بلدان الشمال الغنية تستهلك أكثر من نصف الطاقة في العالم ودول الجنوب الفقيرة تستنزف غاباتها وأراضيها الزراعية لإشباع شهية الدول الصناعية للوقود الحيوي

اجتثاث الغابات في أندونيسيا لزراعة محاصيل الوقود الحيوي التي تصدر إلى دول الشمال الصناعية-تصوير AP
خاص بآفاق البيئة والتنمية
وجدت الدول الغنية في السنوات الأخيرة وسيلة مراوغة للالتفاف على الاتهامات الموجهة ضدها حول مسؤوليتها في استنزاف الموارد البيئية. حكومات تلك البلدان والمنظمات التي تعمل لصالحها، كثيرا ما تنشر تقارير تزعم فيها بأنها تعلمت على مر السنين كيفية الاستفادة بشكل أفضل من المواد الخام، وبالتالي تقليل درجة استغلالها للموارد الطبيعية. إلا أن أبحاثا عديدة أثبتت بأن هذه المزاعم غير صحيحة. فالحقيقة أن البلدان الغنية تستغل الموارد التي في أراضيها على نحو أكثر فعالية؛ لكنها تواصل بشكل متسارع استغلال موارد بلدان الجنوب؛ وتحديدا المواد الخام اللازمة للمنتجات التي تستوردها. فعلى سبيل المثال، بحثت دراسة نشرت في أيلول الماضي في مجلة "الأكاديمية الوطنية للعلوم" في الولايات المتحدة الأميركية، شارك فيها باحثون من استراليا، اليابان، كندا والنرويج- بحثت ما يعرف ببصمة المواد لـ 186 دولة، من خلال "تحليل تدفق المواد" خلال الفترة 1990-2008؛ أي قياس كمية المواد الخام اللازمة لتلبية طلب دولة معينة.
الدول الغنية درجت على تقدير مدى استغلالها لمواردها من خلال مراقبة استغلال المواد الخام في كل دولة. وقد شملت العملية الحسابية السلع المستوردة التي طرحت منها السلع التي تم تصديرها؛ الأمر الذي قلل كثيرا من مدى الاستغلال الحقيقي للموارد. أما البحث الجديد، فقد درس الاستغلال الحقيقي للمواد الخام في الدول الأخرى؛ تلك المواد التي تشكل أساس عملية إنتاج سلع الاستيراد والتصدير. ويعتقد الباحثون بأنه في عام 2008 استغل نحو 40٪ من إجمالي المواد الخام في العالم لتصنيع منتجات للتصدير. وعموما، استغل سنويا 70 مليار طن من المواد الخام. وقد تبين بأن كمية المواد التي استنزفت في تصنيع واردات الدول الغنية، أكبر بكثير من وزن المنتجات التي استوردت في نهاية المطاف. ومن الأمثلة البارزة على ذلك المعادن المستوردة بصورتها المركزة، وليس الخامات التي تم تلغيمها وتصفية المعادن ذاتها منها. مثال آخر هو صناعة المنتجات الحيوانية التي يتسبب استيرادها في ضغط بيئي ضخم لا يتجلى في وزن السلع النهائية ذاتها. استهلاك الموارد في الحالة الأخيرة ينعكس في استغلال الأراضي والمناطق الطبيعية لأغراض زراعة الأعلاف؛ إضافة إلى الاستخدام واسع النطاق للموارد المائية.
وتعد الصين المُصَّدِر الأكبر للمواد الخام؛ كما أن الولايات المتحدة تعتبر المستورد الأكبر، ومن ثم اليابان، فبريطانيا، فالصين؛ ما يجعل الأخيرة المُزَوِّد والمُسْتَغِّل الأكبر للمواد الخام في آن معا. وتنسحب حالة الصين على أستراليا أيضا.
ولدى حساب تدفق المواد للفرد في مجموعة الدول التي ركز عليها الباحثون، حازت أستراليا على أعلى قيمة، وتحديدا 35 طناً، ومن ثم الولايات المتحدة، فاليابان، فبريطانيا. وللمقارنة، يبلغ تدفق المواد للفرد في الهند سُبْع قيمة التدفق في استراليا. وكلما اتجهت اقتصادات الدول المختلفة أكثر نحو مرحلة ما بعد الصناعية، كلما ازداد اعتمادها على الواردات وبالتالي التهامها لموارد البلدان الأخرى. ويقدر البحث بأن كل ارتفاع بمقدار 10% في الناتج المحلي، يؤدي إلى ارتفاع بمقدار 6% في حجم تدفق المواد. وفي حال الدول الغنية، يتجسد هذا التدفق أساسا في استيراد المواد الخام.
