ـ1ـ
في رسالة ناظم حكمت إلى ابنه محمد، هذه الكلمات: " يا بني، لا تعش في الدنيا كمستأجر، بل كأنها دار أبيك". نعم، دار أبينا، دارنا، حياتنا، وجودنا، أنفس ما أعطينا. فهل ننظرإليها نظرة مستأجر لا يهمه عمارها أم خرابها؟ هل نمر بها مرور طير السمان في رحلة الاصطياف والإشتاء؟ بعضنا يفعل ذلك.. هؤلاء الغرباء الكسالى ليسوا إلا مستأجرين.. وبعضنا يعيش فيها كضيف: هؤلاء يأخذون ولا يعطون، يتمتعون بسكن دار لم يدقوا فيها مسمارا ... إنهم طجالب، طفيليات، ينقّون عند العواصف كالضفادع، ومثلها يعيشون في مستنقعات، ويغمضون عيونهم أمام النور، فعل الخفافيش التي ترتع في الظلمة ... أما الذين يعيشون حياتهم في دار أبيهم، فإنهم يحرصون على إعمار هذه الدار وتشجير وإخصاب حديقتها، يعملون لفتح نوافذ للضوء والهواء في مجازاتها، إنهم ورثة قيم وبناة قيم.. غَرَسَة أشجار لمن بعدهم، مهندسو أنظمة جديدة ونفوس جديدة، والأدباء منهم ورجال الفكر في الطليعة، أو هكذا يجب أن يكونوا ... إن منح الرؤية للناس لا يتم إلا باستشراف الفجر الذي يتطلعون إليه.
(كيف حملت القلم : ص ص 43- 44)
ـ2ـ
بعض المدن، كبعض النساء، تشعرك بالغربة من دهشة ومهابة. هذا الشعور بالنسبة إليّ مبعثه ما في عروقي من دم فلاحي. في الجبل، في الغابة، في الريف، أكون أنا ذاتي. أستريح مع الطبيعة، كما لو كنت مع أمي، مستشعرا في كل لحظة أن الحجارة والأشجاروالتربة، والقطيع والراعي، والشبابة، والعرزال، والكوخ المهجور، والطوق الرصاصي للغابة، والسماء العالية، والنسمة الرهوة، ....وحتّى الريح العاصفة، أشياء تخصني، مني، من لحمي ودمي؛ ولدت معي، ونمت وكبرت، وصارت بيننا، منذ القديم، وفي تاريخ غير معروف، وغير مكتوب أيضا، ألفة عمر، وعشرة جوار، وأنس صداقة؛ وأنني قادر هناك أن أجد نفسي الضائعة، وأن تنبت الأحلام قرنفلات على أصابعي، وتتعرش المودة دوالي على جسدي، ويأتي الصخر ليكون وسادة لرأسي، والغصون تفتح في كف مجدلية، أنامل للرحمة تبعث الطمأنينة المخدرة في داخلي، حتى ليمكنني أن أستلقي، هناك، وأنام ملء أجفاني.
لكن المدن، والكبيرة منها بخاصة، عكس الجبل والغابة والريف والنساء أيضا، خلاف النبتة والنجمة وقرص عباد الشمس، تربكني، أفقد أمامها توازني، أستشعر غربة موجعة، مقلقة، حزينة، تملؤ جوفي، كأنما مسلات المدن، ورموش النساء، مخازر تكتشف مسامي، وتحفر فيها، زرقة تحت الجلد، حارقا كيميائيا، يلهب جسمي، ويكمم فمي، فأنا أختنق دون أن أستطيع فك الحبل عن عنقي، دون قدرة على الصياح، ودون رغبة فيه، مثل غريق يهوي، يصعد، يعاين الموت، ويستسلم له بفم أخرس، وعيون جاحظة لهول المعاناة.
( كيف حملت القلم، ص 205 )
ـ3ـ
( البحار وابنه )
لم يكن [ البحار الأب] يكره الجبل، لكن البحر كان شيئا آخر يحياه من الداخل. ومرة قال لي، بعد أن عملت في الميناء: "انتظر اليوم الذي تسافر معي في البحر. أنا لا أورثك شيئا إلا [ غيره]. البحر لا صاحب له. البحر صاحب الدنيا ووالد الأرض. منه، من مائه، انفصلت اليابسة وجفت. هكذا سمعت، وقد صدقت ما سمعت. البحر سيد الوجود فخذه على أنه كذلك، وأحبه على هذا الأساس. أحب البحر تحبني، أو أحبني تحب البحر، فأنا وهو شيء واحد. لقد امتزج دمي به، وكثيرا ما جرحت في السفر أو الصيد، فكنت أضع طرفي المجروح في الماء، كم يمتص البحر دمي ثم أمتص ملحه فنتآخى. من أجل ذلك أصبح البحر أخي وأصبح عمك. إنه أخي ولن يغدر بي. لجّته بيتي وحديقتي. قاعه دنياي، فالسندباد لم يعثر، في كل رحلاته على أغنى منه. ولو ضاقت بي الأرض يوما فسألوذ به، وسيحميني. أستطيع فيه أن أحيا، ثم في النهاية أموت. ترى يسمحون بدفن الناس في الماء؟ لا هذا مستحيل، إلا إذا متّ على ظهر باخرة مسافرة. أنا لا أتمنى أن أموت على ظهر باخرة مسافرة بعيدا عنكم، ولكن إذا متّ فادفني في البحر، أو على مقربة منه ودع قبري يشرف عليه، لعلي من تحت الثرى، أتأمله في الصباح وفي المساء، حيث يكون حلوا، وديعا رائقا، ويكون سطحه الرصاصي ملعبا للأشرعة البيض وسماءه فضاء رحبا لطيور النورس. أفكر: أية عقوبة، يمكن أن تنزل بي، وتكون أقسى العقوبات على نفسي؟ وفي الجواب أقول: البعد عن البحر. لو فرقوا بيني وبينه لقضوا عليّ، ولو حكم علي يوما أن أبقى في الجبل لانتحرت. محال! لا أستطيع العيش دون هذا الأزرق الحبيب، وسأجازف بكل شيء حتى أعود إليه.
