي يصدر جزء كبير من نفطها إلى الأسواق الغربية الصناعية. يضاف إلى ذلك، أن الإدارة الأميركية لا تستبعد احتمال فقدانها الهيمنة على موارد النفط العربية، وذلك بسبب الانفجار السياسي-الاجتماعي المحتمل في الوطن العربي.
من هنا يمكننا أن ندرك سبب إصرار الإدارة الأميركية على التعامل مع أي تحرك ينادي به العلم لمواجهة التغير المناخي، من منظور مصالحها المالية والتجارية. فالولايات المتحدة، كما أوضح في حينه الرئيس جورج بوش الابن في خطابه السنوي التقليدي عن حالة الاتحاد في كانون الثاني 2006: "نواجه تبعية في النفط الذي يأتي غالبا من مناطق غير مستقرة في العالم...والطريقة الوحيدة لإنهاء تبعيتنا هي التكنولوجيا...التقدم الخارق في التقنيات سيساعدنا على تحقيق هدف الحصول على بديل لأكثر من 75% من وارداتنا النفطية من الشرق الأوسط بحلول عام 2025...". بمعنى أن الدوافع الأميركية الأساسية للتفتيش عن بدائل للطاقة النفطية (بما في ذلك النفط الصخري)، ليست بيئية تهدف إلى الحد من الانبعاثات الكربونية، بل تجارية واقتصادية وسياسية بالدرجة الأولى، نابعة من التخوف الأميركي من أي تغيرات أو انقلابات سياسية جذرية تطيح بالأنظمة الخليجية النفطية الحالية الحليفة للولايات المتحدة. لذا، بما أن الحسابات الأميركية هي تجارية – سياسية في المقام الأول، فإن الإدارة الأميركية ترفض بقوة الالتزام بنسب كمية لتخفيض الانبعاثات الكربونية.
مطالبة الفقراء بالحفاظ على الموارد
بالرغم من تحكم حفنة صغيرة من العائلات والنخب الحاكمة والأثرياء في الدول العربية، بالموارد الطبيعية والنفطية، وسيطرتها عليها، إلى جانب الشركات الاحتكارية الأميركية والأوروبية الضخمة، فإن الفقراء والمحرومين العرب والمسلمين هم الذين غالبا ما يطالبون بالمحافظة على الموارد للأجيال القادمة!
وقد عبر التنموي المصري د. محمد عاطف كشك عن هذه المفارقة، ببلاغة تنموية-بيئية-سياسية، إذ قال: "هناك ما يشبه الاتفاق الضمني على أن محاربة الفقر يجب أن تستمر في نطاق الكلام المتضمن في أحاديث منمقة وتقارير هامة واتفاقيات دولية ومؤتمرات كبرى... وربما كان المقصود بكثرة الكلام التغطية علـى الأفعـال التـي تصنع وتكرس الفقر... والمثير للدهشة أن الفئة المسيطرة والمهيمنة تطالب الفقراء البائسين اليائسين بضرورة تحمل أعباء المحافظة على الموارد للأجيال القادمة، فيما تدعو إليه من تنمية مستدامة". وكأن فقراء دول "الجنوب" هم الذين يستنزفون وينهبون ويدمرون موارد وبيئة الأجيال القادمة. وهنا يتحول، عمليا، مصطلح "الأجيال القادمة"، إلى مصطلح يقصد به، في نهاية المطاف، الأجيال المحتكرة والسارقة للموارد التي على الشرائح الشعبية الفقيرة الجائعة أن "تحافظ" عليها لصالح الشركات الاحتكارية العالمية واللصوص الدوليين والمرتبطين بهم والمنتفعين منهم محليا، من حكام وشرائح طبقية طفيلية وبيروقراطية.
