مركز حسن مصطفى الثقافي
تستهويني الكتابة في شؤون البيئة والتراث والمجتمع منذ أكثر من ربع قرن من الزمن، وانشر في مجلات عربية فلسطينية متخصصة ومنها مجلة آفاق البيئة والتنمية (الإلكترونية) والصادرة عن مركز العمل التنموي / معا في رام الله تحت عنوان تراثيات بيئية (الطعام التراثي الفلسطيني الموسمي).
وكنت ادرس العلوم العامة، والعلوم المنزلية في مدرستي بنات بتير في السبعينات من القرن الماضي وهي مواضيع حياتية وثقافية. ومؤسسها هو والدي الأديب والكاتب والإعلامي "صحافي وإذاعي" ورائد التنمية والعمل التطوعي في فلسطين والأردن والعالم العربي كله، وهو علَم مشهور اسمه " المرحوم حسن مصطفى" . لذا كنت حريصة على أن أسير على نهجه، وأن احي ذكره وارثه الثقافي الأدبي والتنموي بعد وفاته المبكرة، وهذا العام احتفلنا بذكرى مرور 100 عام على مولده و55 عاما على وفاته.
وقد كنت أقيم معارض تنسيق أزهار بلادي البرية كنشاط لا منهجي مبتكر للتثقيف البيئي، حيث يقدم في السابع من شهر نيسان وهو يوم الصحة العالمي، ويعالج الموضوع السنوي المطروح في حينه فتقدم على هامش المعرض التمثيليات باللهجة العامية والمحكية والأشعار والقصائد الوطنية، والكلمات والحكم والأمثال والحديث النبوي الشريف والآيات القرآنية الكريمة، وتؤدي الطالبات الغناء والرقص النسائي الشعبي التقليدي والقديم المسمى ب (الدحرجة) بقصد إحيائه وحفظه وممارسة ثقافتنا وفننا وهويتنا.
ولا ازال اذكر أني قلت أمام طفلي جواد كيف احصل على قطع من خشب الزيتون، لأنسق الأزهار التي احضرها عمي ربحي المرحوم من الحرش في صندوق سيارته، علاوة على ما تجمعه الطالبات مساهمةً وتشجيعا للحدث السنوي الرائع الذي يحضره الأهالي وأسرة التربية والتعليم.
فاهتم ابني قائلا أنه يستطيع ذلك ومجانًا، وفعلاً ذهب إلى زملائه وأصحابه ممن يعمل أهلهم في مجال تصنيع التحف والمنحوتات الزيتونية الخشبية الجميلة في مدينة بيت لحم، وأحضر كمية منوعة وعشوائية الأشكال والأحجام ومجانا دون مقابل، وقد خدمتنا لسنوات لاحقة.
يعشق الفلسطينيون الطبيعة وفن التطريز الجميل ويوثقون تاريخهم وثقافتهم بالإبرة والخيط، كما يوثقونها بالقلم ليحفظوا ذاكرتهم الوطنية وهويتهم الأصيلة وثقافتهم العربية الإسلامية، التي يصعب على كل عدو محوها وهذه صورة مطرزة لزهرة النرجس البري وهي منقولة عن كتاب: "طلع الرنجس والحنون... "أزهار مطرزة من ربيع فلسطين (إعداد وتقديم : تانيا تمارى ناصر).
النرجس
نحن الآن في موسم النرجس الذي يزهر في كانون أول حتى يأتي الربيع باعتداله ودفئه والاسم العلمي "Narcissus tazetta" أما الاسم الشعبي والشائع فهو "رنجس" أنها نبتة وزهرة تعشق البرد ولا يضرها الثلج والريح فتزدهر وتعطيني في المربعانية اشد أوقات السنة برداً وبالتزامن مع عيد وذكرى ميلاد السيد المسيح عليه السلام.
ويقول المثل الشعبي "طلع الرنجس والحنون انضب بدارك يا مجنون " ويشير المثل إلى أن موعد البذار ينتهي بظهور أزهار النرجس كما يشير أن هذا المعيار يدلل على أن وقت الحراث والبذار الذي ينتهي في شهر تشرين الثاني.
وأزهار النرجس منها البرية التي تنمو في الجبال والوديان والسفوح ومنها النرجس البلدي البيتي، الذي يُكثر الفلسطينيون من زراعته ويحبونه، لعل ذلك لأن النرجس زهرة شتوية تمتاز برائحة زكية تتحدى الصعاب والأجواء والمناخ القاسي، وترتبط بمعنى كلمة النرجسية التي تعني عشق الذات المبالغ فيه إلى درجة الأنانية، حسب ما ورد في الأسطورة اليونانية القديمة والتي تقول :-
كان هناك شاب وسيم يدعى نرسيسيوس " Narcissus"،وكان كثير الإعجاب بنفسه لدرجة انه ذهب ليشرب الماء من البحيرة فانتبه إلى صورته الجميلة في الماء، وبقي مبهورا يتأمل جمال طلعته حتى مات في المكان. وهناك نمت زهرة نادرة الجمال ذات رائحة أخاذة سميت على اسمه "نرسيسوس" أو النرجس والذي يقال له في العامية نرجس.
