الافتقاد إلى الاستراتيجيين
تعاني منطقتنا على ما يبدو من نقص في المفكرين الاستراتيجيين. أو أنهم على الأرجح، قد أصبحوا مغمورين، يلازمون بيوتهم أو مكاتبهم وأبحاثهم. ربما أصبحوا "نسّاكاً"، لا يحبون التعاطي في الشأن السياسي، ولا التعاطي مع الطبقة السياسية الحاكمة، لاسيما في فترة ما بعد الحرب الأهلية. على قلتهم، هم لا يحبون السياسيين على الأرجح، أو لا يحبون التعامل معهم. السياسيون من جهتهم، لا يحبون المفكرين الاستراتيجيين، لا سيما الفلاسفة منهم، لعنادهم وتكبّرهم وعمق تفكيرهم، ويفضلون عليهم المستشارين المتخصصين في قضايا محددة.
لا يرتاح السياسي الحديث للفلاسفة، لأنهم لا يكتفون بجواب سريع بنعم أو لا، على الأسئلة الملحّة والسريعة. فهم يدرسون مواضيعهم بالكثير من التأني والحذر، وهذا ما يتطلب الوقت الطويل والصبر، ما لا يستطيع السياسي تحمّله، لأنه يريد أن ينجز ويقرر بسرعة. الفلاسفة في طبيعتهم، مشككين ونقديين، لا يستقرون على رأي ولا يستطيعون الإنجاز السريع في فترات محددة، يظهر فيها السياسي انه "أنجز" شيئاً ما. المهم عند السياسي الحديث ان يكون الإنجاز ظاهراً وان تتم تغطية الحدث إعلامياً. اما ما يُسمى "إنجازاً"، فيجب ان يكون ظاهراً، واضحاً أمام الناخبين، مرضٍ... بغض النظر حول ما إذا كان مستداماً ومفيداً على المدى البعيد، في الإطار الاستراتيجي، ام لا. صحيح أن حالة "الطوارئ" تبرر أحياناً مطلب سرعة الإنجاز، إلا أن تحوّل الحالة الطارئة الى حالة دائمة، كما هي الحال في لبنان، في معظم الملفات والحالات، أمر في غاية الخطورة ويهدّد جميع أشكال الأمن، الإنساني والصحي والاجتماعي والاقتصادي والبيئي... الخ.
لا يمكن إغفال التطورات التي حصلت في العالم، والتي غيّرت في طبيعة الفكر والمفكرين... وبالتالي "المستشارين". حتى أن الاستراتيجيات تقليدياً، أنواع، منها الأمني ومنها الاقتصادي والاجتماعي... يمكن أن تُضاف اليها استراتيجيات تتعلق في التنمية وفي الطاقة والمياه وفي البيئة...الخ ولعل كثرة الاختصاصات وتشعب ميادين الحياة، أدت الى تحولات جذرية في طبيعة المستشارين. هذه التعددية في الحقول والاختصاصات، أضعفت كثيراً من دور المفكرين الفلاسفة الشموليين او الأيديولوجيين، أي الذين يفترض بهم ان يدمجوا بين كل أنواع هذه الحقول، أو أن يأخذوا معطياتها بالاعتبار في أية مقاربة استراتيجية. إضعاف دور المفكرين الاستراتيجيين كان لمصلحة المستشارين، لاسيما أولئك المرتبطين بشركات. فإذ أصبح المستشار هو المتخصص في قطاع ما، وإذ يفترض ان يكون متخرجاً من جامعة ما، وجب علينا أن نعرف أين وكيف وماذا تخرّج الجامعات المتخصصة ولمصلحة مَن؟ نعرف عندئذ، ما مصير ما يسمى الاستراتيجيات، ولماذا لا تزال المجتمعات في حالة تخبّط وتراجع... وما قبل نشوء الدولة.
إن الغالبية الساحقة من الاختصاصات الحديثة، لاسيما المصنفة "عالية" منها، هي اختصاصات يطلبها القطاع الخاص والشركات الكبرى أولاً. وهذا ما يفسّر أن الغالبية الساحقة من كبار المستشارين (للسياسيين) هم على ارتباط ما بشركات استشارية وإنشائية ما. وهذا ما يجعل معظم الخطط والخيارات الاستراتيجية للدول في يد القطاع الخاص، بشكل أو بآخر. وهي معادلة خطرة جداً على المدى البعيد، لكون هذه الخيارات والاستراتيجيات، تؤمن ديمومة العمل والربح للقطاع الخاص، وتضعف كل ما هو عام، وتضرب ديمومة الموارد ومقومات الحياة بشكل عام. هذا الحالة الخطرة لا يمكن الخروج منها، إلا بعودة الاعتبار إلى الفلسفة والفكر الاستراتيجي غير المرتبط بمصالح استثمارية. الفكر المستثمر في الحقيقة وليس في الواقع، وفي الإنسان بكليته وليس بغرائزه، وفي المطلق (كمثال) وليس في النسبي فقط، في العام وليس في الخاص فقط، في العالمي وليس في المحلي فقط... والمتصالح والمتوازن مع الطبيعة وليس المنطلق من ضرورة تحدّيها وتخطيها أو إخضاعها واستثمارها حتى الاستنزاف.
هذا النوع من الفلاسفة، هذا النوع من المفكرين الاستراتيجيين، من المستشارين، هو ما نحتاجه هذه الأيام، في ظل الأزمات العالمية والصراعات الخطرة التي تحصل في المنطقة.