وهنا لا بد من التذكير أن الدول الصناعية الغربية تستهلك أكثر من ثلاثة أرباع الموارد العالمية، وبالتالي فهي تلعب دورا أساسيا في عملية تدمير البيئة العالمية. فهل يعقل، على سبيل المثال، مطالبة الفقراء والمسحوقين العرب الذين يشكلون غالبية السكان في الوطن العربي، والذين يفتقرون إلى أي شكل من أشكال السيادة على الثروات والموارد العربية، أن يحموا ويصونوا هذه الموارد والثروات التي تنهبها حاليا الشركات الأميركية والغربية "العابرة للقوميات" التي هي نفسها، وبالتعاون مع الأنظمة والشرائح الطبقية المنتفعة، عملت وتعمل على تعميم وترسيخ أنماط حياتية استهلاكية ملوثة لإنسانية الإنسان العربي وبيئته؟
وعلى ضوء الممارسات الهمجية للغزاة في العراق وسوريا وليبيا، والمتمثلة في عمليات القتل المنظم بالجملة والمجازر البشرية الجماعية، وجرائم نهب وسلب الموارد الطبيعية والموروث الحضاري والثقافي العربي والإسلامي، وفظائع التعذيب السادي المقترفة في سجون ومعتقلات المحتلين وأعوانهم، يبرز السؤال البديهي بكل قوة: هل يعقل أن يعمل صانعو الموت وسارقو الموارد الوطنية على مكافحة الفقر والجوع ونشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان؟
التجزئة العربية وتبديد الثروات الطبيعية
من الملاحظ، أنه تحت عنوان "العولمة"، فإن غالبية التدفقات الاستثمارية المباشرة والمكثفة تتركز باضطراد، وبشكل مهيمن، في دول "الشمال" تحديدا وليس "الجنوب". وفي المستوى العربي، تبلغ حصة الوطن العربي من الاستثمار الأجنبي نحو 1% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة في العالم، وهي نسبة متدنية، علما بأن العالم يتعامل (إحصائيا واقتصاديا) مع المنطقة العربية بشكل عام وليس كل قطر على حدة. وبالرغم من التنافس الحاد القائم بين الشركات الغربية العملاقة، إلا أن مصلحة مشتركة توحدها، وتتمثل في الدفاع عن سيطرتها على الأسواق ومنع دخول منافسين جدد إليها.
علاوة على ذلك، يعمل كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بشكل منهجي، على ربط "مساعداتهما" لدول "الجنوب"، وإعادة جدولة ديونها بتنفيذ الأخيرة لخططهما وبرامجهما الاقتصادية التي هي ليست مجرد "نصائح" أو "وصفات"، بل أوامر على دول "الجنوب" المدينة تنفيذها تحت رقابة البنك والصندوق المشددة، الأمر الذي يمكن اعتباره مدخلا جديدا لإعادة استعمار "العالم الثالث"، باسم "التنمية" الاقتصادية المنشودة التي تغلف التفنن في أشكال نهب الموارد المالية، الذي تجسد، خلال العقود الثلاثة الماضية، في سلخ رأسمال صاف بقيمة مئات المليارات من الدولارات سنويا، من دول "الجنوب" الى دول "الشمال"، كخدمة ديون وأموال مهربة إلى المصارف الغربية وأخرى "مجهولة" الأصل. وهذه المبالغ بمجملها أكبر بأضعاف من الأموال التي نهبها الاستعمار التقليدي المباشر من مستعمراته السابقة طيلة قرون!
وبهدف صبغ عملية استنزاف الغرب للموارد المادية والبيئية والفوائض العربية والإسلامية والعالم الثالث إجمالا بالصبغة "القانونية"، قررت "منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية" (OECD) التي تضم أغنى 29 دولة في العالم، في أوائل عام 1998، تشكيل "محكمة دولية" تتولى الدفاع عن "حقوق" الشركات الاحتكارية المتعددة الجنسية التي قد "تتضرر" مصالحها بسبب القوانين المحلية للدول، بمعنى محكمة "تدافع" عن "حق" الاحتكارات الغربية في انتهاك سيادة دول "الجنوب" وفي ضرب مصالحها ومواردها الوطنية!
أما الأقطار العربية، فقد حطمت الدول الصناعية الغربية مقومات اقتصادها الإنتاجي وحولتها إلى أسواق استهلاكية للسلع الغربية، ولم يُبْقِ لها الغرب ما تصدره لأسواقه، لأنها تفتقر أصلا إلى الصناعات الحقيقية المنافسة، سواء الخفيفة أو الثقيلة (التكنولوجيا، الأسلحة، الآلات، الماكنات، السيارات، الطائرات وغيرها)، وإنتاجها هامشي وهزيل. ومع ذلك، تلهث الأنظمة العربية للإنضمام لمنظمة التجارة العالمية، وبالتالي فتح ما تبقى من أسواقها للغرب الذي لو فتح أسواقه بالكامل، فلن تستفيد الدول العربية من ذلك شيئا.
