خاص بآفاق البيئة والتنمية
تتباهى الثمانينية غصيبة عطية أبو إسعيد بأنها سيدة القطايف في طوباس، فقد نقلتها إلى مدينتها حين تعلمت طريقة تحضيرها من بلاد الحجاز قبل نحو ستة عقود، في وقت لم يكن في المدينة غير بائع وحيد يأتي من نابلس في مواسم رمضان.
تسرد، وهي تمسك بحبات من الحلوى المستديرة المائلة للأصفر: هذه القطايف طبيعية، ولا أضع فيها الصبغة والألوان، وأكتفي بالقليل من العصفر الذي كنت أزرعه في بيتي، وعملت من هذه الأقراص أكثر من عدد شعر رأسي في الموسم الواحد، وتنقلت في صناعتها من النار، ثم الحطب، وبعدها البريموس ( وابور الكاز)، واستعملت الغاز الذي وصلنا بعد النكسة.
ووفق غصيبة، التي أبصرت النور عام 1932، فقد استخدمت الأواني المستديرة وأطباق الكرتون؛ لتبريد ما تصنعه بدل المراوح، فيما لا تغفل عن التوقف عند الأيام الصعبة في إعداد الحلوى، عندما كانت تنهي عملها في فلاحة الأرض في الأغوار، ثم تصعد إلى منطقة جباريس الجبلية شرق المدينة لتجمع حطب الزيتون الجاف وأشواك الذرة وأغصان الخروب، وتحمله على رأسها قاطعة مسافة ليست قصيرة.
اكتفاء غائب
تقول: أيام زمان كان كل شيء من الأرض والبيت، ولا نحتاج لشيء لإعداد القطايف وتجهيزه إلا السكر، فالقمح من أراضي الغور الممتدة، والعصفر من محيط بيتنا، والحطب من جبال طوباس، والجبن واللوز من إنتاج أيدينا، أما اليوم فتغير كل شيء.
بدأت الراوية بتجهيز كميات قليلة من الطحين، لم تتعد 5 كيلو غرام، وراحت ترسله إلى دكان خالها عزات الأنيس، ثم أخذ الطلب يتضاعف على إنتاجها، وكان في بعض الأيام يتجاوز 3 أكياس كبيرة من الدقيق. فيما طوّرت بنفسها طريقة خبز القطايف، وتنقلت بين الخرسانة والصاج المعدني، وحافظت على طريقتها في تجنب الأصباغ، وإضافة القليل من السكر، وبعض الخميرة والكربونة (بايكربونات الصوديوم).
صنعة جدتهم التي توارثها الأبناء والأحفاد
تضيف: علّمت زوجي شكري حامد طريقة تجهيز القطايف فصار يخبز معي، وقبلها كنت أعجن وأحضر النار وأخبز وأبيع بمفردي، وعلّمت الطريقة ذاتها لأولادي وبناتي، وكان ابني عمار (استشهد عام 1990) يرفض أن يتعلم طريقة إعداد القطايف، أما أحفادي، فعلمت كثيرًا منهم، وهم يعملون اليوم ما كنت أصنعه قبل سنوات طويلة.
وبحسب أبو إسعيد، فقد تنقلت أيضًا في إعداد الحلوى ذائعة الصيت في رمضان بين السعودية خلال تأدية الحج، والأردن عشية النكسة يوم نزحت مع عائلتها وأقامت مدة قبل أن تعود إلى طوباس، وقبلها عملته في صباها بقريتها الدير القريبة من نهر الأردن، والتي دمّرها الاحتلال عام 1967.
واستناداً إلى ما تقصه غصيبة، التي فقدت والدتها زريفة ووالدها عطية في صباها، فقد تغير كل شيء من حولها، إذ كانت تبيع الكيلو الواحد بخمسة قروش قبل النكسة، ثم ارتفعت الأسعار إلى شيقلين ثم شيقلين ونصف، فأربعة، وخمسة، وستة، وسبعة، واليوم يبيعه أحفادها بثمانية شواقل، أما أسطوانة الغاز فكانت بدينار وكيس الطحين بخمسة دنانير ( ارتفع اليوم أكثر من خمسة أضعاف).
مما تحفظه الراوية، أنها كانت تستهلك 4 أسطوانات غاز في الموسم العادي، فيما عملت الحلوى الشهيرة في غير موسمها عدة مرات، وكان الزبائن يبحثون عما تصنعه من البلدات والقرى المجاورة، وفضل غالبية الزبائن قديمًا الحجم الكبير.
توقفت أبو إسعيد عن إعداد القطايف عام 2014، لكن الزبائن ظلوا يطلقون اسمها على ما يصنعه أولادها وأحفادها، وبالرغم من العدد الكبير لمن دخلوا على مهنة صناعة الحلوى الشعبية إلا أنها بقيت مضرب المثل.
غصيبة سيدة القطايف في طوباس
أصل الحكاية
يقول الحفيد محمد برهان (19 عاماً) وهو ينقل أقراص القطايف الناضجة من الصاج شديد الحرارة إلى الصينية: "بقيت قطايف جدتي أصل الحكاية في طوباس، ويكفي فقط أن يعرف الزبون أنها خرجت من تحت يدها".
يتابع: "تنقلت جدتي بين الحطب والكاز والغاز والكهرباء، وتغيرت أسعار كل شيء، وزاد استهلاك الناس، وارتفع عدد الذين يصنعون القطايف، ودخلت إليها الأصباغ والألوان، وصرنا نستورد طحين حيفا بدل قمح الأغوار، ولكن جدتي هي الثابت الوحيد".
واللافت أن ذاكرة غصيبة توقفت، بحسب رواية أولادها وأحفادها وأقاربها، سبع سنوات، إذ دخلت في حالة نادرة عام 2004، خسرت خلالها كل شيء في ذاكرتها، وما عادت تعرف أحدًا، ونسيت كل شيء له صلة بماضيها وحاضرها، إلى أن استردت سيرتها الأولى كما كانت عام 2011، لتروي حكاية الأغوار والنكبة والنكسة وانتفاضة الحجارة وأحلام ابنها الشهيد عمار، ولتتوقف مراراً عند الحلوى التي ترد إليها الروح وتنعش القلب.
aabdkh@yahoo.com