صندوق النقد الدولي يعمق انخراطه مجددا في المنطقة العربية ومخاطر اندلاع هبات شعبية ضد الحكومات التي تنفذ تعليماته
القاهرة / خاص: يسلط اقتراض مصر 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي الضوء على مدى انخراط الصندوق مجددا في المنطقة العربية، ومخاطر نشوء رد فعل عنيف تجاه الحكومات التي تنفذ إصلاحات مؤلمة في مقابل المساعدات.
فمنذ أواخر الثمانينيات وحتى انتفاضات ما يسمى الربيع العربي في 2011 وصم الصندوق في المنطقة بأنه عميل للشركات الغربية الكبرى، التي تضغط على الدول لتبني سياسات تقشفية تفقر شعوبها، بينما يستفيد منها المصرفيون الأجانب.
وبعد أن أطلقت إجراءات خفض الإنفاق التي تمت بإيعاز من صندوق النقد تحركات شعبية احتجاجية في الجزائر والأردن والسودان، تجنبت العديد من الحكومات التعاون مع الصندوق.
وقارن وزير مصري واحد على الأقل بشكل خاص الصندوق بالإمبرياليين البريطانيين الذين استولوا على قناة السويس.
ويظهر قرض مصر الذي تمت الموافقة عليه في نوفمبر الماضي الكثير من التغيير. ومحاولات صندوق النقد لتقديم نفسه بصورة جديدة أكثر مرونة جزء أساسي من جهوده لدعم العديد من اقتصادات المنطقة العربية، بما في ذلك مصر.
وأخيرا قدم الصندوق مليارات الدولارات لدعم العراق والأردن والمغرب وتونس. وهو يقدم المشورة للجزائر بشأن إصلاحات جديدة.
وللمرة الأولى يقدم الصندوق المشورة التفصيلية على نطاق واسع لمصدري النفط الأغنياء في الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة والكويت، في مسائل مثل فرض ضريبة القيمة المضافة لدعم الإيرادات غير النفطية.
وهذا خبر جديد للمستثمرين المترددين في وضع أموالهم في المنطقة دون خاتم الموافقة من صندوق النقد الدولي. لكن هذا يُعَرِّض الصندوق والحكومات الشريكة للغضب الشعبي إذا ما فشلوا في حل المشكلات الاقتصادية عميقة الجذور.
وقال محسن خان، الذي ترأس إدارة الشرق الأوسط بالصندوق منذ 2004 حتى 2008، ان العودة إلى المنطقة أمر شائك، لأنه في حين يملك الصندوق المعرفة بشأن كيفية إصلاح مالية الدولة والعجز الخارجي فإنه – شأنه شأن الاقتصاديين بشكل عام – أقل خبرة في تقليل عدم المساواة وخلق الملايين من فرص العمل.
وقال خان، الذي يشغل حاليا منصب كبير الباحثين في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط في "أتلانتيك كاونسِل" في واشنطن "الحكومات تنفذ إصلاحات اقتصادية صعبة. إذا لم تنجح بعد بضع سنوات في تحسين مستويات المعيشة فإن الشعب سيوجه لها أصابع الاتهام".
ويُعزى التوجه صوب صندوق النقد بشكل جزئي إلى الضغوط الاقتصادية. فقد خفضت اضطرابات ما يسمى "الربيع العربي" الاستثمارات في الدول الأشد فقرا في المنطقة، في الوقت الذي ضغط فيه هبوط أسعار النفط على صادرات دول الخليج من الطاقة.
وفي الماضي كانت الدول الأشد فقرا تفضل القروض والمساعدات وتحويلات العاملين المهاجرين إلى الخليج، الذي ربط مساعداته بشروط سياسية، على أموال صندوق النقد الدولي الذي يطلب إصلاحات اقتصادية صعبة. ومع تضرر الموارد المالية لدول الخليج بسبب النفط الرخيص بات هذا النموذج غير قابل للاستمرار. لكن الصندوق نفسه تغير أيضا. وقالت بسمة المومني، الزميلة الأولى في مركز الحوكمة الدولية والابتكار في كندا والتي تؤلف كتابا عن الصندوق، أنه بات أقل إصرارا على مبادئ أساسية مثل تحرير أسعار الصرف، وصار أكثر تركيزا على خفض الفقر والحد من عدم المساواة.
وعلى سبيل المثال حررت القاهرة سعر صرف عملتها ورفعت أسعار الوقود، وهي سياسات تقليدية لصندوق النقد الدولي. لكن للحد من متاعب المواطنين الأشد فقرا تخطط مصر – بموافقة ضمنية من صندوق النقد – لتعزيز الإنفاق على خطة لدعم المستهلكين، وإبقاء أسعار الخبز دون تغيير، مما سيبطئ الدفع نحو خفض عجز الموازنة.
وقال مسعود أحمد، الذي يترأس إدارة الشرق الأوسط بصندوق النقد منذ عام 2008، عن دور الصندوق في المنطقة "اعتقد أننا تعلمنا"، مضيفا أنه في الماضي كان الصندوق يركز أحيانا على أرقام الاقتصاد الكلي فقط، أما الآن فإنه ينظر أكثر إلى جوانب أخرى يمكن أن تؤثر على الصورة الكلية للاقتصاد مثل الفقر.
وبعد "الربيع العربي" أطلق أحمد حملة علاقات عامة لتحسين صورة الصندوق في المنطقة، ليدشن مدونة ناطقة بالعربية لشرح سياسات الصندوق، كما انه يعقد لقاءات في كثير من الأحيان مع السياسيين والصحافيين.
وقالت ريهام الدسوقي، كبيرة الاقتصاديين لدي بنك الاستثمار الإقليمي "أرقام كابيتال" انه كنتيجة جزئية لتلك الجهود فإن علاقات الصندوق مع مصر تغيرت منذ التسعينيات. وأضافت "العلاقة تطورت. إنها شراكة أكثر منها علاقة بالعصا والجزرة".
وقال خان ان صندوق النقد الدولي تغير لأنه صدم بهشاشة الاقتصادات خلال "الربيع العربي"، في الوقت الذي تبخرت فيه معدلات النمو المتسارعة، واختفى الاستثمار بين عشية وضحاها. وقال "الربيع العربي كان له تأثير مهين على موظفي الصندوق".
وحتى الآن فإن صندوق النقد يبدو ناجحا في تجنب الغضب الشعبي، وهو الأمر الذي ميز العديد من أدواره السابقة في المنطقة. ويشكو المصريون من ارتفاع أسعار الوقود، لكن القليلين يلقون باللوم على الصندوق، ويقول العديد منهم أنهم يتفهمون الحاجة إلى التقشف.
لكن السنوات المقبلة قد تضع هذا النجاح موضع الاختبار. وقد يكون القرض الذي حصلت عليه مصر لثلاث سنوات مجرد البداية لعبء مالي طويل الأجل. ويعتقد عديد من الاقتصاديين أن هذا القرض سيجري تجديده. في الوقت ذاته فإن صندوق النقد سيصبح بين شقي الرحى بينما تخفض الحكومات في كل من الدول المستوردة والمصدرة للنفط على السواء مزايا الرعاية الاجتماعية. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار الوقود مجددا وأن يجرى فرض ضرائب جديدة في العديد من الدول.
وقالت المومني "هذا يعني أن صندوق النقد لن يمكنه تجنب الانخراط السياسي في الدول، مما يعرضه إلى رد فعل عنيف إذا ثبت أن التحولات الاقتصادية مؤلمة".