( حكاية بحار، ص ص 274-275 )
ـ4ـ
حديقة المنشية وحدها، لوقوعها على مرتفع مجاور، نجت من الغمر [الفيضان]، فلم يتشكل فيها مستنقع صلصالي، وكانت أشجار الكينا تتسامق في هذه الحديقة طويلة ضخمة؛ وكانت إضافة إلى الفيء [ الظل ] الذي توفره في الصيف صيدلية مجانية لنا. فنحن نجمع أوراق شجر الكينا، وأحيانا نكسر بعض غصونها ونجردها من الأوراق التي نغليها ونشرب ماءها لمكافحة الملاريا التي كانت تفتك بنا.
[على شجرة عتيقة جبارة في الحديقة حفر مجهول ذات يوم اسم رجل ثوري] بحروف كبيرة، عميقة عندما اشتد الجوع في الحي شتاء ذلك العام القاسي، لكن رجال البوليس تتبعوهوقبضوا عليه.
وفي ذلك اليوم أوقف حارس [ حديقة ] المنشية، وجاء شرطي بسلم وصعد عليه ومحا الاسم عن جذع الشجرة بتشويهه، لكننا نحن الصغار كنا قد حفظناه؛ وطافت الحي، ذلك المساء حكايات عجيبة عن الاسم الذي محي، والذي صاحبه، في بلد لا ندري أين، أنزل الملك عن العرش، وفتح قصور الأغنياء للفقراء ووزع عليهم الأراضي والخيرات، ورفع الظلم عن الناس.
[ سمعنا ] نحن الصغار [ هذه الحكايات فذهبنا إلى حديقة المنشية وهناك ] تعمشقنا ولدا على كتف ولد، وأعدنا حفر الاسم على شجرة الكينا العتيقة، وقد أبلغ حارس المنشية ذلك إلى الشرطة، فطلبوا منه أن يمحو الاسم، ولكي ينتهي منه، أخذ بلطته وهوى بها على الجذع، فكشطه إلى عمق فتر، لكننا ترصدنا في اليوم التالي غيابه في السوق، وأعدنا حفر الاسم في موضع آخر فعاد وكشط الاسم مرة أخرى.
صار الأمر تحديا .. وجد حيّ [ المستنقع ] أخيرا وسيلة لإثبات وجوده أمام السلطة، فراح الكبار يحرضون الصغار على إعادة حفر الاسم، وهكذا، تعبيرا عن حقدنا على وضعنا البائس، ونكاية بالحكومة، حفرنا الاسم على جذوع كثيرة، فجن جنون الحارس، واشتكى من جديد، وأفقنا، ذات صباح، على عمال البلدية يسيجون الحديقة بأسلاك شائكة جديدة.
انتشرت بعد ذلك إشاعة مخيفة، تقول: "الحكومة قررت قطع جميع الأشجار!". كانت الضربة فوق ما يتحمله الحي .... تصور أهل الحي الصيف دون منشية وأشجار، والمرضى دون شراب كينا، كما تصوروا البعوض والغبار والحر، وغياب الاسم الذي أنبت لهم أملا، فقرروا أن يقفوا في وجه الحكومة ولو أطلقت عليهم النار.
تجمهر الناس في الصباح للقيام بالعمل الذي قرروا القيام به ...
كانت الخطة تقضي بأن يخرج الرجال والنساء والأطفال بالعصي والفؤوس والحجارة وكل ما وصلت إليه أيديهم، وأن يتوجهوا إلى المنشية، ويتحلقوا حول الأشجار ويمنعوا قطعها.
المهم أن إشاعة قطع الأشجار لم تتحقق. ربما كانت كاذبة أصلا، وربما خشيت السلطة تفجير الموقف في المدينة إذا نشبت المعركة مع أهل [ المستنقع ] في وقت الأزمة هذا؛ وقد تكون فكرت أن الذين كتبوا الاسم على أشجار المنشية قادرون أن يكتبوه على أشجار المدينة كلها، فكيف يمكنها [ عندئذ ] قطع جميع الاشجار؟
( المستنقع ، ص ص 283- 290 )