وهنا لا بد من التأكيد على أن تجزئة الوطن العربي التي فرضت بالقوة لا يمكنها أن تستمر في الحياة إلا بالقوة العسكرية الغربية التي تعيق وحدة الأمة العربية والوطن العربي. وتتجسد خطورة التجزئة العربية ودورها في تشويه وتشتيت الثروات الطبيعية والاقتصاديات العربية في حقيقة أن نسبة استثمار الأموال العربية داخل الوطن العربي لا تزيد عن 2.5% من إجمالي الاستثمارات العربية خارج الوطن العربي، والبالغة أكثر من 2000 مليار دولار (2 تريليون دولار)، ناهيك عن أن التجارة البينية العربية لا تتجاوز حاليا 7% من مجمل التجارة العربية الخارجية، بينما تستورد الدول العربية نحو 93% من احتياجاتها من العالم الخارجي. فالوطن العربي يستورد معظم احتياجاته الغذائية، حيث يستورد، على سبيل المثال لا الحصر، أكثر من 55% من الحبوب ونحو 70% من الزيوت.
ويشير هذا الواقع إلى أنه لا يمكن أن يكون ثمة تنمية زراعية واقتصادية وصناعية وبيئية فعالة وناجحة ونوعية في أي قطر عربي، بما يؤدي الى رفع مستوى معيشة الجماهير العربية ورفاهيتها، ما دامت التنمية تتقوقع في الإطار الإقليمي الضيق أو في إطار التبعية للدول الغربية.
لقد فرض الغرب الاستعماري تجزئة الوطن العربي على أساس دويلات لا تملك كل منها، على حدة، مقومات الوجود الذاتي المستقل، حيث ركز الثروات العربية الضخمة في الأقطار قليلة السكان، واصطنع أقطارا ضخمة الثروات والمساحة وقليلة السكان، وترك أقطارا أخرى كثيرة السكان بموارد بيئية شحيحة ومحدودة، أو شحيحة السكان والثروات معا. وللإمعان في تثبيت وتعميق هذا الواقع الجيو-سياسي الفسيفسائي الكولونيالي، لم تتورع دول الغرب الاستعماري، في السنوات الأخيرة، من تفتيت ما هو مفتت أصلا (العراق، سوريا، ليبيا، السودان، اليمن، وربما لاحقا مصر، وهلم جرا...)، لضمان منع أي نهوض عربي مناهض لمشاريع النهب الاستعماري للبلاد العربية.
وتعد مصر مثالا صارخا على التوزيع المشوه للجغرافيا والموارد العربية، إذ أنها تعد فقيرة بالموارد الطبيعية، وتشكل الصحراء 97% من مساحتها، وهي تعتمد بشدة على نهر النيل في وجودها. كما أن السكان (أكثر من 80 مليون) ينتشرون على 5% فقط من مساحة البلاد، علما بأن أقل من 4% من مساحة مصر قابلة للزراعة.
وبالرغم من شراء العديد من الأنظمة العربية لوصفات البنك وصندوق النقد الدوليين المتعلقة بما يسمى "التصحيح الهيكلي" و"الخصخصة" و"السوق الحرة"، وبالتالي تراجع القطاع العام والتخطيط، فإن ما تروج له هذه الأنظمة من مقولات المؤسسات المالية الدولية بأن هذه الوصفات والمشاريع ستأتي على العرب بالازدهار الاقتصادي، ليس أنها لم تتحقق فحسب ، بل أن هناك تدهورا مستمرا في قدرة معظم الأقطار العربية على توفير الغذاء لشعوبها استنادا الى الموارد المحلية، وبالتالي زيادة التبعية للغذاء المستورد. كما تفاقمت الفجوة الاقتصادية - الاجتماعية بين الأقلية التي تتمتع بالمداخيل والثروات الهائلة والتي يعد معظمها طفيليا وغير منتج، وبين الأغلبية الساحقة التي تعاني من الفقر المادي والغذائي، ناهيك عن استفحال البطالة والزيادة الكبيرة في قوة العمل العربية المهاجرة الى خارج أوطانها، دون الحديث عن تفاقم الفساد والزيادة الكبيرة في نسبة الإنفاق على استيراد السلع الاستهلاكية الترفيهية والكمالية من إجمالي الإنفاق العربي، وبالتالي تعميق عملية تلويث وتشويه وتدمير البيئة العربية.