دول الشمال والسيطرة على نصف الطاقة العالمية
وانسجاما مع ذات البحث نذكر بأن دول الشمال الصناعية تستهلك أكثر من نصف الطاقة في العالم. وكمثال صارخ على استنزاف دول الشمال الصناعية لموارد دول الجنوب الفقيرة، يمكننا إبراز مثال إنتاج الوقود الحيوي في دول الشمال؛ إذ أن معظم الأراضي المتاحة للوقود الحيوي، أي الأراضي التي تزرع فيها المحاصيل المستخدمة لتصنيع الوقود الحيوي، بما في ذلك أراضي الغابات التي يتم اجتثاثها لأغراض زراعة محاصيل الوقود الحيوي- معظم هذه الأراضي (نحو 85% منها) موجودة في أفريقيا وأميركا اللاتينية؛ وهذا يعني أن مأساة الوقود الحيوي تتجسد في أن دول الجنوب الفقيرة يجب أن "تضحي" بغاباتها وأراضيها العشبية الاستوائية وشبه الاستوائية (السفانا) وأراضيها الزراعية المنتجة لإشباع شهية دول الشمال الصناعية للطاقة.
ويقدر البحث بأنه بعد نحو أربعة عقود سوف يحتاج 9 مليار نسمة (العدد المتوقع لسكان الأرض آنذاك) إلى 270 مليار طن من المواد الخام سنويا؛ وذلك بافتراض أن الهدف الاقتصادي-الاجتماعي في مختلف أنحاء العالم يتمثل في توفير مستوى معيشة مشابه لما هو قائم حاليا في دول منظمة التعاون والتنمية (OECD).
وبحسب دراسة أخرى أجراها باحثون من سويسرا والنرويج، ونشرت في مجلة الأكاديمية الوطنية للعلوم، فإن البصمة البيئية لاستخدام الأراضي (المساحة المستخدمة للفرد الواحد) في جميع أنحاء العالم، سوف تزداد بنسبة 70٪ في العقود الأربعة المقبلة.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الحجم من إنتاج المواد الخام واستغلال الأراضي سيفاقم الضغوط بشكل هائل وغير معقول على الموارد البيئية. والمشكلة أنه من الصعب العثور على دعم سياسي للتدابير التي من شأنها رفع الكفاءة الحقيقية لاستخدام الموارد، وخصوصا في البلدان الغنية - كما اتضح، على سبيل المثال، في الانتخابات التي جرت في أيلول الماضي في أستراليا. وكان أحد أسباب فوز المحافظين هناك هو تحفظ الجمهور من ضريبة الكربون التي كانت حكومة حزب العمل تهدف إلى فرضها. مثل هذه الضريبة كان يفترض بها الحد من انبعاثات غازات الدفيئة؛ وعمليا، زيادة كفاءة استخدام مصادر الطاقة.
بعض الاقتصاديين والعلماء يعتقدون بأن رفع كفاءة التكنولوجيا وخفض تكاليفها يوفران الفرصة لممارسة ثقافة الاستهلاك وحماية البيئة في آن معا. إلا أن العديد من الخبراء يختلفون مع هذا النهج، ويذكرون بأن معدل استنزاف الموارد أسرع بكثير من قدرتها على التجدد. وفي السنوات الأخيرة استحدثت بعض البلدان الغنية برامج لتمويل البلدان النامية في مقابل حفاظ الأخيرة على الغابات. ويشير العلماء إلى أن هذا النهج لا يكفي، طالما أن في أماكن أخرى تستمر الزيادة في استهلاك الموارد. وفي رأيهم، يجب إجراء تقليص حقيقي وكبير في استغلال الطبيعة، وتطوير نموذج اقتصادي يتميز بتدابير الادخار والكفاءة؛ وبحيث أن رفع مستوى المعيشة لن يكون على حساب الإضرار بالبيئة.
خلاصة القول، أن على البلدان الصناعية الغنية بشكل خاص، وقف الزيادة في البصمة الإيكولوجية؛ وذلك لصالح حفظ التنوع البيولوجي والتوزيع العادل للموارد.