تونس / خاص: "بنك المحرومين"، هكذا يسمّيه البعض، أو "حقّ الضعفاء" كما يحلو لآخرين تسميته ليس مصرفاً بالمعنى المتعارف عليه لأيّ مؤسّسة مالية في العالم، وإنما هو أشبه بنظام للتأمين التكافلي، أو يمكن القول انه "بنك" من نوع خاصّ جدّا.. مجموعة من الأفارقة تربطهم قرابة عائلية أو مهنية أو حتى مجرّد صداقة أو زمالة، يتّفقون على تجميع مدّخراتهم معا، لتمويل مشاريع فردية أو جماعية.
وفي الواقع، فإنّ هذا "المصرف" يشكّل عصارة التطوّر الطبيعي للحاجة الإنسانية وطرق تلبيتها. فالأفارقة كانوا في العقود الماضية يتّفقون على تشكيل مجموعات تعمل في الحقول، ويدّخرون جزءا من إيراداتهم لبناء منازلهم الواحد تلو الآخر في القرية، أمّا اليوم فقد اختاروا المحافظة على ذات المبدأ، رغم اختلاف التسمية نزولاً عند حتمية التطوّر الطبيعي للمفاهيم، ليتّخذ شكل "التكافل".
هذه الفكرة تلاقي استحساناً في عدد من أرجاء القارة السمراء، لخلوّها من تلك التعقيدات والشروط المجحفة التي غالبا ما تستبعد الفقراء وذوي الدخل المحدود أو الضعيف من لائحة المنتفعين المحتملين. بكلمات أخرى هو "نظام عفوي" غير خاضع للتصنيف الطبقي للناس، ومتحرّر من قيود الإنتماء الإجتماعي والمستوى المادي، وغيرها من المعايير المؤهّلة للإنخراط في المنظومات المالية التقليدية.
فمن بنين إلى الكاميرون، مروراً بتوغو ورواندا، يجمع نظام تمويل يعتبره المختصّون أقدم من ظهور العملة الراغبين في الادّخار المشترك من أجل استثمار أموالهم طوال فترة إيداعها الممتدّة من 10 إلى 15 عاماً. وبحسب أحكام الجمعيات الناشطة في هذا المجال، فإنّ ثمار إدارة هذه الأموال توزّع، وبشكل كامل، بين المساهمين. ففي بنين "يلجأ أكثر من 60% من السكان إلى خدمات التأمين التكافلي لتمويل المشاريع الصغيرة وابتياع السلع، إضافة إلى حلّ جملة الإشكالات التي تعترضهم"، بحسب أحد المسؤولين في "معهد الإحصاء والتحليل الاقتصادي" الذي يضيف أنّ التأمين التكافلي، أو "غِبيه" كما يصطلح على تسميته في لغة فون الأكثر انتشاراً جنوبي ووسط بنين، لم يعد محلّ اهتمام أصحاب الدخل الضعيف فحسب، وإنّما يستقطب حتى الطبقات الاجتماعية المترفة.
الخمسيني ريغوبير أوبوسو يعمل منذ نحو 20 عاماً في مجال التأمين التكافلي في بنين، حيث يقوم بجمع مساهمات نحو 80 مشتركاً من صغار تجار غبيغامي، أحد الأسواق الثانوية في كوتونو العاصمة الإقتصادية للبلاد. ففي مساء كلّ يوم يتوجّه الرجل إلى وجهته مع حقيبة تُحمل على الكتف، لتجميع حصص المساهمين.
"أتكفّل يومياً بتجميع مدّخرات من يودّ المشاركة في التأمين التكافلي"، هكذا يقول وهو يدوّن بعض الأرقام على ورقة صغيرة بحوزته، فـ "البعض يقوم بعملية الاكتتاب بمبلغ قدره 500 فرنك إفريقي في اليوم (ما يعادل 0.83 دولار)، في حين أنّ البعض الآخر يدفع ألف فرنك إفريقي (1.67 دولار) ويساهم آخرون بـ5 آلاف فرنك إفريقي (8.37 دولار)، كل حسب مقدرته وإيراداته".
وفي نهاية كلّ شهر يحصل كلّ مشترك على مدّخراته، كل حسب المبلغ الذي وضعه في البداية. فـ "بالنسبة للمساهمات المقدرة بـ500 فرنك إفريقي"، يتابع أوبوسو، فإنّ "عدد مشتركيها البالغ عددهم 30 شخصاً يحصلون على 14 ألف و500 فرنك إفريقي (24.27 دولار) لكلّ واحد منهم، إذا كان الشهر يعدّ 30 يوما". أما بخصوص المساهمات البالغة ألف فرنك إفريقي، فيصل عدد مشتركيها 30، في حين أن المساهمين بـ 5 ألاف فرنك لا يتجاوزون الـعشرين.