وبالرغم من انفتاح معظم الأسواق العربية أمام الاحتكارات والشركات الأجنبية، إلا أن استثمارات الأخيرة في البلاد العربية ظلت شبه معدومة (لم تتجاوز بضعة ملايين من الدولارات)، بينما ارتفعت قيمة الديون العربية الخارجية بنسبة ضخمة، خلال فترة قصيرة، فبلغت مئات مليارات الدولارات في الوقت الذي تقدر فيه رؤوس الأموال العربية الخاصة الموظفة والمستثمرة في الخارج بأكثر من ألفي مليار دولار. كما تعمقت تبعية الأنظمة العربية الأمنية والمتمثلة في استيراد غالبية الأنظمة لأمنها من أميركا بشكل خاص.
علاوة على ذلك، فإن الاستثمارات العربية المنتجة (في الأقطار العربية) ضئيلة جدا، علما بأن جميع البلاد العربية، كما يشير الاقتصادي العربي البارز سمير أمين، "تعاني من مرض مزمن مشترك ألا وهو ضعف فاعلية استثماراتها". ويتمثل هذا الضعف في ارتفاع ما يعرف بمعدل رأس المال الحدي الذي ضرب، منذ أواخر الثمانينيات، أرقاما قياسية، ندر وجودها على المستوى العالمي، فوصل في المغرب العربي إلى 26 وفي المشرق 9، مقابل المعدل الأسيوي الذي تراوح، منذ نفس الفترة، بين 2 و4 (العلاقة بين معدل رأس المال الحدي وفاعلية الاستثمار عكسية). وبالرغم من هذا الفارق الكبير بين المعدلات الحدية العربية والآسيوية، لصالح الأخيرة، فقد انهارت، في أواسط التسعينيات، الاقتصاديات الآسيوية، الأمر الذي يبرز البؤس الرهيب الذي يتخبط فيه الواقع التنموي - الاقتصادي العربي إجمالا. وللمقارنة فقط، فإن فاعلية الاستثمار العربي في الخمسينيات والستينيات، كانت أفضل مما هي عليه اليوم، إذ تراوح معدل رأس المال الحدي في حدود 8-8.4، بل إن معدلات النمو، خلال نفس الفترة، كانت أيضا أعلى بكثير مما هي عليه الآن.
والنتيجة الواضحة، أن سياسات "السوق الحرة" و"الانفتاح" الاقتصادي على الغرب و"التصحيح الهيكلي" تميزت بتبذير أكبر في الموارد النادرة وغير المتجددة، وتعظيم أضخم للمديونية الخارجية وتعميق أشد للفجوات الاجتماعية-الاقتصادية، قياسا مع المرحلة الوطنية في الخمسينيات والستينيات، أو قياسا مع الخيارات الأخرى. ناهيك عن ترسيخ ثقافة السوق التي تطمس الاعتبارات الوطنية والإنسانية والبيئية والثقافية لدى استيراد أو إنتاج السلع، وتتمثل الاعتبارات الوحيدة لهذه الثقافة في السعر والربح والنوع والجودة.
بل، وتنفيذا لمتطلبات "الخصخصة" التي تعد من أهم ركائز "السوق الحرة"، فقد سنت بعض الأنظمة قوانين جديدة تبرر عملية إفقار الفقراء وإغناء الأغنياء، كما حدث في أواخر التسعينيات في مصر، حيث ألغت الحكومة من "قانون المستأجر والملاك"، البند الذي كان يضمن حماية مستأجر الأرض (الفلاح المصري) من تحكم الملاكين والإقطاعيين الذين منعهم القانون السابق (الذي سنه النظام الناصري) من رفع إيجار الأرض أو طرد الفلاح منها. وبالنتيجة أعيدت للإقطاعيين القدامى "حرية" استبداد ملايين الفلاحين المصريين الفقراء الذين حرموا من مصدر رزقهم الوحيد، الأمر الذي أشعل، في الريف المصري، مواجهات عنيفة بين الفلاحين، من جهة، والملاكين وقوات الأمن، من جهة أخرى. وبسبب تبني النظام المصري لسياسات "السوق الحرة"، وبالتالي انسحابه من تقديم الدعم والخدمات والإرشاد الزراعي للفلاحين، فقد ازدهرت عمليات النصب على المزارعين التي امتهنتها العديد من شركات التسويق والتصدير الخاصة.
