
خاص بآفاق البيئة والتنمية
يحرص علي عبد الله، الموظف بمنصب رفيع في رام الله، على التحلل من كل التزاماته في موسم الزيتون، ويتفرغ لمهمة واحدة، هي جني ثمار أرضه، في قريته الملاصقة لسلفيت، والتي يتهددها سرطان الاستيطان، ممثلة بمستوطنة "أرئيل" الإسرائيلية. ويتفاخر بنشر صورة وهو منهمك بالعمل في حقل زيتونه، على مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول: المسألة حياة أو موت بالنسبة لكل فلسطيني، فشجرة الزيتون هي الأساس، ومن يتخلى عنها فذلك يعني خسارته التي لا تعوض لقيم التمسك بتراث الأجداد، وابتعاده عن ثقافة الإنتاج، وإفساحه المجال للمستوطنين الذين يستهدفون هذه الشجرة يومياً، في حرب مفتوحة.
ويضيف، وهو يعتلي شجرة يقطف حباتها بلطف: إذا انتهت هذه الشجرة، واستطاع الاحتلال وجماعات المستوطنين المتطرفين من الاستيلاء عليها، بشتى الطرق كالمصادرة، والاقتلاع والحرق، فإننا سنخسر كثيراً، فالمسألة حياة أو موت بالنسبة لنا.
طقوس
فيما تجتمع عائلات حول أشجارها على طول الطريق الواصل بين رام الله ونابلس، ويشارك الجميع في المهمة: الصغار يلتقطون الحبات المتناثرة، النساء يفصلن بعض القشور عن الحب، الشبان يصعدون عبر السلم الخشبي لأعلى الشجرة، الكبار يتخصصون في قطف الأجزاء القريبة من الأرض، الصبايا يحضّرن الطعام، أما الشبان فمهمتهم أيضاً جمع الأكياس وتحميلها ونقلها من الحقل للبيت ثم إلى عصّارة الزيت( المعصرة).
تقول أم راضي صلاح، التي وصلت عقدها السابع: لا شيء يجمع عائلتنا غير موسمين أولهم الصيام وثانيهما الزيتون، هي أيام مباركة وجميلة، ونتمنى أن يحفظ الله لنا حقولنا من نار المستوطنين، الذين حرقوا قبل أيام وقطعوا أشجار قريبي في بلدة دير شرف قرب نابلس.
تضيف: نجمع حبات الزيتون من بين الأشواك، ونركض وراء لقمة العيش بشق الأنفس، ونتذكر أجدادنا الذين غرسوا هذه الأشجار، وورثوها لنا، وكلنا يفرح بالموسم رغم صعوبة العمل فيه.
ويحفظ الفلسطينيون عن ظهر قلب المقولة الشائعة ( غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون) في إشارة إلى الأجداد الذين زرعوا شجرة السماء وورثوها لأحفادهم. فيما لا تفارق الشجرة فنهم وأدبهم وتراثه. ويقول المثل الشعبي( الزيت عماد البيت). بينما يتردد كثيراً قول الشاعر الراحل محمود درويش( لو عرف الزيتون غارسه لصار الزيت دمعًا....)، وانتقلت الشجرة لأعمال الكثير من الفنانين كسليمان منصور وإسماعيل شموط، وتسللت إلى رسوم الكاريكاتير، وغيرها.
ارتباط
يقول محمد سعيد، الذي يحمل الماجستير في العلوم السياسية: هذه الشجرة مباركة، ويكفيها شرفا ان جعلها الله بزيتها مثلا لنوره عز وجل، وربما نحن الفلسطينيون يرتبط مصيرنا وجذورنا بمصيرها وجذورها، ورسوخنا في هذه الارض مثل رسوخ زيتونها. فمعها نبتنا وتحت أغصانها لعبنا وتظللنا، ومن زيتها أكلنا وأسرجنا. لا يذكر الزيتون إلا ويذكر معه البذل والعطاء، فكم من شهيد روى بدمائه أرضها.
يتابع: الشجرة في كل مكان، فمثلاً تحتل بلدة كفر راعي المرتبة الثانية على محافظة جنين في إنتاج الزيت، بعد بلدة قباطية بإنتاج يربو عن 1000 طن من الزيت، و500 طن من الزيتون المخلل أو(الرصيع)، ومعظم اراضي البلدة البالغة 36 الف دونم أو يزيد، مغطاة بشجر الزيتون الذي يعتبر دخلا مهما واستراتيجيا لأكثر من 1500 عائلة، ويوجد في البلدة 4 او 5 معاصر للزيت.
