العمارة التراثية .. لأن بناء الحضارات أعظم!
عمارة بيئية معاصرة في ألمانيا
خاص بآفاق البيئة والتنمية
"الحداثة لا تعني بالضرورة الحيوية، والتغير لا يكون دائما للأفضل"، هذا ما آمن به المعماري المصري حسن فتحي، وهذا ما يبدو جليًا إذا ما تأملنا ما آلت إليه أحوال العمارة في بلادنا العربية وفلسطين بشكل خاص، حيث تتخرّج أجيال من المهندسين بالكاد تعرف شيئًا عن العمارة التراثية ومُساهمتها في مجال العمارة البيئية التي بدأ الاهتمام بها مؤخرًا. وسواء تحدثنا عن تجربة قريّة القرنة في مصر أو مجلس الأمة في الكويت أو حتى البيوت الفلسطينية القديمة، فإننا نتحدث عن تجارب هندسية بديعة تستحق التأمل وهي دليل على أن المعماري المتميّز لا يبني البيوت فحسب، بل حضارةً يُحترم فيها التراث والبيئة!
قرية القرنة
لا يُمكن الحديث عن العمارة التراثية دُون الحديث عن المعماري المصري "حسن فتحي" صاحب كتاب "عمارة الفقراء" الذي كُتب بالإنجليزية وحقق انتشارًا عالميًا فتُرجم إلى العديد من اللغات، إلا أنه لم يُترجم إلى العربية إلا بعد وفاة صاحبه وهو ما يعكس الجهل بقيمة هذه الصنف من العلوم في ذلك الوقت، وكأن حسن فتحي كان سابقاً لزمانه في حديثه عن دمج التراث بالعمارة والبيئة.
في خمسينيّات القرن الماضي لم يقبل حسن فتحي أن يكون كغيره من أبناء جيله من المعماريين ممن تعوّدوا على الاستيراد الأعمى للعمارة الغربية واعتمادها في البلاد العربية، فراح يغوص في أعماق التراث المعماري الفرعوني والإسلامي، كي يقدّم عمارة تليق بالمكان وبهويّته الثقافية وخصائصه الفيزيائية كالمناخ والموارد الطبيعيّة المتاحة، هذا واستعان بخبرات البنائين المحليين بدلاً من استيراد العمالة والخبرات الأجنبية.
كان "فتحي" يؤمن بأن الله خلق الناس مُختلفين، وبالتالي لا بُد أن تكون مساكنهم مختلفة باختلاف رغباتهم وطبائعهم، فشيّد في "القرنة" 70 بيتًا ولكل بيتٍ منها تصميمه الخاص، كما راعى في التصميم أن البيوت في منطقة جافّة ولا بُد من تزويدها بتقنيّات طبيعيّة لتكييف الهواء، فاعتمد في البناء على نظام القباب والأفنية الداخلية، التي من شأنها أن تزوّد المباني بنظام تكييف طبيعي وكذلك بالإضاءة الطبيعية "المجّانيّة" ودون إهدار الطاقة.
عمارة .. ما بعد الحداثة
صحيحٌ أن مشروع حسن فتحي في قرية القرنة لم يكتمل، إلا أن إيمان هذا المعماري بأفكاره البيئية جعل منه قدّوة ونموذجًا للكثير من المُهندسين بعده ممن ساهموا في تشييد الكثير من المباني الخضراء حول العالم، كطالبه عبد الواحد الوكيل الذي راح يؤكد من جديد أن مفاتيح النجاح المعماري يكمن في أربع كلمات هي: (بيئة – فلسفة – فكر – معتقد).
لم ينحصر الأمر في هؤلاء، ففي سبعينيات وثمانينيّات القرن الماضي بدأ الكثير من المعماريين حول العالم بالاهتمام بالبيئة أكثر فيما يُعرف بـ"عمارة ما بعد الحداثة"، وبرز في العالم العربي أسماءٌ مثل راسم بدران الفلسطيني والاخوة مهنا من سوريا وأحمد مكيّة من العراق ويحيى حسن وزيري من مصر، ولم ينحصر هؤلاء بالاهتمام بالتراث فقط، بل حاولوا دمج العناصر التراثية بالهندسة المعماريّة الحديثة.