وبالرغم من أن معظم الأقطار العربية ظلت مكتفية غذائيا حتى بداية السبعينيات، وكان بعضها في الخمسينيات والستينيات يصدر الحبوب والقمح مثل مصر والسودان، إلا أنها أصبحت حاليا من أكبر مستوردي المنتجات الغذائية في "العالم الثالث"، علما بأن الزراعة في العديد من الدول العربية تستوعب أكثر من نصف قوة العمل، وفي بعض الأحيان قد تصل النسبة إلى 70%، إلا أن مساهمة الزراعة في إجمالي الناتج المحلي العربي لا تزيد عن 20% في أحسن الحالات، ناهيك عن وجود مساحات شاسعة من الأراضي العربية الصالحة للزراعة غير مستغلة (نحو 910 مليون دونم)، أي أكثر من 68% من إجمالي المساحات الصالحة للزراعة في الوطن العربي والتي تقدر بنحو 1330 مليون دونم، وهذا يعني أن المساحات المزروعة تبلغ حوالي 420 مليون دونم (أقل من 32% من إجمالي المساحات الصالحة للزراعة). كما تهاوى الوطن العربي، منذ أواخر الثمانينيات، إلى فجوة غذائية قدرت بمئات مليارات الدولارات، هي عبارة عن الفارق بين إجمالي الاستيراد من الدول الأجنبية والصادرات العربية. ويكمن السبب المباشر لأزمة الغذاء العربي في كون الزيادة بمعدل الطلب على المنتجات الزراعية أعلى من نسبة نمو الإنتاج الزراعي السنوي، بفارق نحو 4% سنويا لصالح الزيادة بمعدل الطلب. وبالمقابل، نجد كما هائلا من الموارد البشرية المعطلة والمشلولة والمنسلخة عن بيئتها الوطنية، والمتمثلة بملايين الأيدي العاملة العربية العاطلة عن العمل والمهاجرة إلى خارج أوطانها، حيث تقدر نسبة البطالة العربية بأكثر من 23% من إجمالي القوى العاملة، أي أكثر من 25 مليون عاطل عن العمل من بينهم نسبة مرتفعة من الشباب المتعلم. وتشهد المنطقة العربية أعلى معدلات بطالة في العالم. وفي نفس الوقت يعج الوطن العربي (خاصة دول الخليج) بالعمال و"الخبراء" والفنيين الأجانب. وإذا استمرت معدلات البطالة العربية بنفس الوتيرة الحالية فيتوقع أن يرتفع عدد العاطلين عن العمل، عام 2015، إلى أكثر من 50 مليونا معظمهم من الشباب.
خلاصة واستنتاجات:
الحقيقة أن الدول الصناعية الغربية تستهلك أكثر من ثلاثة أرباع الموارد العالمية، وتنبعث منها نفس النسبة من غازات الدفيئة. لذا، يستطيع سكان هذه الدول، فرادى وجماعات، التأثير إيجابيا، وإلى حد كبير، في مجتمعاتهم التي تلعب دورا أساسيا في عملية تدمير البيئة العالمية. لكننا، في البلدان العربية والإسلامية، نستطيع أيضا أن نؤثر في مجتمعاتنا، باتجاه حماية مواردنا وثرواتنا غير المتجددة والتي تنهبها حاليا الشركات الأميركية والغربية "العابرة للقوميات" التي عملت هي نفسها، وبالتعاون مع الأنظمة والشرائح الطبقية المنتفعة، وما تزال تعمل، على تعميم وترسيخ أنماط حياتية استهلاكية ملوثة لإنسانية الإنسان والبيئة العربية والإسلامية.
كما أن استمرار تفتيت وتجزئة الوطن العربي والتوزيع المشوه للموارد والثروات، من ناحية، وإعاقة أي اتجاه نحو وحدة البلاد العربية، من ناحية أخرى، يشكل ضمانة للحفاظ على هيمنة المركز (الغربي) والتبعية له، واستمرار قيامه بعملية نهب الفوائض الاقتصادية والموارد المادية والبيئية العربية.