وفي رواندا، حيث يزدهر نظام التأمين التكافلي، يقدّر بنكها المركزي عدد المنظمات المحلية الناشطة في مجال التأمين التكافلي بـ 416، يلجأ إليها 42% من سكان البلاد لتمويل مشاريعهم الصغرى، مقابل 19% فقط في 2012، وفق بيانات البنك الوطني الرواندي. مدير البنك الأخير توماس كيغابو، قال أن "ثقة شعوبنا في المصارف التقليدية نادرة"، مضيفاً أن "المزارعين هم أول الساعين إلى الحصول على خدمات التأمين التكافلي، وهم حتى الآن راضون على نظام يعفيهم من الإجراءات التي تفرضها المصارف الرسمية". وبحسب السلطات الرواندية، فإنّ حوالي 5 ملايين ساكن كانوا منخرطين في نظام التأمين التكافلي عام 2016 من إجمالي عدد السكان الذي يقدّر بنحو 12 مليون ساكن.
في المقابل يقدّر انتشار المعاملات المصرفية بـ23%، رغم أنّ البلاد فيها 12 مصرفاً تجارياً، وفق المصدر نفسه.
وفي توغو، يميل جزء كبير من المجتمع إلى نظام التمويل التكافلي، والذي تعدّ "الثقة" ضمانته الوحيدة. يقول آنج كيتورن، مدير "الجمعية المهنية لمؤسسات التمويل المتناهي الصغر" أن "200 من مؤسسات التمويل المتناهية الصغر تنشط اليوم في كامل أنحاء البلاد، وتعتمد 80% منها على نظام التأمين التكافلي، وتضم 1.8 مليون مشترك".
اهتمام التوغوليين بهذا النظام يعود، بحسب كيتورن، إلى مرونة آلياته. كما أنّ "أصحاب الدخل المحدود وحتى المتواضع يشكّلون أكبر نسبة من المشتركين فيه، وهم راضون تماماً عن خدمات التأمين التكافلي، في حين يجمع الأكثر ثراء بين التأمين التكافلي والادخار التقليدي".
المشهد ذاته لا يختلف في عمقه عن نظيره في الكاميرون.. ففي هذا البد الإفريقي، يفضّل 58% من السكان التأمين التكافلي على البنوك التقليدية، بحسب وثيقة صادرة عن وزارة المالية الكاميرونية. ووفق تقديرات غير رسمية فإنّ جمعيات التأمين التكافلي في البلاد تدير معاملات بقيمة 190 مليار فرنك إفريقي (ما يعادل 327.7 مليون دولا).
لكن ورغم المزايا المتعدّدة والأهداف النبيلة التي تحسب لنظام التأمين التكافلي، إلا أنه لا يخلو مع ذلك من مخاطر وتداعيات سلبية على آليات التمويل الرسمي والمنظّم، حسب قراءات لعدد من الخبراء والمحللين.
فالخبير الاقتصادي والأكاديمي الرواندي تيدي كابيروكا اعتبر أنّ "مؤسسات التأمين التكافلي ليست سيئة في حدّ ذاتها، لكنها محدودة ماليا في ما يتعلق بشروط الإقراض، وهذا ما يفرض ضرورة وضع آليات تربط التأمين التكافلي بالبنوك التقليدية، من أجل مصلحة المشتركين والاقتصادات الوطنية، وذلك عن طريق إدراج معاملاتها المالية في الدوائر العادية الخاضعة للضريبة".
من جانبه، حذّر أريال أغبوهوي، خبير الإحصاء والقروض الصغيرة في بنين، من بعض المخاطر بالقول "يمكن لأي شخص أن يصبح بين عشية وضحاها مؤمّنا تكافليا دون الحاجة إلى تفويض رسمي، وهذا ما قد يترتب عنه إشكالات عديدة، أبرزها إمكانية تعرّض المؤمّن للسرقة بما أنه يحمل سيولة قد تثير أطماع اللصوص، علاوة على درجة المصداقية التي يتمتّع بها المشتركون، إذ يحدث وأن يختفي البعض منهم أو ينسحبون قبل دفع ما يستحق عليهم".
وظهرت جمعيات التأمين التكافلي في إفريقيا بشكلها الحديث لأول مرة في نيجيريا عام 1952، في حين يعود هذا النظام المالي غير الرسمي في بقية أنحاء العالم وتحديدا في اليابان، إلى 1275، بحسب دراسة أجراها في الغرض "مركز التنمية الشامل والبحوث" وهو مجموعة بحثية دولية مستقلة.