ويضيف: تعاني هذه الشجرة مرض عين الطاووس، ولا ريب ان التلوث الناجم عن مكب زهرة الفنجان، وما جلبه معه من آفات قد أثر بشكل كبير على صحة هذه الشجرة، وشكل خطرًا داهمًا عليها. كما أن الكسارة القريبة عملت على تغطية البساتين بطبقة من الغبار أدت إلى قتل العديد من الأشجار. يضيف ملحم: تربطنا حكايات طفولة جميلة مع شجرة الزيتون، وكان آخر يوم هو الأجمل، حيث يعمل فيه الفلاحون ما يسمى بـ"الجاروعة"، وغالبا ما كان الخبز المسخن مع الدجاج المُحمّر، والزيت والبصل، الطبق الشعبي الذي يشير إلى اختتام الموسم عند الفلاح.
ينهي: يتم تصدير قسم من الزيت على شكل هدايا أو أمانات للمغتربين من أبناء البلدة في دول الخليج العربي بشكل خاص، ويتولى المهمة مجموعة من التجار الذين لمعت أسماؤهم حتى أصبحوا مثل علامات تجارية معروفة على مستوى فلسطين، في تجارة الزيت ونقله.
دماء
وبحسب الصحافي والباحث أمين أبو وردة، الذي يعيش في نابلس، فإن موسم قطف الزيتون موسم دموي بامتياز بالنسبة للفلسطينيين، فمجزرة الاحتلال لا تكتفي بإعدام الشجر والثمر بل تمتد لتعكير أجواء الموسم التراثي إضافة إلى إثارة أجواء الخوف والرعب.
يقول: من خلال عملي الإعلامي، تحول موسم القطاف في الكثير من البلدات التي سرقت المستوطنات الإسرائيلية أرضها، تحول الموسم من مفرح ومبهج إلى موسم مرعب، بسبب هجمات المستوطنين وإجراءات الاحتلال، وجدوله بالدخول للأرض، عبر بوابات جدار الفصل العنصري وحواجز الاحتلال، بأوقات معينة.
ويضيف: حول الاحتلال والاستيطان الموسم من جني محصول الزيت والزيتون إلى موسم الإصابات والحرائق وتدمير أشجار عمرها من عمر التاريخ، ما جعله موسم الصدام والصراع بامتياز. وحتى شعارات الموسم تحولت من أهازيج تراثية إلى شعارات مقارعة المحتل والاستيطان، ومن مسرح للتضامن والعمل التطوعي الى ميدان لمقارعة المحتلين.
واستناداً إلى مركز أبحاث الأراضي، فخلال عام 2011 تم الاعتداء على حوالي (20600) شجرة مثمرة منها (17.227) شجرة زيتون. وخلال عام 2012، جرى الاعتداء على (37089) شجرة مثمرة (80%) منها أشجار زيتون.
المستوطنون يعيثون في الزيتون الفلسطيني حرقا وتدميرا-كاريكاتير محمد سباعنة
صمود
ووفق الباحث حسن الرجوب، فإن رمزية شجرة الزيتون التي تتمكّن من الصمود والعيش آلاف السنوات، تحمل بين ثناياها إشارة إلى قدرة الفلسطيني على التجذّر بأرضه رغم محاولات الاقتلاع الإسرائيلية، وهذا ما يفهمه المستوطنون جيّدا، ويشرعون في كلّ موسم باعتداءاتهم على هذه الشجرة من خلال سرقة الأشجار واقتلاعها أو سرقة ثمارها.
وزيت الزيتون هو أساس اقتصاديات العائلة، بكلّ عام. أما موسمه فيجمع شمل العائلات الفلسطينية مع أرضها. والقطاف فرصة يتجدد فيها الجهد الجماعي في العمل والاهتمام بالأرض. والموسم يعيد للأرض أهميتها خاصّة وأنّ معظم حقول الزيتون في الضفّة الغربية واقعة ضمن المناطق المصنّفة(ج) والخاضعة تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، فتواجد السكّان بأرضهم يكون شبه دائم، وهذا مدعاة قلق بالنسبة للمستوطنين وجنود الاحتلال.
غير أن الصحافية جنان السلوادي، تقول إن بعض التغيرات بدأت تظهر في علاقة بعض الفلسطينيين بزيتونهم، وبخاصة في المناطق التي يُهاجر السكان منها إلى الولايات المتحدة كمنطقة رام الله.تضيف: كانت جدتي، قبل هجرتها هي وأخوالي وخالتي، توقظنا في وقت مبكر، لنذهب إلى الحقل. لكن الاعتناء بالأرض قل اليوم، وشتت العائلة فخالي الكبير أسير في سجون الاحتلال، والثاني مغترب في الولايات المتحدة، والثالث لا يجد وقتاً للحقل بحكم طبيعة عمله، ولذلك تغيرت تركيبتنا الاجتماعية، ولم نعد نحن الأحفاد نجتمع في موسم الزيتون، وأصبحنا، وللأسف، نشتري الزيت من السوق، لكني آمل أن أعلم أولادي ثقافة العودة لأرضنا؛ لأنها روح الصراع مع المحتل.
aabdkh@yahoo.com