صحيحٌ أن الاهتمام بهذا المنحى البيئي لم يصل إلى المستوى المنشود، إلا أن أحد أبرز المباني التي دمجت التراث بالعمارة الحديثة في تلك الفترة هو مبنى مجلس الأمة الكويتي الذي بدأ العمل عليه عام 1975 تحت إشراف المهندس المعماري الدنماركي يورن أوتسون، مصمم دار الأوبرا الشهيرة في العاصمة الاسترالية سيدني.
تميّز المبنى بأنه استلهم تصميمه من وحي الخيمة البدوية والسوق التقليدي، كما تمّت مراعاة الظروف المناخيّة الحارة في الكويت وبالتالي كان لا بُد من تقليل الواجهات الزجاجية التي يُمكن أن تؤثّر سلبًا على الأجواء في داخل المبنى، بالإضافة إلى ذلك اعتماد تقنيّات التظليل للتقليل من تكاليف التبريد صيفًا، كما يظهر في المبنى استخدام العقود والأفنية وكذلك ملاقف الهواء التي تميّز العمارة المحلية التقليدية في بيئة حارّة جداً، لا يُعقل أن تُنقل إليها عمارة البلاد الباردة دُون تفكّر ولا تدبر بالظروف المحلية.
البيت الفلسطيني .. التقليدي!
الكثير من ملامح العمارة التُراثيّة في فلسطين دُمّرت في نكبة 1948، كما دُمّرت لاحقًا على يد من يجهل قيمتها الحقيقية التي لا تنحصر في الحفاظ على التراث فقط، بل حتى في الحفاظ على البيئة والتقنيات المعمارية البيئية التي ابتكرها الفلسطيني قديمًا للتكيّف مع بيئته والمناخ.
"بتتين وركّة" هو أحد المصطلحات التي تجسّد المنحى البيئي في العمارة الفلسطينية التراثية، وبه توصف بيوت الحجر التي بُنيت من سلسلتين من الحجر وبينهما منطقة تُملأ بالحصى والطين، وقد يصل عرض هذه المنطقة إلى 30 سنتيمترًا، والتي لا تساعد على التماسك فقط، بل كذلك تُساهم في العزل الحراري وبالتالي فإن هذه الجدران السميكة تمنع تسرّب الحرارة الداخلية إلى الخارج والعكس، وهو ما ينقص البيوت المعاصرة المبنيّة من حجارة "البلوك" التي لا تعزل الحرارة، وبالتالي يضطر صاحب البيت لدفع الأموال الكثيرة للحصول على "بيت دافئ"!
بحسب د.عبد الكريم محسن من الجامعة الإسلامية في غزّة، فإن البيوت الفلسطينية القديمة كانت تعتمد على مواد البناء المحليّة كالحجر والطين والكلس، كما كانت تحتوي على إيوانات صيفية وأخرى شتوية وكل منها يُصمم بإتجاه مُختلف مُراعاةً لاتجاهات الرياح، هذا غير استخدام القمريات وهي فتحات في الجدران لتوفير الضوء الطبيعي في المنازل، وإلى جانب القمريّات، هُناك العمريات وهي فتحات في أعلى الجدران للتهوية والتخلص من الهواء الساخن داخل المنزل، هذا طبعًا غير استخدام المشربيّات التي كانت تكسر حدّة أشعة الشمس.
هذه التقنيّات التي تميّزت بها العمارة الإسلامية بشكل خاص واستخدمها الفلسطيني قديمًا، تكاد تكون مغيّبة تمامًا عن المشهد المعماري للمدن والقرى الفلسطينية، اليوم حيث يطغى نموذج العمارة المستوردة بشكل أعمى ودُون أي اعتبارات للفروقات المناخيّة بين الشرق والغرب ولا حتى الاختلافات الثقافية، وهو ما يؤدي بلا شك إلى المزيد من ضيّاع الخبرات المعمارية التراثية المتوارثة عبّر آلاف السنين!
العمارة اتراثية هل هي حقا عمارة الفقراء؟