أما من مقالة " فلكلور النبات في الخرافات الفلسطينية "للدكتور توفيق كنعان وترجمة فلورا لحام فتقول:-
" ويروى بأن النبي محمد عليه السلام تناول مرة بيضا مسلوقا لم يلائمه فتقيأ، وبأعجوبة تحول البيض إلى نبات النرجس البري، فصفار البيض هو الكأس، والبياض هو البتلة ".
صورة النرجس البري الخلوي
ويشكّل في بداية الأزهار لنبتة النرجس، إكليل جميل في موسم عيد ميلاد المسيح، ويعلق على الأبواب ضمن زينة الميلاد وفرحة العيد، فهو نبتة من نباتات الزينة الجميلة الشكل والرائحة وتقدم باقات النرجس كهدايا معبرة عن المشاعر ويحمل الكثيرون زهرة بين أيديهم يشمون رائحتها، كما يحملون طلق الريحان أو زهرة الياسمين، وتحب النساء جمع أزهار النرجس وترتيبها في باقات صغيرة وبيعها في موسم أزهارها.
ومن الدلعونا الفلسطينية، هذه الأغنية المعبرة عن حبهم لزهرة النرجس وزراعتها في المداخل :-
باب البوابي لأزرع لك رنجس خايف يا حلوة عمرك تينقص
يالله عالدبكي يا بنت نرقص ونغني سوا على دلعونا
وأزهار النرجس المتوفرة في بلادنا نوعين: البري والخلوي، ولحب الناس لهذه الزهرة اخذوا يدجنون الصنفين.
وصف النبات :- نبات عشبي معمر يبلغ ارتفاعه 15- 40 سم، له أبصال أرضية الأوراق شريطية خضراء لامعة غضة ذات حواف كاملة.
الأزهار بيضاء قشدية اللون لها تاج برتقالي إلى اصفر اللون وتكون في مجاميع عنقودية من 3- 10 زهرات ذات رائحة قوية نفاذة، والبذور صغيرة تتكاثر بالأبصال، ويمكن قلع الأبصال المتكونة خلال الربيع والصيف والاحتفاظ بها في أماكن باردة وجافة لحين موعد الزراعة في الخريف.
ويجب العناية بالنرجس البري الذي أصبح وجودها نادراً في الجبال والوديان بسبب القلع الجائر والقطف المكثف حتى أنها باتت من النباتات المهددة بالانقراض.
وترتبط هذه الزهرة في ذاكرة الفلسطينيين المشتتين والمغتربين والمبعدين قصراً عن كل ما يحبونه في أوطانهم، ويطلبون زهرة النرجس من ذويهم "الصنف الفلسطيني" المعروف وليس أي صنف آخر، وقد حصل ذات مره أن أختي المغتربة المنقطعة عن بلدها اشترت عرق النرجس في الشام بسعر غالٍ فقال لها أحد الواقفين: لماذا دفعت هذا السعر الغالي فقالت: لأنها ذاكرة وطن أشم من خلالها رائحة بلدي.
الاستخدامات الطبية:
1. يفيد شم الأزهار في معالجة الزكام، وفتح الأنف، وتخفيف الصداع.
2. يفيد شرب مغلي الأزهار واكل مطبوخها في تهييج القيء وإخراج رطوبة المعدة.
3. يفيد زيت النرجس كمقو للأعصاب، ومضاد للتشنج، خافض للحرارة، مقوٍ للقلب والدماغ.
المراجع :
- معهد الأبحاث التطبيقية / القدس / "أريج" التاريخ الزراعي في فلسطين 2002 .
- مجلة التراث والمجتمع /ع 5/ مجلد 2/ 1976 والصادرة عن لجنة الأبحاث الاجتماعية والتراث الشعبي الفلسطيني في جمعية إنعاش الأسرة .
- فلسطين الفصول الأربعة عادات وتقاليد ومواسم / ناديه البطمة/ مركز القدس للإعلام والاتصال 2012 .
- عبد اللطيف عاشور التداوي بالأعشاب والنباتات / مكتبة ابن سينا / القاهرة _ مصر .
- جاد اسحق وعيسى اسحق 1992 / "الحاكورة دليل العملي للعناية بالحديقة " التربية من اجل الوعي والمشاركة / القدس / فلسطين.
- تانيا تمارى ناصر وماري جبجي تماري /" طلع الرنجس والحنون"، أزهار مطرزة من ربيع فلسطين /2009